قمّة جدّة: اتفاق خليجيّ - أميركيّ على تدارك أخطاء الماضي

2022.07.18 | 05:06 دمشق

قمة جدة
+A
حجم الخط
-A

تابعتُ مثل غيري من المُهتمّين زيارة الرّئيس الأميركيّ جو بايدن في المنطقة التي بدأها من ولايته الـ 51 "إسرائيل"، مُعرّجاً لدقائق نحو بيت لحم للقاء رئيس السّلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس، ليحطّ رحاله في محطّته الأخيرة في مدينة جدّة السّعوديّة، وهي كانت محطّته الأهمّ التي جمعته للمرّة الأولى بوليّ العهد محمّد بن سلمان، وباجتماعٍ موسّع مع قادة دول مجلس التّعاون الخليجيّ وقادة مصر والأردن والعراق.

لا أقف كثيراً عند مراسِم الاستقبال والصّور التي أثارت الضجيج الإعلاميّ منذ لحظة هبوط طائرة الرّئاسة الأميركيّة على أرض مطار الملك عبد العزيز في جدّة، على الرّغم من أهميّة الرّسائل التي تحملها هذه اللقطات.

الأهم هو ما بعد هذه المشاهد من خلاصات سياسيّة وما نتج عن اللقاءات الثّنائيّة والقمّة التي جمعت سيّد البيت الأبيض بقادة دول مجلس التّعاون ومصر والأردن والعراق.

لا خلاف أنّ الرّئيس الأميركيّ تحرّك نحو المنطقة لأسباب ظاهرة ومعلومة، أوّلها طمأنة إسرائيل، ومحاولة "التحشيد" في وجه إيران بعد جولات طويلة من المفاوضات النّوويّة لم يُكتَب لها النّجاح حتّى السّاعة، بدأت قبل سنة ونصف في العاصمة النّمساويّة فيينا، ووصلت مؤخّراً إلى الدّوحة.

يُضاف إلى ما سلف السّبب الأهمّ، وهو أنّ واشنطن أدركت خطأها في الفراغ الذي تسبّبت به في عهد بايدن. هذا ما عبّر عنه الرّئيس الأميركيّ بقوله: "لن نترك فراغاً تملؤه الصّين أو روسيا أو إيران".

لم تكُن واشنطن وحدها في قضيّة الإدراك. فالدّول العربيّة، وخصوصاً دول الخليج العربيّ كانت تُدرك على مستوى قياداتها السّياسيّة الأولويّة الاستراتيجيّة لدولها.

خرجتُ بانطباعٍ أنّ مؤتمر جدّة جمَع مدرستيْن سيّاسيتيْن في قاعة واحدة: الأوّلى هي القيادات السّياسيّة التي تُمسِك بمقاليد الحُكم في الدّول العربيّة. يتقدّم هذه المدرسة وليّ العهد السّعوديّ محمّد بن سلمان، أمير دولة قطر الشّيخ تميم بن حمد، رئيس الإمارات محمّد بن زايد ورئيس وزراء العراق مُصطفى الكاظمي.

هذا المنطق عبّر عنه أمير قطر الشّيخ تميم بن حمد في كلمته مُخاطباً الوفد الأميركيّ: "لدينا في عالمنا العربيّ رأينا العام مثلما يوجد لديكم رأيّ عام".

يُدركُ جميع هؤلاء القادة أهميّة العلاقة الاستراتيجيّة بين بلادهم والولايات المُتحدة، لكن التّعامل مع دوائر القرار الأميركيّة يكمن في التعاطي بمنطق "الحلفاء" أو الأصدقاء وليس بمنطق القائد المسلوب الإرادة.

هذا المنطق عبّر عنه أمير قطر الشّيخ تميم بن حمد في كلمته مُخاطباً الوفد الأميركيّ: "لدينا في عالمنا العربيّ رأينا العام مثلما يوجد لديكم رأيّ عام".

كذلك خاتمة كلمة بن سلمان الذي قال مُخاطباً الوفد الأميركيّ أيضاً: "لن نتخلّى عن قيِمنا النبيلة التي نفتخر بها، ونتمنّى من العالم احترامها كما نحترم القيم الأخرى..".

أمّا المدرسة الثّانية، فيُمثّلها الرّئيس بايدن في المنهج التقليديّ والذي لم يُدرك بعد المنطق العميق لقادة المدرسة الأولى. ويُمكن القول إنّ الإدارة الأميركيّة لم تتعلّم الدّرس الأهم بعد.

