قضية فلسطين والسوريين

2021.05.26 | 06:57 دمشق

184007918_1735187693350211_8889251182711176485_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

اجتهدت الأنظمة العربية عموماً، وعلى مختلف أشكالها وتنوعاتها ونسب الاستبداد فيها، كما النظام السوري خصوصاً، باستهلاك المسألة الفلسطينية اجتراراً في حلّها وفي ترحالها. وفي سوريا، كان أمر اليوم الرسمي دائماً، والذي أُغرقت فيه أجيالٌ متعاقبة من السوريين، يعتمد أساساً على تركيبات مفاهيمية وتعبيرية تستند إلى مبدأ يبدو أن لا لبس فيه، وهو الالتزام بالذود عن الحق الشرعي للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وكما ضرورة السعي إلى تحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة منذ 1948.

لقد كانت القضية الفلسطينية هي قميص عثمان لتبرر الشدة في يد المؤسسة الحاكمة لمواجهة كل شاردة سياسية وواردة مطالبية للشعب السوري. وبحجة تسخير الموارد للتوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني وتعزيز النضال ضده، فقد تحمّل السوريون طوال عدة عقود، شظف العيش اقتصادياً وقمع التعبير إعلامياً ومنع الحريات مدنياً وفساد الإدارة وتهالكها، وتدني مستوى التربية والتعليم، وضعف شروط الانتماء، وفقدان المواطنة لدى الرعايا المُسيّرين والأُسراء لنظام سياسي شمولي سياسياً ومُنفلش اللبرلة اقتصادياً. وقد عرفت العقود الأخيرة عدداً من حملات الاعتقال التعسفي تحت "راية" القضية الفلسطينية لكل من يعتبرهم النظام معارضين له ولو كانوا من السوريين المنخرطين في فصائل المقاومة الفلسطينية ذاتها.

عرفت العقود الأخيرة عدداً من حملات الاعتقال التعسفي تحت "راية" القضية الفلسطينية لكل من يعتبرهم النظام معارضين له ولو كانوا من السوريين المنخرطين في فصائل المقاومة الفلسطينية ذاتها

وإضافة للتهم العبثية من صنف "وهن عزيمة الأمة"، ضم القاموس الأمنوقراطي السوري تهما تتعلق بخيانة القضية الأم، وهي نظرياً في العرف الأمني تلكم المرتبطة بملف النضال الوطني في سبيل تحرير فلسطين، أما عملياً، فهي أولاً وأخيراً، تنحصر في مصالح السلطة الحاكمة من السياسية مروراً بالأمنية وصولاً للاقتصادية. ومن سخرية القدر أن هذا الاتهام خصّ الفلسطينيين في سوريا، وهم من نازحي 1948 و1967، بالعناية المشددة وصولاً إلى العنف الموصوف، أكثر من أشقائهم السوريين الذين نالهم أيضاً نصيبهم من القمع المستند بهتاناً إلى الملف الفلسطيني. ومن جهة أخرى، فقد صار أيضاً أداة فعالة لقمع كل الفلسطينيين المنتمين إلى فصائل وطنية غير تلك الخاضعة لأوامر أجهزة الأمن أو تلك المرضي عنها من قبل القيادة السياسية.

ومع اندلاع الثورة الشعبية السلمية في سوريا عام 2011، وقبل تحولها إلى مقتلة نتيجة للعنف الذي تعرّضت له من قبل السلطة وحلفائها، برزت بعض المواقف المترددة إزاءها أو المرتابة منها لدى بعض الفصائل الفلسطينية. كما عبّرت فصائل أخرى عن دعم غير مسبوق للسلطة الحاكمة في دمشق.

قد برر بعضهم هذا الأمر إلى رغبة عند بعضهم في النأي بالنفس عن التدخل في الشأن الداخلي السوري، وصولاً إلى اعتبار أن محاباة بعض الفصائل ودفاعها عن سياسات دمشق بحق شعبها إنما تدخل ضمن تعقيدات السياسة ومآربها. وإلى جانب موقف بعض الفصائل، صُدم السوريون بمواقف بعض النخب التقدمية الفلسطينية التي اعتزلت الحق وساندت الباطل استناداً إما إلى نزعة شديدة الانغلاق مرتبطة بعدم أحقية نضال بقية الشعوب العربية في حضرة نضال الفلسطينيين، أو إلى عقيدة يساروية بافلوفية يلتقي فيها بعض اليسار وبعض العروبيين في اعتبار أن الثورات العربية بعمومها، والسورية خصوصاً، ما هي إلا جزء من مؤامرة إمبريالية لإضعاف خط "المقاومة والممانعة".

لقد مرّت فترة من الزمن شعر خلالها من يؤمن من السوريين بوحدة المصير مع الفلسطينيين وبتقاطع أهداف كل الثورات التي تهدف للتحرر من الاستعمار كما من الاستبداد، بقلق نسبي مردّه إلى إمكانية أن تؤثر مثل هذه المواقف غير المحمودة المذكورة في أعلاه على مكانة القضية الفلسطينية لدى عامة الشعب. فإن كان التمسك بها ما زال قوياً وراسخاً لدى النخبة الثقافية المعارضة للاستبداد، وبعيداً عن نفاق النخبة أسيرة الاستبداد، فمن الممكن أن تتأثر العامة تراجعاً عن موقفها التضامني، الفعلي وليس المفروض، بأحاديث الإعلام خصوصاً في زمن سطوة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على بنية العقل العربي عموماً. ولعل الأحداث الأخيرة في القدس وفي غزة قد فنّدت هذا القلق وتجاوزته.

بالرغم من التغريبة السورية ومن الهم السوري ومن الشتات السوري الهائل، إلا أن الانحياز إلى الحق المشروع في التحرر الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي بدا وكأنه جزءٌ لا يتجزأ من الالتزام الوطني بالحق السوري بالتخلص من الاستبداد ومن القهر

لقد برز تضامن سوري عفويٌ غير مؤطر وغير مصطنع وغير موجّه أمنياً أو سلطوياً بقضية عادلة لا يمكن أن يتخلى عنها ذي ضمير. ويمكن اعتبار هذا الموقف هو الأكثر تعبيراً حقيقياً عن أهمية القضية الفلسطينية في الوعي السوري المتحرر من كل أشكال الاستغلال والتوجيه والتلاعب. وبالرغم من التغريبة السورية ومن الهم السوري ومن الشتات السوري الهائل، إلا أن الانحياز إلى الحق المشروع في التحرر الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي بدا وكأنه جزءٌ لا يتجزأ من الالتزام الوطني بالحق السوري بالتخلص من الاستبداد ومن القهر.  

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن وحدة المصير وتشابك الأهداف ليست عبارات خشبية لطالما لفظها الوعي المتحرر عند خروجها من فم السلطة. وعلى العكس، فالالتزام بالقضية الفلسطينية أثار رعب وخوف بعض الأنظمة التي وجدت بأن ثورات الربيع العربي لم تترجم الرغبة في التحرر من استبدادها فحسب، بل هي جاءت كجزء من السعي إلى بناء مشروع قومي تحرري لطالما شوهته الأنظمة استغلالاً. وما الثورات المضادة إلا جزء من سياسات بعض المستبدين الذين تكاتفت جهودهم مع مسارات التطبيع التي لا تحترم إرادات شعوبها ولا حقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة حقوقه.