icon
التغطية الحية

قناة إسطنبول الجديدة.. بين طموحات تغيير الخريطة الجيوسياسية واعتراضات المعارضة

2021.07.02 | 11:24 دمشق

kanal-istanbul-sozcu_16_9_1598784605.jpg
إسطنبول - صالح عكيدي
+A
حجم الخط
-A

ضمن أجواء شعائرية احتفالية، ومعارضة غير مسبوقة بحدتها على المستوى السياسي والشعبي، وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ظهيرة يوم السبت 26.06.2021، حجر أساس أول جسور "المشروع الجنوني" - قناة إسطنبول، كما باتت تعرف في البلاد.

متوسطاً رجالات دولته من الصف الأول، أشار أردوغان إلى عشرات آلاف السفن التي تمر من مضيق البوسفور سنويا، وما تحمله من أخطار تهدد بشكل مباشر سكان المدينة، واصفاً مشروع قناة إسطنبول بـ "مشروع إنقاذ مستقبل إسطنبول". وذكّر بحوادث السفن في المضيق، التي أثارت ذعر أهالي إسطنبول خلال القرن السابق، موجها خطابه إلى أبناء الجيل الحديث في تركيا، الذي طالبهم بالاطلاع على ما حققته السلطة التركية في الـ 20 سنة الماضية.

 كما وجه رسائل حاسمة باستمراره في المشروع مهما اشتدت المعارضة، مذكراً المعارضين بكل المشاريع العملاقة التي عارضوها بشدة، ونفذها رغم ذلك، مثل مترو أنفاق "مرمرة" -الذي يصل بين قارتين عبر أسفل البحر، وجسر "ياووز سليم" المعلق -على أعمدة بارتفاع مماثل لبرج إيفل، قائلا: "لو استمعنا إليكم لما نُفذ أي من هذه المشاريع". 

بعد الخطاب، انتقل مكبر الصوت لرئيس الشؤون الدينية (الأوقاف) "علي إيرباش" الذي تلا الأدعية بمناسبة وضع حجر الأساس، قبل أن يضغط أردوغان ورفاقه على الأزرار التي أطلقت العنان للمضخات الإسمنتية، معلنةً عن وضع حجر الأساس، وسط أجواء احتفالية.

خلفية تاريخية

تعود فكرة إنشاء قناة مائية بديلة لمضيق البوسفور، حتى فترة الإمبراطورية الرومانية، ومرورا بالعديد من السلاطين العثمانيين، بحسب مؤرخين أتراك. إلا أن القناة كانت تمتد في المخططات التاريخية عبر الطرف الآسيوي، بدءا من دلتا "سكاريا"، مرورا ببحيرة "سكاريا"، ووصولا إلى خليج "إزميت". وكان الهدف من فكرة شق القناة حينذاك، تأمين نقل الأخشاب من غابات "سكاريا" إلى إسطنبول.

في عام 1923، وبعد الكفاح التركي ضد احتلال دول الحلفاء، جلس الأطراف على طاولة المفاوضات ووقعت اتفاقية لوزان، التي بموجبها نالت الجمهورية التركية الحديثة الاعتراف الدولي، برئاسة مصطفى كمال أتاتورك. حينذاك، كان ملف "المضائق" (الدردنيل، بحر مرمرة، البوسفور) من الملفات التي خسر فيها الأتراك. إذ بموجب الاتفاقية، أديرت المضائق عبر لجنة دولية، واعتبرت الأراضي البرية المحيطة بالمضائق مناطق منزوعة السلاح، لتقيد بذلك السيادة التركية على المضائق.

 

Black_sea_Map-Masry.png

 

عام 1936، استغل الدبلوماسيون الأتراك، التغير بالموازنات الدولية والمتمثل بصعود التهديد النازي والفاشي، لإعادة صياغة الاتفاقية السابقة فيما يخص المضائق. واستطاعوا حينذاك، عبر اتفاقية مونترو، استعادة السيادة التركية على المضائق، فأصبحت الحكومة التركية الجهة الوحيدة التي تدير المضائق، ونشرت قواتها العسكرية على ضفافها.