يكمن الشّاهد على ذلك في كلام بايدن عن مساواته في العداء و"سلبيّة ملء الفراغ" روسيا والصّين وإيران في خطابه. لكن في الدّول العربيّة الأمر ليس كذلك.

لن يكون كلام الرّئيس الأميركيّ عن الصّين وروسيا ذا تأثيرٍ في الدّول العربيّة. إذ إنّ الصّين هي مستورد رئيسي لنفط السّعوديّة والإمارات والكويت والغاز الطّبيعي القطري.

أمّا روسيا فهي مصدّر سلاحٍ أساسيّ للجيشيْن العراقيّ والمصريّ. كما تجمعها علاقات لا مفرّ منها بدولة قطر بحكم تربّعهما على قائمة الدّول المُصدّرة للغاز الطبيعيّ.

أمّا العلاقة السّعوديّة – الرّوسيّة، كان كلام وزير النّفط السّعوديّ الأمير عبد العزيز بن سلمان يُعبّر بعمق عنها في معرض ردّه على سؤال عن موقف أوبك Plus عن خفض أسعار النّفط في السّوق العالميّ: "شؤون أوبك Plus تُناقش في أوبك Plus".

وكأنّه كان يقول: "لن تكون الدّول العربيّة وقوداً في الحرب الرّوسيّة - الأميركيّة، وقرار تسعير النّفط هو قرار سياديّ تُحدّده عناصر السّوق ومسألة العرض والطّلب، وليس المصالح السّياسيّة أو الانتخابيّة لرئيس الولايات المُتحدة".

بات يُمكن القول إنّ مؤتمر جدّة أسّسَ لما يُمكن البناء عليه على صعيد المؤسّسات. خصوصاً مع إقرار الرئيس الأميركيّ بخطأ الانسحاب الأميركيّ من المنطقة الذي بدأ في عهد باراك أوباما، والذي كان طوال السّنوات الماضية معرض انتقاد القيادات الخليجيّة.

هنا يكمن الجانب الأكثر أهميّة لزيارة بايدن إلى المنطقة، وهو عودة التّعاون العسكريّ مع دول مجلس التعاون الخليجيّ، في نقضٍ صريح لإدارة أوباما التي فضّلت تقليص التعاون لمصلحة التّفاوض مع إيران.

أوّل شاهدٍ صريحٍ على عودة التعاون العسكريّ والأمنيّ هو الاتفاق بين وليّ العهد السّعوديّ والرئيس الأميركيّ على مُغادرة القوّات الأميركيّة من جزيرة تيران في البحر الأحمر ومدخل خليج العقبة

أوّل شاهدٍ صريحٍ على عودة التعاون العسكريّ والأمنيّ هو الاتفاق بين وليّ العهد السّعوديّ والرئيس الأميركيّ على مُغادرة القوّات الأميركيّة من جزيرة تيران في البحر الأحمر ومدخل خليج العقبة، وذلك بعد استعادتها الرعاية المصريّة. فالجزيرة تُشرف على ممرّات بحريّة دوليّة تسمح بعبور السّفن، ومنها الإسرائيليّة المُتجهة من وإلى "إيلات".

يدخل في هذا الإطار أيضاً إنشاء فرقة مشتركة في البحر الأحمر وأخرى في خليج عمان وشمال بحر العرب تقودها السّعوديّة التي ستعمل قوّاتها مع الأسطول الخامس الأميركيّ، باستخدام سفن غير مأهولة والذّكاء الصناعي في مجال الدّفاع البحريّ.

لكنّ الإعلان الأكثر وضوحاً هو الاتفاق السّعوديّ – الأميركيّ على عودة التعاون العسكريّ ومبيعات الأسلحة والتقنيات العسكريّة المُتقدّمة. وكذلك الالتزام الأميركيّ ببناء منظومة لمواجهة الطّائرات المُسيّرة والصّواريخ الإيرانيّة.

في الخلاصة، يُمكننا القول إنّ زيارة بايدن إلى المنطقة أعادت تصويب العلاقات الأميركيّة – الخليجيّة، لكن العبرة في تنفيذ التفاهمات، والأهمّ أن يُدرك البيت الأبيض أنّ القيادات الجديدة في السّعوديّة وقطر والإمارات تحديداً تحمل طريقة تفكير مُختلفة عمّا كان عليه الأمر قبل سنوات خلت..