icon
التغطية الحية

قناديل سوريا.. أبو خليل القباني (2)

2022.05.13 | 09:22 دمشق

qbany-_tlfzywn_swrya.jpg
أبو خليل القباني (نادر قدور)
+A
حجم الخط
-A

ثمة رواد لأجناس أدبية، أو فنون، تقتصر أهميتُهم على الريادة، أي أن يكون هذا الرجلُ أولَ من أبدع – تاريخياً - في هذا الجنس أو الفن، بينما أعمالُه قليلة الأهمية، وسرعان ما يُنسى، ولا يُذكر إلا حينما يتطرق الكلام إلى الريادة. على عكس الرائد أبي القباني (1842- 1903) الذي يجمع بين الريادة، والأهمية، و(المعلمية)، والدليل أن أعماله ما زالت تملأ الدنيا وتشغل الناس، بعد مضي 180 سنة على ميلاده، و119 سنة على وفاته.

تحول إلى فولكلور

مما يلفت النظر أن أغاني أبي خليل القباني قد تحولت، من كثرة ما أحبها الناس، عبر السنين، وغنوها، وترنموا بها في خلواتهم، إلى فولكلور، وهذا النوع من الأغاني التي تبلغ هذه الشعبية كلها، يتحقق بشرطين أساسيين، الأول هو الكلمات الجميلة، السهلة، المرتبة على نحو متناغم، والثاني هو اللحن الذي لا يشترط أن يكون بسيطَ التركيب، بل أقرب إلى مفهوم السهل الممتنع.

لاحظنا، في الجزء الأول من هذه المقالة، أن معظم المطربين الذين اقتبسوا أغاني أبي خليل كتبوا في شروحاتها عنها عبارات من قبيل: شعر قديم، لحن قديم، فولكلور سوري.. ولا شك أن بعضهم يكتبونها عن جهل بأصل الأغنية، وتاريخها، ولكن هل يعقل ألا يعرف المعلم الكبير صباح فخري أن موشح "ما لعيني أبصرت" أو "يا مال الشام" أو "يا طيرة طيري" من إبداع أبي خليل القباني؟

 بالذي أسكر

يمكننا أن نأخذ مثالاً؛ موشح "بالذي أسكر من عذب اللمى":

1- بالذي أسكرَ مِن عذب اللَّمى

كلَّ كَأس تحتسيها وحَبَبْ

2- والذي كحلَ جفنيكَ بما

سَجَد السحرُ لديه واقتربْ

3- والذي أجرى دموعي عَندما

عندما أعرضتَ من غير سببْ

4- ضع على صدري يمناكَ فما

أجدر الماء بإطفاء اللهبْ

لنتوقف عند العناصر الجمالية المتوفرة في هذه الأبيات القليلة:

  • أولاً- البيت الرابع، وهو بيت القصيد، يستند كلية إلى الأبيات الثلاثة الأولى. فحرف الباء في مطلع البيت الأول، هو (باء القَسَم)، أي: أستحلفك، أيها الحبيب، بالذي أسكرَ، وبالذي كحل، والذي أجرى،.. أن تضع يدك اليمنى على صدري، فهي الماءُ الذي يطفئ لهيبه.
  • ثانياً- من جوازات البلاغة في الشعر الغنائي وضعُ المخاطَب المذكر مكان المخاطب المؤنث، وهكذا يكون المعنى: أستحلفكِ بأغلى ما عندكِ أن تضعي يمناكِ على صدري لتطفئي لهيب ناري.
  • ثالثاً- حرصاً من أبي خليل على سلاسة قصيدته وعذوبتها، يقلل من استخدام الكلمات التي تحتاج إلى شرح، فلا تجد فيها سوى كلمات قليلة، مثل اللمى، وهي السُمرة أو بعض السواد في الشفة التي تزيدها جاذبية، والعَندم، وهو الدم.. والحَبَب ما يطفو على سطح الكأس من فقاقيع.. وهي مفردات تفهم من السياق بسهولة.

اقتباسات كثيرة

وما دمنا قد توقفنا عند موشح "بالذي أسكر"، تعالوا نبحث عنه في أغاني الآخرين، ما يؤكد لنا أن الموشح قد تحول إلى تراث فني لا يشار إليه في سوريا وحدها، بل في كل مكان من بلاد العرب:

1- المطرب الكبير صباح فخري قدم موشح "بالذي أسكر" كما هو.

2- المطرب سيد الصفتي (1867- 1939)، غنى موشح "بالذي أسكر"، وقد نُشرت أسطوانة هذه الأغنية على اليوتيوب مرفقة بمعلومة خاطئة، وهي أنه من كلمات لسان الدين "خطاب". لعله قصد "الخطيب". وهذا خطأ على كل حال.