وضمنت الاتفاقية العبور الحر لكل السفن التجارية الدولية عبر المضائق مقابل أجور رمزية، وضيقت عبور السفن العسكرية للدول التي لا تطل على البحر الأسود. بالإضافة إلى اعترافها بحق تركيا بتضييق أو إغلاق حركة السفن التجارية أو العسكرية حين تكون في حالة حرب، وفق إطارات لا يتسع المقال لذكرها.

كما يتضح من عناوين الصحف التركية يوم توقيع اتفاقية مونترو، احتفل الأتراك يومئذ بما سموه "نصر مونترو".

بحسب السجلات الرسمية للحكومة التركية، فإن متوسط السفن التجارية التي كانت تعبر سنويا عام توقيع اتفاقية مونترو -التي ضمنت حقهم في العبور، لم يتجاوز الـ 3000 سفينة، وأطوالها لم يتجاوز الـ 50 مترا. واستنادا إلى السجلات نفسها، فإن المتوسط السنوي لعبور السفن تمر عبر البوسفور اليوم بلغ الـ 43,000، وأطوالها يتجاوز الـ 300 متر.

خلال السنين، مع الزيادة الكبيرة لعدد السفن التي تمر من البوسفور وحجمها، ازدادت احتمالات وقوع حوادث الاصطدام، التي شكلت مصدر أرق دائم لسكان إسطنبول، بما تحمله من تهديد مباشر لسكان ضفاف البوسفور، أو أخطار تلويثه. إذ يقدر أن 20% من السفن التي تعبر البوسفور تحمل مواد خطيرة.

وبالفعل على مدار السنين وحتى اليوم، حدثت عشرات حوادث السفن، كان أبرزها ذلك الملقب بحادث "إندبنتا". ففي عام 1979 اصطدمت سفينة "إندبنتا" الرومانية والتي تحمل 96 طنا من البترول الخام، بسفينة يونانية تحمل العلف. تسبب الحادث بمقتل 44 من البحارة، وانسكاب ما يقارب الـ 75 طن من البترول في مياه البوسفور، بالإضافة إلى حريق مروع في السفن ظل مشتعلا لما يقارب الشهر. ذلك عدا الأضرار التي تعرضت لها العديد من البيوت القريبة من موقع الحادث.

 

tanker-faciasi_985.jpg
صورة مأخوذة من نشرة صحيفة "ملييت"، تظهر حريق حادث "إندبنتا"

 

أما أبرز الحوادث خلال السنوات الأخيرة، فكان حين اصطدمت سفينة بطول 225 مترا بأحد منازل إسطنبول التاريخية على ضفة البوسفور، عام 2018، وتجاوزت الخسائر المادية مبلغ 200 مليون ليرة تركية.

 

636588521479733450-gggggggggggggggggggggg.jpg

 

عام 1985، طرح أحد مستشاري وزير الطاقة حينذاك، في مقال نشر في مجلة علمية، فكرة شق قناة مائية بديلة للبسفور، في الموقع المخطط له اليوم، للحد من المخاطر المتصاعدة الناتجة عن كثافة مرور السفن. ومن عجائب المصادفة، أن أول من تبنى الفكرة من السياسيين ضمن برنامج انتخابي، كان مرشح رئاسة البلدية "نجدت أوزكان" خلال انتخابات 1994 المحلية، والذي خسر فيها لصالح المرشح "رجب طيب أردوغان"، الرئيس الحالي والذي تبنى المشروع بقوة منذ طرحه له علنا لأول مرة عام 2011.

