icon
التغطية الحية

قصيدة واحدة تصنع شاعراً

2025.09.27 | 10:04 دمشق

آخر تحديث: 27.09.2025 | 10:06 دمشق

568585
بسمة شيخو
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- في عالم الشعر، لا تُعتبر غزارة الإنتاج معيارًا للجودة، حيث أن شعراء مثل دوقلة المنبجي وابن زريق البغدادي خُلّدوا بقصيدة واحدة فقط، تميزت بقصص درامية ومعانٍ عميقة.
- دوقلة المنبجي كتب "الدعدية" عن الحب والخيانة، بينما ابن زريق كتب "لا تعذليه" عن تجربته المريرة في الأندلس، مما جعل قصائدهما خالدة.
- عبد يغوث الحارثي كتب عن شعوره بالذل بعد أسره، مما يُظهر أن الشعر الحقيقي يعتمد على الجودة والقدرة على التعبير بصدق.

ضمن حمى النّشر والتّفاخر بعدد المؤلفات الكثيرة والدّواوين الشّعرية المتراكمة لشعراء ربما لا يعرفهم الكثيرون، ولا يبقى من شعرهم بيتٌ واحد يُذكّر بهم بعد وفاتهم، ولا مقطعًا يحفر بإبرة المعنى عميقاً في الذّاكرة، فقصائدهم تُنسى ما أن ينتهوا من إلقائها، فلا صورة شعريّة تخلد في ذهن المتلقي، ولا شعور صادق يحرّك وجدانه فلا ينساه، وذاك يجعل الشاعر يزيد في الكتابة أكثر فأكثر لئلا ينسى ويصمت صوته، دون أن يعرف وصفة الخلود.

وهنا يطرق باب ذاكرتي شعراء لم يصل من أيّهم سوى قصيدة واحدة عاشت أعواماً طويلة، وأكاد أجزم أن ما منحها هذا العمر الطويل، والوميض الذي لا يخبو، ليس جماليتها الفنية وتقنياتها العالية وصورها السّاحرة، بل القصة التي تحملها على ظهرها، قصة مليئة بدراما غير قابلة للضياع بين القصص العاديّة والانصهار بنار الأحداث اليومية المكررة.

تقول الحكاية أن ابنة أحد أمراء نجد واسمها دعد كانت شاعرةً بليغة، وأميرةً فاتنةَ الجمال، رفضت الزّواج إلا برجل أشعر منها، فنظم دوقلة المنبجي قصيدته اليتيمة التي تسمى "الدعديّة" وركب ناقته قاصداً نجد، في الطريق مرّ برجلٍ من العرب فسأله عن حاله فأخبره عن وجهته وأطلعه على القصيدة، فقتله الرّجل وحفظ القصيدة، وذهب إلى الأميرة ليخطبها فسألته: من أي الدّيار أنت؟ فأجاب من العراق، فلما سمعت القصيدة رأت بيتًا يدلّ على إن قائلها من تهامة والبيت هو:

إن تتهمي فتهامة وطني\ أو تنجدي يكن الهوى نجد

فصرخت بقومها: هذا قاتل زوجي فقبضوا عليه، واستنطقوه، فاعترف.

ودوقلة هو الحسين بن محمد المنبجي، وهو شاعر مغمور، تنسب إليه القصيدة المشهورة باليتيمة، ووقعت نسبتها إليه في فهرست ابن خير الأندلسي وهنا بعض الأبيات من الدعدية والتي يقول النّقاد أنه برع بالوصف والغزل حتى كادوا يرون دعد وجمالها:

لهفي على دعد وما خُلقت\ إلا لفرط تلهفي دعد

بيضاء قد لبس الأديم بها\ء الحسن، فهو لجلدها جلد

ويزين فوديها إذا حسرت\ ضافي الغدائر فاحمٌ جعد

فالوجه مثل الصّبح مبيضٌّ\ والشّعر مثل الليل مسوّد

ضدان لما استجمعا حسناً\ والضّد يظهر حسنه الضد

وهنا القصيدة الأكثر شهرةً والتي تحكي قصة ابن زريق البغدادي المسماة بالقصيدة اليتيمة،(عينيّة ابن زريق) أو فراقيّته والتي مطلعها:

