icon
التغطية الحية

قصة جراح سوري عاد من أميركا لمعالجة جرحى الثورة في 2012

2022.08.01 | 17:47 دمشق

الجراح السوري اللامع عبد المجيد الجندي
الجراح السوري اللامع عبد المجيد الجندي
ميتشيغان لايف - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

عندما نذكر اسم الجراح عبد المجيد الجندي فلا بد أن يترك اسمه وقعاً وأثراً، فقد عمل الجندي،84 عاماً، لدى مركز هيرلي الطبي في مجال الجراحة العامة طوال خمسين عاماً، إلى أن قرر أن يتقاعد بشكل جدي في آذار 2022، وعن ذلك تقول ابنته منى: "سبق أن تقاعد أبي قبل الآن وضحكنا على ذلك كثيراً، لأن فترة تقاعده لم تطل أكثر من عشرة أيام، ولكن بعد إصابته هو وأمي بكوفيد، قررنا أنه لم يعد بوسعنا مواصلة ذلك".

إذ في الوقت الذي اعتبر فيه معارف هذا الطبيب أن فكرة استقالته مستحيلة، تعيّن على ذلك الجراح بعد إصابته بكوفيد أن يفكر بالأمر جدياً في نهاية المطاف.

إذ بعد دخوله المشفى برفقة زوجته غادة، في أيلول 2021، وحتى تشرين الأول، أخذت أسرته تلح عليه وتطلب منه أن ينظر إلى الموضوع وكأنه مهنة كأي مهنة أخرى، إذ تقول ابنته منى: "بصراحة بقيت أقنعه بأن الوقت قد حان ليتقاعد، وذلك لأن مهنته تتطلب كثيرا من الدقة التي لا تتوفر لدى من هم في مثل سنه، ناهيك عن طبيعة عمله بما أنه جراح متخصص بالرضوض والصدمات. ولذلك كنت أقول له: أصبح عمرك 84 عاماً ونيف، إذاً، فما الذي تفعله الآن؟ لعل الوقت قد حان لتتخلى عن لباسك الطبي، إلا أن آراء بقية أفراد الأسرة حول تقاعده كانت متباينة".

واليوم، تحسنت صحة الجندي وزوجته التي تبلغ من العمر 72 عاماً.

البدايات

وبما أن الجندي نشأ في منطقة ريفية تقع جنوبي سوريا، لذلك عزم على مواصلة العمل في الأرض الزراعية التي تملكها أسرته، إلا أنه حلم بأن يصبح طبيباً، وهكذا، وبفضل اجتهاده الشديد، والقيم التي تبناها، تابع دراسته إلى أن حصل على منحة لدراسة الطب، ولذلك تبدأ حكايته مع مدينة فلينت الأميركية منذ أن هاجر إليها في 1 كانون الثاني عام 1972.

لدى الجندي وزوجته تسعة من الأبناء والبنات وهم مهند وجمانة وجنان ومنى ومعاذ وبيان وأمان ومحمد وأبرار، سبعة منهم ولدوا في مقاطعة هيرلي.

عند وصوله إلى الولايات المتحدة، فكر الجندي في بداية الأمر بالتقديم للحصول على إقامة جراح عظام في جامعة إلينوي، إلا أنه اكتشف أن عليه أن ينتظر لمدة ستة أشهر.

لم يكن الانتظار خياراً بالنسبة له، ولهذا تقدم بطلب لدراسة الجراحة العامة، وأجرى مقابلات لدى العديد من المشافي بأوهايو وميتشيغان، وفي نهاية الأمر، قرر أن يدرس في هيرلي، بما أنه لاحظ أن جراحة الرضوض آخذة بالتطور هناك.بالرغم من أن العديد من الخيارات كانت متاحة أمامه، مثل جراحة العظام والكسور وجراحة عظام الحوض واليد.

إلا أن هيرلي استقبلته بترحيب بالغ وقدمت له عقداً مهماً، ومن هنا بدأت رحلته التي امتدت خمسين عاماً مع نظام الرعاية الصحية في تلك المدينة.

وهكذا أصبح الجميع في مقاطعة جينيسي يعرف اسم الجندي.

وعنه تقول حفيدته سمية طباع وهي خريجة الجامعة الأميركية: "يمكنك أن تسأل أي شخص تختاره عشوائياً: أتعرف الدكتور الجندي؟ عندها سيجيبك بكل تأكيد، وذلك لأنهم يكنون له كثيرا من الحب، ولهذا أريد أن أخلد اسمه قدر استطاعتي، وهذا ما يدفعني لتسجيل تلك المشاعر".