تفاصيل المشروع

تعتزم الحكومة التركية بعد سنوات من التخطيط والمناورات السياسية، شق "قناة إسطنبول المائية" بطول يقارب الـ 45 كم، وعمق 21 متراً، وعرض 275 متراً في أضيق نقطة. لتصل بين البحر الأسود شمالاً وبحر مرمرة جنوباً، ضمن القسم الأوروبي وعلى موازاة مضيق البوسفور الشهير. وستمر القناة عبر المسطح المائي لسد "سازلي دره"، ثم عبر بحيرة "كوجوك جكمجة".

 

image_1616743084_vjdSDgJ63LBUfdjTefTTIiWHZ344pjsOlNaXsPAA.jpeg
نهاية بحيرة كوجوك جكمجة عند الطريق الرئيسي E-80

 

سيشمل المشروع بالإضافة إلى شق القناة، إنشاء موانئ تجارية وسياحية، ومراكز لوجستية، ومنتجعات ترفيهية، ومناطق سكنية على ضفتي القناة، بكلفة تصل إلى 15 مليار دولار، بحسب المصادر الرسمية.

 

Picture4.jpg

 

وتستند الحكومة في عزمها على المضي في المشروع، إلى الازدحام الشديد في البوسفور، حيث يصل متوسط السفن التي تعبر البوسفور سنويا إلى 43،000، ومتوسط انتظارها 14,5 ساعة وقد تصل إلى أسبوع عند سوء الأحوال الجوية، ما عدا السفن التي تقطع البوسفور ذهابا وإيابا لإيصال سكان إسطنبول إلى الضفة المقابلة.

وترى الحكومة التركية أن وقوع كارثة في المضيق هي مسألة وقت إذا لم يتم شق قناة مائية أكثر أماناً، مستندة إلى تاريخ من حوادث مروعة لاصطدام السفن، راح ضحيتها عشرات البحارة، وسببت بانسكاب أطنان من الوقود في مياه المضيق. ورغم أن القناة المعتزم إنشاؤها أضيق بكثير من البوسفور الذي يتجاوز عرضه في أضيق نقطة 690 مترا، إلا أن الحكومة تدعي أن القناة المحدثة ستكون أكثر أمانا بـ 13 مرة من البوسفور، لكون زوايا التفافها أقل حدة، وازدحامها أخف.

 

Picture5.jpg
سفن تنتظر دورها للعبور عبر المضيق

 

"إما القناة أو إسطنبول"

لطالما شكلت مشاريع أردوغان العملاقة محاور للجدالات، حيث يتساءل المعارضون عن جدواها الاقتصادية، مدعين أنها لا تتعدى كونها أدوات "بروباغندا" سياسية أو "هوسا شخصيا وغير عقلاني" لأردوغان. ويراها المؤيدون دليلا ورمزا للنهضة والتطور في إطار سياسات السلطة الناجحة.

إلا أن حجم الجدال، وحدة المعارضة لمشروع قناة إسطنبول وصل إلى مستويات تتجاوز كل ما سبق في المشاريع السابقة، مجتمعةً ربما. بما يتناسب طردا مع ضخامة المشروع الطموح وكلفته العالية. ولما سيترك المشروع من أثر عظيم على أكبر مدن تركيا بيئيا وعمرانيا، بل ربما على الموازنات الإقليمية والدولية.

 

kapak_171219.jpg
"إما القناة أو إسطنبول" علقت من قبل معارضين في موقع إطلاق المشروع

 

من الأسباب الاقتصادية والبيئية، وصولا إلى التخوفات الدبلوماسية، تتعدد أسباب المعارضة الشديدة لمشروع أردوغان الذي يفضل أن يلقبه بـ "مشروع القرن". ويقول "أكرم إمام أوغلو"، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى وأحد أبرز معارضي المشروع، إن إسطنبول قالت "لا" للمشروع، إذ صوتت له في الانتخابات الأخيرة وكان على رأس برنامجه الانتخابي "بذل الجهود لمنع شق قناة إسطنبول".