3- الأخوان الرحباني أدخلاه ضمن موشح جادك الغيث، دون الإشارة إلى أبي خليل، فجاء النص كما تغنيه فيروز على النحو الآتي:

فــي ليــالٍ كَــتَمَتْ سـرَّ الهـــــــــــوى، بــالدُّجى لــولا شُـمُوسُ الغُـرَرِ

مــالَ نجــمُ الكـأسِ فيهــا وهَــــــــوَى، مســـتقيمَ السّــيْــرِ سَــعْدَ الأَثَــرِ

حـين لـذَّ الأُنسُ شـيئاً أَو كما، هجمَ الصُّبْحُ هجـومَ الحـرَسِ

غــارتِ الشُّــهْــــــــــــبُ بنــا أَو ربّمـا، أَثّــرتْ فينــا عُــــيــونُ النرجــسِ

بالذي أسكرَ مِنْ عَذْبِ اللمى، كُلَّ عَذبٍ تحتســـــــــــــــــيه وحَبَبْ

والذي كَحَّلَ جفنيـــــــــــــــــــــــك بما، سَجَـــــــــــــــــــدَ السحرُ لديه واقتربْ

والذي أجرى دموعي عِنْدما، عِنْدَما أعرضتَ من غير سببْ

ضَعْ على صدري يمناكَ فما، أجــدرَ المـــــــــــاءَ بإطفاء اللهبْ

يـا أُهيْـلَ الحـيّ مـن وادي الغَضَــــــــــــــــــــــــا، وبقلبـــي مَسْـــكَنٌ أَنتـــم بــهِ

ضـاق عـن وجـدِي بِكُم رَحْبَ الفضا، لا أبــالي شــرقَهُ مــن غربــهِ

أحورُ المقلــةِ معســولُ اللّمـى، جــالَ فــي النّفـــــــــــــــس مجــالَ النّفَسِ

ســدّدَ السّــهمَ فأصْمى إذ رمــى، بفـــؤَادي نبـــــــــــــــــــــــــــلـــة المفـــترسِ

ويبدو أن الأخوين رحباني لم يستعذبا كلمة (عَنْدَما)، فجعلاها: عِنْدما.

4- في فيلم ليالي الحب، إخراج حلمي رفلة 1955، يغني عبد الحليم حافظ، من كلمات فتحي قورة وألحان محمود الشريف، أغنية كوميدية، بعنوان "يا سيدي أمرك"، تقول كلماتها:

يا سيدي أمرك، أمرك يا سيدي

ولأجل خاطرك، خاطرك يا سيدي

مقدرش أخالفك، لأني عارفك، تقدر تحط الحديد في إيدي

بالذي أسكرَ من عذب اللمى.. كانْ في حاله، جَتْلَو بَلوه من السما

والذي أجرى دموعي عِندما، كان حَ يبعتني لأقرب محكمَه

مبسوط يا سيدي؟

5- قدمت فرقة الموسيقا العربية، بقيادة عبد الحليم نويرة موشح "بالذي أسكر" ضمن مجموعة من الموشحات المتنوعة.

مسرح القباني

من الصعب، في اعتقادي، تجزئة النشاط الإبداعي الذي أنجزه أبو خليل خلال حياته، فقد كان رجلاً يشبه الموسوعة التي يحتشد فيها الشعر، والأنغام، والإيقاعات، والصوت، والأداء، والثقافة العالية، ويعرف كيف تتناغم هذه الفنون كلها حينما تُقَدَّمُ لجمهور من النظارة على المسرح، أو "المرسح" بلغة ذلك العصر.

يشير الموسيقار "سهيل عرفة" في مداخلة له ضمن ندوة أقيمت في دمشق، أن القباني كان يتردد على حلقات الموسيقا، والإنشاد، والموالد، فضلاً عن حضوره الكثير من المسرحيات في مدرسة العازرية بباب توما التي كانت تقدمها بعض الفرق المسرحية اللبنانية على مسارح دمشق، وأن أول مسرحية مثلها مع فرقته كانت في بيت جَدّه عام 1871، وشاهدها والي دمشق صبحي باشا، فشجعه على تأسيس فرقة مسرحية وتقديم عروضه خارج البيوت.‏

وأخيراً؛ من مهارات أبي خليل القباني التي قلما يشير إليها النقاد، مقدرته على إدارة أعماله الفنية، وحماية أفراد فرقته، والوقوف في مواجهة المجتمع الذي اعتاد على مقارعة الإبداع الجديد بشكل عام. فكان، كلما تعرض لأزمة، ينقل مسرحه إلى حي آخر، أو إلى مدينة أخرى (بيروت- القاهرة)، ويعود في كل مرة إلى دمشق التي كانت تحبه كثيراً، وتعامله بالجفا أحياناً. وكان، حيثما يحل، يحاول أن يتعلم ما لا يعرف، ولكنه، سرعان ما يكون هو المعلم، والمرجع، والقدوة.