أما ابنته منى، 46 عاماً، ولتي تعمل محامية في مجال الهجرة بفلينت، فقد دعيت منذ مدة قريبة لحفل عشاء حضره عمدة مقاطعة جينيسي كريستوفر سوانصن، وفي اللحظة التي توقعها الجميع، تحول الحوار للحديث عن أبيها، وعن ذلك تقول: "لقد قال لي: أريدك أن تعرفي أني تدربت مع والدك في مجال الطب قبل 20 عاماً، كما ذكر أنه يتذكر تلك التجربة بشكل جيد، لأنه كان يدرك أن عليه التعرف على الكادر بأكمله عندما كان يعمل برفقة الدكتور الجندي، ثم إن أبي لا يتهرب من عمله أو واجباته نهائياً".

تتذكر منى تلك الشقة في هيرلي التي كانوا يعيشون فيها عندما كانوا صغاراً، حيث كانت منى تمضي وقتها هي وإخوتها حتى أيام العطلة الأسبوعية، بما أن والدهم كان يواصل العمل لساعات طويلة في تلك الأيام، كما أنه كان يهبّ لمساعدة من يتصل به، سواء أكان الاتصال الساعة الرابعة عصراً أم فجراً، وقد تحول ذلك إلى مدعاة للفخر بالنسبة له.

وعن ذلك تقول منى: "كانت مشاعرنا طيبة على الدوام حيال ذلك، أي إننا لم نشعر أبداً أن أبانا مشغول جداً وبعيد عنا، لأننا كنا نعرف  أنه يفعل الخير دوماً".

عملية المرارة بتقنية المنظار

عمل الطبيب ستيف لاكي وهو مساعد مختص في مجال جراحة الرضوض العصبية، مع الدكتور الجندي خلال الفترة الواقعة ما بين 1991-2015، حيث كان الجندي من كبار المناصرين للجراحة التنظيرية، وبما أن جراحة المخ والأعصاب تمثل نقطة قوة بالنسبة للاكي، لم تكن الجراحة التنظيرية من الأمور المحببة بالنسبة له.

وفي أحد الأيام، وفي وقت ما بين عامي 2003-2004، كان لاكي يستعد لمغادرة المشفى، عندما استوقفه الجندي بشكل عاجل، وقال له وهو يبتسم: "ستيف يا صديقي! أحتاج لمساعدتك"، فأسرته تلك الابتسامة، إذ كان الجندي بحاجة لإجراء عمل جراحي لمريض يعاني من المرارة، بيد أن الجندي سرعان ما بدل نبرة كلامه، لتصبح جدية وهو يقول: "علينا أن نجري تلك العملية بوساطة منظار البطن".

وعن ذلك يقول لاكي وهو يضحك: "قال لي: حتى لو تقيأت كل ما في بطني، ستجري الأمور على خير".

وفي خضم تلك العملية، نظر الجندي إلى لاكي وقال: "لقد أصبحت شاحب الوجه، أم أنك تمزح معي؟ خذ نفساً عميقاً، فالأمور طيبة، ولن نوبخك على أي شيء".

كان لاكي يدرك أن المريض أصبح بين أيد أمينة، وهكذا لم تستغرق العملية أكثر من عشرين دقيقة، ويعلق عليها بقوله: "كان الجندي بغاية الهدوء، إذ كيف لي أن أرده وهو يقول لي إنه بحاجتي؟"

العودة إلى سوريا

في عام 2012، عاد الجندي إلى سوريا في ذروة الحرب التي شنها نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري عقب خروج احتجاجات سلمية مناهضة له في عام 2011، إلا أن الحرب جعلت السوريين يعانون من نقص في الأغذية والماء والمأوى والرعاية الطبية.

وهذا ما دفع الجندي للقيام بما يفعله على الدوام ويعرفه الجميع عنه، ألا وهو مساعدة الناس، أي إنه خاطر بحياته دون التفكير بالعقاب الذي يمكن لنظام الأسد أن ينزله به لمساعدته الشعب السوري، إلا أن ذلك لم يقف حائلاً في طريقه.

إذ بعدما دُمرت المشافي والبيوت والمآوي، أجرى الجندي 23 عملية جراحية على الجرحى من المدنيين، حيث أجريت تلك العمليات في أقبية البيوت والأبنية التي لم يتمكن النظام من اكتشافها.

