رغم أن "قسد" وضعت يدها منذ أكثر من سبع سنوات على منطقة الجزيرة السورية الغنية بالمياه والثروات الباطنية من نفط وغاز، وكذلك على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تشكل المصدر الأول للسلة الغذائية لكل سوريا، ورغم دعم كثير من القوى والمنظمات الدولية لها، إلا أنها أضاعت فرصاً ذهبية في أن تكون حركة سورية وطنية، وفي قبول الناس لها والتمكين لنفسها في أرض كانت مهيأة تهيئة كاملة مادياً ومعنوياً.
فمن المعلوم المؤكد أن الجزيرة السورية بمحافظاتها الثلاث: دير الزور، والرقة، والحسكة، عانت من تهميش متعمد، وإفقار شديد، وتشويه ممنهج ومقصود من قبل نظام الطاغية البائد. ولما تحررت منه، سادت الفوضى، فكانت المعاناة مرة أخرى، ثم لما احتلت داعش المنطقة، كان الأمر كارثياً أيضاً. ولما نهضت "قسد" بحجة محاربة "داعش"، انضم كثير من العرب و"الجيش الحر" إليها، لكن المنطقة ازدادت تهميشاً، ولم تكن ممارسات "قسد" بأحسن حالاً من إجرام نظام الطاغية البائد وداعش، بل كانت أسوأ بكثير. أما الشعارات التي ترفعها، مثل حرية الشعوب والديمقراطية وما إلى ذلك من شعارات براقة، فهي أشبه ما تكون بشعارات البعث ونظامه المجرم، والمسافة بينها وبين الواقع الذي تديره وتصر عليه شاسعة جداً.
أضاعت "قسد" فرصاً ذهبية في أن تكون حركة سورية وطنية، وفي قبول الناس لها والتمكين لنفسها في أرض كانت مهيأة تهيئة كاملة مادياً ومعنوياً
فشلت "قسد" فشلاً ذريعاً في إدارة المنطقة مدنياً وأضاعت فرصة تحويلها إلى نموذج يُحتذى به في الإدارة والتنمية. فعلى صعيد:
- الإدارة: تدّعي "قسد" الإدارة المدنية للمنطقة التي تسيطر عليها، مع أن الواقع يقول إنها تتبع الحكم العسكري القمعي، الذي لا يملك أي حاضنة شعبية لها عدا المنتفعين منها، ولم تدرك أن الحاضنة تُبنى بكسب القلوب لا بفرضها بالقوة العسكرية. وكانت الإدارات المدنية لديها أشبه بأرقام العملات المنهارة، لا قيمة لها ولا أثر. ولم تستطع هذه الإدارات كلها أن تستخرج وثيقة رسمية واحدة، ولو كانت شهادة ميلاد أو طهور لطفل، رغم الصلات والتعاون الوثيق مع نظام الطاغية البائد. أما نموذجها في الإدارة، فهو نموذج فاشل، لا مثيل له في الدنيا منذ أن هبط آدم على الأرض، فهي تعتمد على ما يسمى بالإدارة المشتركة بحجة إعطاء المرأة حقوقها، وذلك بتعيين مدير ومديرة لكل مؤسسة، إن كانت صغيرة أو كبيرة.
- التنمية: أدت سياسات "قسد" إلى زيادة معاناة المنطقة من الفقر الشديد، وفقدان الخدمات، والتهميش، والتجهيل المتعمد. فلم تبنِ مدرسة، ولا منشأة، ولا أي مؤسسة خدمية، بل حوّلت المدارس والمؤسسات إلى سجون ومراكز للتعذيب، واكتفت بسرقة الثروات والمحاصيل الزراعية أمام أعين أهلها، ولعل هذا هو الأهم بالنسبة لها. وإمعاناً منها في التفقير والتهميش، كانت تفتعل الحرائق في الأراضي الزراعية أيام مواسم الحصاد، فتزيد من فقر الناس ومعاناتهم بدلاً من حماية أراضيهم لتحسين أحوالهم. ولو أنها بنت المنطقة ونمّتها بقسم من عائدات الثروات، وسرقت قسماً آخر، لجعلت منها منطقة مزدهرة، ولحبّبت الناس بها، لكنها أضاعت الفرصة مرة أخرى، نتيجة عقلية الطغاة اللصوص، التي تتكرر نسخها في بقاع مختلفة على هذه المعمورة.
وكما أضاعت فرصة التمكين والتنمية، أضاعت فرصة تحقيق الأمن والاستقرار، فالمنطقة ظلت طوال سيطرتها عليها، وما تزال، تشهد احتجاجات وصراعات واغتيالات واعتقالات تعسفية. وهي اليوم تضيع فرص الانضمام إلى سوريا الجديدة بعد انتصار ثورتها، وتماطل وتراوغ وترفض الانضمام إلا بشروط لا يمكن أن تُقبل؛ شروط تميزها من غيرها من السوريين، وتجعل منها نواة لميليشيات دعم سريع أو جيش مشرق جديد. ولعل المتأمل في تكرار ضياعها هذه الفرص يدرك أنها تريد أن تكسب في المفاوضات مع الحكومة السورية الجديدة ما عجزت عن تحقيقه بنفسها منذ سيطرتها على الجزيرة السورية.