لا تعذليه فإنَّ العذلَ يولعهُ\ قد قلتِ حقًا ولكن ليسَ يسمعه

جاوزتِ في لَومهُ حداً أضَرَّ بِهِ\ مِن حَيثَ قَدّرتِ أَنَّ اللَومَ ينفعهُ

فاستعملي الرّفق في تأنيبه بدلاً\ من عذلهِ فهوَ مضنى القلب موجعهُ

قد كان مضطلعاً بالخطبِ يحمله\ فضيقت بخطوبِ الدهرِ أضلعهُ

يكفيهِ من لوعةِ التّشتيتِ أنَّ لهُ\ من النّوى كلَّ يومٍ ما يروعهُ

ابن زريق شاعرٌ عبّاسي بغدادي، فقير الحال سيء الحظ، ترك مدينته متوجهاً للأندلس، طامعًا بسخاء الملوك والأمراء هناك، علّه يستبدل فقره بغنى ويجد راحةً تعوّضه عن تعبه، تاركاً زوجته التي يحبّها وتحبّه في بغداد، رغم تعلقها به ومحاولاتها الملحّة بإقناعه بالعزف عن السّفر وعناءه والبقاء بقربها عوضاً عن مشقة الغربة، إلا أنّه لم يستجب لها وقصد الأندلس، مدح الأمير أبي عبد الرحمن الأندلسي بقصيدةٍ بليغةٍ، فأعطاه اليسير فقط، ليختبره هل هو من المتعففين أم من الجشعين، فلمّا عرف عفافه أرسل إليه الجنود ليأتوا به ويمنحه ما يستحقه، وجدوه في الخان ميتاً، وعند رأسه ورقةٌ كتب فيها قصيدته "لا تعذليه"، لم يستطع ابن زريق تحمّل الخيبة والندم، فأصابه الهمّ حتى اشتدّ المرض وفارق الحياة.

هذه القصة المتداولة حول ابن زريق وقصيدته، والبعض يغير بها قليلاً وينصف أبا عبد الرحمن قائلاً أنه انشغل عن ابن زريق ولم يسمع قصيدته، وعندما أراد سماعها كان قد فارق الحياة، لم يصلنا من شعر ابن الزريق غير هذه القصيدة، ولا حتى القصيدة التي مدح بها الأمير أبا عبد الرّحمن الأندلسي، وضمن هذه القصيدة الكثير من الحكم التي وصل إليها بعد تجربته المريرة:

رزقت ملكاً فلم أحسن سياسته\ وكل من لا يسوس الملك يخلعه

وَمَن غَدا لابِسًا ثَوبَ النَعِيم بِلا\ شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

قصة ابن الزريق حرّضت الشّاعر والدكتور أحمد الدوسري فكتب رواية عن حياته "ابن الزريق-عابر سنين" تناول فيها حياته بين بغداد والأندلس.

غزارة الإنتاج الشّعري ليست معيارًا لمهارة الشاعر ولا سبباً لخلوده، فهي غالباً ناتجة عن استسهالٍ للشّعر وكتابته لا عن دفقٍ شعري

أما عبد يغوث الحارثي، فهو شاعر جاهلي يماني وفارس شجاع وسيد لقومه وكان قائدهم في يوم الكلاب الثاني، فأسرَتْه بنو تميم، ورفضوا أن يَفتدي نفسه، وربطوا لسانه خوفًا من أن يهجوهم، فطلب منهم أن يفكُّوا لسانَه لينوح على نفسه ويذمَّ أصحابه لتركهم له، وعندما تيقَّن أنهم سيقتلونه، طلب منهم أن يسقوه خمرًا ويقطعوا عرقه الأكحل، فمات نزفاً.

وكتب قصيدةً تصف شعوره بالذلِّ بعد أن كان سيد قومه وفارسهم وهو ينتظر الموت.

ويجد الجاحظ أن هذه القصيدة تتفوق بمراحل على باقي شعره وتغطي عليه، ومطلعها:

أَلا لا تَلوماني كَفى اللَومَ ما بِيا/ وَما لَكُما في اللَومِ خَيرٌ وَلا لِيا

أَلَم تَعلَما أَنَّ المَلامَةَ نَفعُها/ قَليل وَما لَومي أَخي مِن شمالِيا

إذن غزارة الإنتاج الشّعري ليست معيارًا لمهارة الشاعر ولا سبباً لخلوده، فهي غالباً ناتجة عن استسهالٍ للشّعر وكتابته لا عن دفقٍ شعري، فرغم وجود شعراء غزيري الإنتاج حفظت أشعارهم وخلّدهم التّاريخ كالمتنبي، وأبو نوّاس فعلى الطّرف الآخر هناك الكثير من أعلام الشّعر العربي قليلو النتاج من حيث الكمية لكن ما خلّدهم جودة شعرهم أمثال طرفة بن العبد.

فليخلدك شعرك يكفيك أن تكتب نصاً واحداً يحميك من غبار الزّمن وينفض عنك ركام السّنين، تكتبه بروحك وقلبك، تملؤه بمشاعر مكثّفة وتستحضر في كتابته كل موهبتك، فالشعرُ صعبٌ كما يقول الحطيئة عملةٌ نادرة وله معاييره الخاصة:

الشّعر صعبٌ وطويلٌ سلمه\ إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلّت به إلى الحضيض قدمه\ يريد أن يعرّبه فيعجمه