اقتصاديا، يتساءل المعارضون عن جدوى شق قناة بحرية لن تختصر أي مسافة، بل بالعكس تعد أطول وأضيق من مضيق البسفور الطبيعي. ويشككون بالمبلغ المرصود للمشروع، إذ برأي العديد من الاقتصاديين كلفة المشروع تتجاوز أضعاف الكلفة المطروحة رسميا، وتصل إلى 65 مليار دولار، بحسب ما ذكر في صحيفة "الغارديان" البريطانية. كما يتساءل المشككون عن الآلية التي ستمكن الحكومة من إجبار السفن على العبور من القناة المحدثة، بوجود حقهم -المكفول باتفاقية مونترو- بالعبور من المضيق، من دون تهديد الاتفاقية الدولية المذكورة سابقا.

دبلوماسيا، يرى العديد من خبراء الدبلوماسية التركية المعارضين لفكرة المشروع، أن إنشاء القناة سيفتح باب الجدال بخصوص اتفاقية مونترو، والتي برأيهم لا تحمي فقط السيادة التركية على المضائق، بل تؤمن سلام واستقرار البحر الأسود بالكامل. إذ لا يمكن للدول التي لا تنتمي إلى البحر الأسود، وفق الاتفاقية، عبور المضيق بالسفن العسكرية إلا عبر الإخطار المسبق قبل العبور بـ 14 يوما لتركيا، وحتى حين الإخطار يمنع عبور أي سفينة يتجاوز وزنها الـ 15 ألف طن (يعني لا تمر منها حاملات الطائرات)، ولا يمكن لمجموع أوزان السفن أن يتجاوز 45 ألف طن.

والأهم من كل ما سبق، لا يمكن لتلك السفن البقاء في البحر الأسود أكثر من 21 يوماً، لذا فإن الإبقاء على اتفاقية مونترو قضية محورية لروسيا، التي سبق أن أكدت عبر سفيرها في تركيا أن قناة إسطنبول "لن تؤثر على اتفاقية مونترو".

في حين تتبنى الحكومة التركية رأيا مشابها للروس، يرى المعارضون أن وجود القناة المحدثة سيكون فرصة لقوى كبرى مثل أميركا للضغط من أجل تعديل أو إلغاء الاتفاقية. وفي هذا الصدد، كان قد نشر 126 دبلوماسياً تركياً متقاعداً عريضة تعترض وتحذر من "خطأ" شق قناة إسطنبول لما فيها من تهديد لمصالح تركيا والموازنات الإقليمية والدولية. كما نشرت عريضة تتشابه بالمحتوى والموقف موقعة من قبل 104 جنرالات بحرية تركية متقاعدة.

بيئيا، اعترضت العديد من المنظمات البيئية والعالميةـ مثل الجناح التركي من منظمة (WWF) البيئية، على مشروع قناة إسطنبول، لأسباب يمكن اختصارها بما سيلحقه المشروع من أضرار للغابات ولبحر مرمرة ومن ثم للحياة البرية فيهما، بحسبهم.

إداريا، يعارض المشروع "خطة التنظيم البيئي" الصادر من مجلس بلدية إسطنبول الكبرى عام 2009 والذي يعتبر بمنزلة دستور رمزي للإعمار في إسطنبول، والذي بموجبه منع التوسع العمراني شمالاً اتجاه الغابات. وتستند الجهات المعارضة إلى هذا القانون في اعتراضها على المشروع عبر المحاكم.

مع بدء أولى خطوات المشروع الذي سيتسمر لمدة 7 سنوات بحسب الحكومة، يتساءل المراقبون عن قدرة أردوغان على إكمال المشروع وسط معارضة شديدة، وتحديات اقتصادية وإدارية، وارتباط قوي بالموازنات الدولية. فهل يحقق أردوغان "حلمه"؟ -بحسب ما وصف المشروع سابقا.