أضاعت "قسد" فرصة تحقيق الأمن والاستقرار، فالمنطقة ظلت طوال سيطرتها عليها، وما تزال، تشهد احتجاجات وصراعات واغتيالات واعتقالات تعسفية. وهي اليوم تضيع فرص الانضمام إلى سوريا الجديدة بعد انتصار ثورتها
وثمة أسباب جوهرية كثيرة تقف وراء هذا التضييع المتعمد للفرص، منها:
- "قسد" لم تأتِ لتنمية المنطقة، لكون المقاتلين الغرباء من عصابات حزب العمال الكردستاني الإرهابية يسيطرون عليها فعلياً، وهم المتحكمون بكل قراراتها، وما مظلوم عبدي والقيادات السورية الكردية والعربية والآشورية إلا واجهات لا حول لها ولا قوة، مع أن كثيراً منها من مدرسة جبال قنديل نفسها.
- طبيعة عقلية جماعة قنديل تتسم بالعناد والجفاء الشديد والانغلاق، بسبب طبيعة البيئة الجبلية التي عاشت فيها تلك العصابات، وبسبب عقلية التمرد التي تسيطر عليها.
- ظنها أن الولايات المتحدة التي دعمتها في محاربة تنظيم داعش ستظل داعمة لها حتى تحقيق مشروعها الانفصالي أو الفيدرالي، دون أن تتعظ من تجارب أمريكا مع حلفائها وأتباعها في فيتنام وأفغانستان وغيرها، مع أن أولئك الحلفاء من أبناء تلك البلدان، بخلاف "قسد" التي لا تنتمي إلى الأرض السورية، ومعظم أفرادها ليسوا من أبنائها.
- تمسكها بملف المعتقلين من مقاتلي داعش في سجونها وعدم التفريط به، لأنه المسوغ الأساسي الذي وُجدت من أجله، وتتلقى الدعم الغربي بناءً عليه أيضاً. ولعل معظم المعتقلين في تلك السجون سوريون مدنيون معارضون لها، اعتقلتهم بحجة الانتماء لهذا التنظيم، وخوف عناصر "قسد" من ملاحقة معظم هؤلاء المعتقلين ظلماً لها قانونياً داخل سوريا وخارجها، كما يُلاحق أفراد العصابة الأسدية في المحاكم الوطنية والدولية بعد سقوط نظام تلك العصابة.
- أن المنطقة ثرية وتشكل أهم مصدر تمويل لجماعات قنديل، فقد وضعت يدها على ثروات لم تكن لتحلم بها يوماً، فضلاً عن أن استمرار سيطرتها على المنطقة يتيح لها حرية الحركة والتنقل بين سوريا والعراق وتركيا وإيران، وتجنيد مرتزقة ومقاتلين هي بأمسّ الحاجة إليهم.
- الأوهام التي تمنيها بها إسرائيل، وتصريحات قادتها العلنية في تقديم الدعم لها والتحالف معها، وتصريحات إلهام أحمد العلنية خلال لقاءاتها التلفازية في التواصل مع إسرائيل ومد جسور التعاون والتحالف معها.
- التصريحات التي صدرت من بعض الأقليات في سوريا، ولا سيما في السويداء ومناطق الساحل، والتحالفات السرية مع نظام الطاغية البائد وفلوله، وحمايته لكثير من ضباطه وشبيحته الفارين من العدالة بعد انتصار الثورة وسقوط النظام وهروب قائده إلى روسيا.
تمسكت "قسد" بملف المعتقلين من مقاتلي "داعش" في سجونها ولم تفرط به، لأنه المسوغ الأساسي الذي وُجدت من أجله، وتلقت الدعم الغربي بناءً عليه أيضاً
لقد أضاعت "قسد" بهذه الممارسات فرصة ذهبية لتمكين نفسها واستمرارها، واليوم تستمر في عنادها وتضييع فرصة مشاركة السوريين في بناء سوريا الجديدة. والأمل أن يظهر من بينهم رجل رشيد يستدرك تلك الفرص الضائعة، ويطوي صفحة التيه والأوهام وتنفيذ الأجندات الخارجية، قبل أن يأتي يوم لا ينفعها فيه الندم والبكاء على ما فات.
وعلى "قسد" أن تعتبر بالنظام البائد في سوريا، وغيره من الأنظمة العسكرية القمعية التي كانت تحكم دولاً، لا مناطق محدودة يرفض سيطرتها عليها من بداخلها ومن يحيط بها، وأن تعتبر بهزيمة جيوش الدول الكبرى أمام شعوب الدول التي احتلتها.
كما عليها ألا تجرّ المنطقة إلى مزيد من الحروب والصراعات التي سترهق كاهل سوريا الجديدة، وتزيد معاناة أبنائها ومؤسساتها أكثر. فالدولة السورية الجديدة، التي تسعى جاهداً لبناء وطن مزدهر يتفيّأ جميع أبنائه في ظلاله، ويتساوون في الحقوق والواجبات، ويتمتعون بالمواطنة الكاملة، لن تقبل أن تتخلى عن جزء مهم منها، ولن تقبل المنطقة، بعربها وكردها، أن تتفدرن أو تنفصل بمعزل عن أخواتها في عموم سوريا.
ولن تنجح زراعة نبتة "قسد" في أرض غير أرضها، فالأرض تلفظها، والمناخ السوري لا يصلح لها ولا يلائمها، فكيف يمكنها أن تنبت وتنمو؟