قوافل الموت بين معتقل ايفين وتدمر

2020.02.04 | 23:01 دمشق

2222.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الأسطر الأخيرة لروايته المهمة قافلة الإعدام، يتحدث بهروز قمري المعتقل السياسي اليساري، عن لحظة خروجه من المعتقل.

((أنزلوني عند الحديقة التي كان الأهل ينتظرون فيها، لينادى بوقت زيارتهم،

اقتربت مني إحدى الأمهات

كيف الوضع في الداخل، سألتني

"نحن بخيرٍ في الداخل" قلت

وفجأة أدركت أنني لم أعد أنتمي إلى تلك النحن))

بالطبع بهروز خرج من المعتقل بعد أن كاد السرطان يودي به، وكان في ميعة شبابه، وبعد أن تلقى حكماً مبرماً بالإعدام، وبعد أن ودَّع مئات الشباب، الذين سيقوا إلى حبل المشنقة، لمجرد معارضتهم لنظام الملالي، هنا نجدنا أمام لحظة قطعٍ حادةٍ مع الماضي الأسود، المليء بالقيح والقيء والدم، والموت الجاثم على الصدور، ما إن تطأ قدماه بوابة السجن، حتى يشعر أنه لم يعد ينتمي إلى تلك النحن.

وفي سرده المفصل البارع، يمر قمري على صور متنوعة وغنية، غنى الحياة التي يستدعيها من ذاكرة الأصحاب الذين يكتب عنهم، والذين يكملون البناء الدرامي لرحلة السجن والسجين، عن الثقافات المتنوعة في إيران، عن سجون وعدت الثورة أن تحولها إلى متاحف، فاستمرت تستخدمها للقتل، والفتك بمواطنيها المعارضين كما كانت أيام السافاك، عن ولعه وولع أصحابه بموسيقى الفنلندي سيبيلوس، وموسيقى النمساوي غوستاف مالر، واستمرارهم بدندنتها كما يفعل السجناء دائماً، إنهم ينحتون من العتمة مشاعل يضيئون بها عالمهم الموحش، وينسجون من أبسط الأدوات والأشياء والذكريات، والأحلام قلاعاً تقيهم غيلة الانهيار.

وسيظهر آية الله منتظري، الذي كان يجاهر بإدانته لتفشي استخدام القتل والشنق، في إخماد المعارضين، الأمر الذي أفضى إلى تدخله في إطلاق سراح قمري، ليكمل علاجه ويتابع حياته، بعد أن كان على شفير الهلاك، بين فكي حكم الإعدام وبراثن الموت بالسرطان.

تعدد الأصوات واختلافها في جسد نظام الملالي لن تجده في سوريا على مدى ستين سنة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة

تعدد الأصوات واختلافها في جسد نظام الملالي، لن تجده في سوريا على مدى ستين سنة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وصوت قائدها الملهم، حتى أحزاب الجبهة التقدمية، والتي يفترض أنها أحزاب مستقلة، لا يخرج دورها عن دور الكورس المؤدي، خلف المغني الرئيسي.

ومع كل سرديته للوحشية المفزعة، التي تدار بها هذه السجون الإيرانية وسجنها الأفظع "سجن ايفين" أجده يتحدث عن عالمٍ مغايرٍ كلَّ المغايرة، عن سجون ألفناها في ظل نظام الأسد الأب، وستكون هذه المغايرة غير قابلة للقياس لهولها، في ظل الأسد الابن، القتل ذات القتل، وبنسب جدُّ مقاربة، فقد أوردت التقارير أنه في كل أربع ساعاتٍ، يتم قتل معتقلٍ سياسيٍ في إيران، ذات النسبة أو أكثر قليلاً في سجون الأسد الأب، فبين عامي ثمانين وتسعمئة وألف، وتسعين وتسعمئة وألف، تم قتل ما يزيد عن خمسةٍ وعشرين ألف مواطنٍ سوري، معظمهم قتل على الشبهات، وعبر محاكم ميدانيةٍ صوريةٍ، لا تمت إلى القضاء بأية صلة.

أما في شطر التعذيب، فيتحدث عن الصفع والركل واللكمات، بينما تعد هذه في سجون الأسدين، أشبه بغبارٍ يلحق الناظرَ البعيد إلى فوهة بركان ينفجر.

لقد كانت ساحات تدمر مفتوحةٍ على جحيم تعذيبٍ مديدٍ، لا يتوقف ليل نهار، على مدى سنوات طوال، قضى فيه المئات وربما الألوف تحت التعذيب، والتفنن في أشكالٍ منه مبتكرة، يمتلك نظام الأسد وحده براءة ابتكارها، مضافة إلى ما تعلمه من عتاة المدربين الروس، الذين طالما سمعنا أصواتهم وهم يشرفون على التعذيب في ساحات تدمر.

هذه المقارنة ليست تخفيفاً من هول الإجرام، الذي يرتكبه نظام الملالي في إيران، وفي غيرها، لكن لا يستطيع الإنسان عند النظر إلى أنموذجين، أو تجربتين إلا أن يقارن بينهما، وهو فعل لا إرادي يقترفه العقل بتلقائيةٍ محضة.

هذا في شطر التعذيب والقتل وحسب، أما في العالم الداخلي للسجناء، فيبهرك هذا التشابه الجوهري، في الإصرار العنيد على خلق المعنى، ولو بأبسط الأدوات، لتبرر الصمود بوجه الموت، فممارسة الكلام وسرد الحكايات وتذكر الموسيقى ومحاولة الغناء، ونسج الأشعار وبناء الأحلام، وحتى التهكم والسخرية الحادة، كلها تشكل عالماً غنياً يضج بالحركة المقاومة، التي لا تعاند قرارات الإعدام وحسب، إنها لا تعترف بوجودها أصلاً.

ففي سجن تدمر، بعد أن تكررت حفلات الإعدام الأسطورية، التي كانت في بداياتها تحفل كل أسبوعٍ بمئة وخمسين جثة، ممن كانوا بيننا منذ ساعات، كنا وبعد سويعاتٍ قليلةٍ، نعود لأنشطتنا من تداول لقصص الأدب وكتابة الشعر، وتعلم التاريخ والسياسة وغيرها، وإعداد المسرحيات، وحتى بناء سيناريوهات الخروج واللقاء بالأهل والأصدقاء.

لكننا بالرغم من كل ما حصل ويستمر في الحصول،

فنحن لسنا بخير، وسنبقى ننتمي لهذه النحن ما بقينا،

لم يعد هناك متسع للانفصال.