تعامل الطبيب مايكل جاغي، 59 عاماً، وهو رئيس قسم الطوارئ وكبير المسؤولين الطبيين في هارلي، مع الجندي عن قرب منذ عام 1996، ولذلك فهو يفخر بالجندي لكونه من أوائل الجراحين الذين وضعوا هارلي على خريطة رعاية الصدمات والرضوض، ويحدثنا عنه فيقول: "لم أره منهكاً أو متعباً يوماً، وماتزال تلك الذكريات رائعة في مخيلتي، وهذا ما يميزه باعتقادي عن البقية، فالناس يعرفونه لأنه موجود دوماً لخدمتهم".

لم يقف إخلاص الجندي لتحسين حياة من حوله عند حدود المشفى الذي يعمل فيه، وذلك لأنه نذر نفسه لخدمة الغرض ذاته بين أسرته والجالية السورية بأكملها.

إذ كان يجد الوقت دوماً لأسرته، ولذلك أنشأ ملعباً لكرة السلة وللتنس في بيته بمنطقة كليو، على مساحة تعادل تقريباً ثلاثين فداناً. ولهذا تتذكر منى أيام اللعب كأنها البارحة، كما تتذكر كيف علمها والدها ركوب الدراجة.

وبما أنه مؤسس مركز فلينت الإسلامي، الذي يضم مسجداً كبيراً أقيم على مساحة تعادل 82 ألف متر مربع، أثبت لنا الجندي أن عمله قد توسع خارج غرفة الجراحة، كما أن ولاءه لدينه شمل الجالية كلها.

ولهذا فإن خير من يتحدث عنه هو ما تركه من عمل.

وهذا ما شرحته ابنته منى بقولها: "كان عمله يشبه حياته، فهو شخص مستقيم ويعجبني أني ورثت شخصيتي عنه، كما أنه كريم ومعطاء ، ولهذا أصبح بمثابة كنز للجالية المسلمة ولمجتمع مقاطعة جينيسي بأكمله".

التقاعد

في عام 2020، احتفل الجندي وزوجته بالذكرى السنوية الخمسين لزواجهما وذلك ضمن حفل صغير أقيم في الهواء الطلق، وبما أنهما راعَيا فكرةَ تفشي كوفيد خلال العام الماضي، لذا فضل الدكتور الجندي عدم إقامة حفل كبير بمناسبة تقاعده من العمل.

إلا أن العديد من المنظمات ألزمت نفسها بتكريمه لما قدمه من أجل مهنته، حيث تخطط الجمعية الطبية الإسلامية في وسط ميتشيغان والتي تضم أكثر من 250 طبيبا ومقدم رعاية طبية، لتكريم الجندي في لقاء سيعقد في شهر تشرين الثاني المقبل.

وعن ذلك يقول لاكي: "لقد خسرت فلينت طبيباً نابغة بحق، فلقد حظيت بشرف العمل معه لذا علي أن أتحدث عن الأمور التي جعلتني أحب هذا الرجل، إلا أني سعيد من أجله، بيد أن مشاعري اختلطت علي".

تعاملت تيريزا راميريز، 53 عاماً، بشكل مباشر مع الجندي، طوال 25 سنة من الزمان بما أنها ممرضة مسجلة لدى وزارة الصحة، واختصاصية في مجال تقشير البشرة. بيد أنها لم تتأثر بعملية جراحية محددة سبق للجندي أن أجراها، أو لأنه كان يصل في الوقت المناسب، لأن تلك الخصال متوقعة من أي طبيب، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يكن أي من الناس ينتظره من أي طبيب على وجه الخصوص هو أن يتعامل معهم بلطف ومودة، تلك الأمور التي كان الجندي يحرص جاهداً على إبدائها لمن حوله، ولذلك تقول عنه تلك الممرضة: "كان يبادرني على الدوام بتحية الصباح، ويحرص على ذلك بالرغم من انشغالاته، علماً بأنني قد لا أكون في غرفته في بعض الأحيان، إلا أنه كان يحييني بتحية الصباح ويوجهها باسمي بمجرد أن يراني، وهذا ما ترك لدي انطباعاً جيداً، لأنه من الجراحين الذين لا يملك المرء إلا أن يعجب بهم على الدوام".

بالرغم من أن عمل الجندي في المشفى قد انتهى، إلا أن الأثر المديد الذي خلفه على من يعرفونه هناك بقي واضحاً، ليس فقط في المشفى الذي عمل فيه، بل أيضاً بين أفراد أسرته ومجتمع فلينت بأكمله.

المصدر: ميتشيغان لايف