ذات يوم منذ عدة سنوات كنت أتحدث مع صديقة سورية في شأن يخصها ومشكلة تحاول النجاة منها، حين بدأت أطرح عليها حلولا للخلاص، فوجئت بردودها عن أن اقتراحاتي قد تكون مفيدة لو أنها لا تعيش في مجتمع مغلق وصغير. صديقتي تلك تعيش في برلين، أكثر العواصم الأوروبية ليبرالية خصوصا في موضوع الحريات الشخصية، وصديقتي أيضا سيدة ذات حضور كبير وشخصية مستقلة وقوية. أخبرتها أنني في الحقيقة لا أفهم ماذا تقصد في جوابها بناء على معطيات حياتها! ثم فهمت منها أنها تعيش في مجتمع سوري صغير في قلب برلين، حيث الجميع يعرفون كل شيء عن الجميع، وحيث لا توجد أية مساحة للاحتفاظ بخصوصية سلوك ما، أو اتخاذ قرار ما بعيدا عن احتمال أن يعرف به الجميع ويتناقشون به ويبدون موافقاتهم أو اعتراضاتهم عليه.
الأمر بدا لي كما التالي: تعيش صديقتي المثقفة المستقلة مع مجموعة من أصدقائها السوريين المثقفين والسياسيين في قرية صغيرة اسمها سوريا تقع في قلب برلين. قلت هذا لصديقتي فأكدت نظريتي تماما.
لم يختلف الأمر في السنوات اللاحقة، بل ربما ازدادت القرى السورية في العواصم والمدن التي لجأ إليها السوريون تقوقعا وانغلاقا؛ يظهر هذا في الإعلانات عن النشاطات الثقافية التي ينظمها السوريون في أماكن تواجدهم؛ يظهر هذا أيضا في الصور التي يضعونها على وسائل التواصل الاجتماعي حين يجتمعون أو يلتقون حيث نادرا جدا ما يوجد في الصور أشخاص من غير أصحاب الجنسية السورية؛ يظهر هذا أيضا في الأماكن التي يقصدونها للسهر والتجمع، غالبا ما يكون أصحابها سوريين ولا يقصدها غير السوريين.
المفردات هي بنات السلوك الجمعي لمجتمع ما، تعبيرنا عن المودة والحب والتعاطف مليئة بالمبالغات الشغوفة التي نحبها نحن المشرقيين
تشكل اللغة عائقا كبيرا أمام الاندماج حتى النسبي في المجتمع الجديد، اللغات الوسيطة قد تساعد قليلا في تفاصيل الحياة اليومية، العمل والتسوق والسفر وما يشبه ذلك، لكن فيما يخص الوجدان اليومي والعلاقات البشرية الحميمة إنها لا تكفي، بل ربما تؤدي إلي نتيجة عكسية، ذلك أن من عاداتنا، نحن المشرقيين، أن نتشارك تفاصيل اليوميات ليس فقط بالحضور الجسدي بل بالكلام العاطفي، بعبارات المحبة والود، بالتضمين الذي تحمله تلك العبارات، لا تستطيع اللغات الوسيطة حمل هذه التضامين، ولا تقدر على نقل المشاعر الآنية، ليس لأنها لا تحتوي على مفردات كهذه، بل لأن الأمر يتعلق بثقافة الشعب التي تنتج عنها اللغة، المفردات هي بنات السلوك الجمعي لمجتمع ما، تعبيرنا عن المودة والحب والتعاطف مليئة بالمبالغات الشغوفة التي نحبها نحن المشرقيين، هي جزء من ثقافتنا اليومية، مهمة لنا لنكمل حياتنا، بينما قد لا تكون بذات الأهمية لدى باقي الثقافات، فلا تتضمنها اللغة اليومية؛ هكذا تسقط اللغة الوسيطة في اختبار الاندماج، ومثلها اللغة الأصلية للبلد المضيف أو بلد اللجوء، فاللغة ليست فقط المفردات، بل هي ثقافة كاملة كما أسلفنا، عليك أن تتشبع بتلك الثقافة كي تتمكن من التغلب على اللغة والاندماج الكلي بالمجتمع بحيث تشعر فعليا أنك جزء منه؛ هذا سيحدث مع السوريين الذين وصلوا إلى بلاد الاغتراب أطفالا، أو الذين ولدوا فيها، أما من تشكل وعيهم وثقافتهم في بلادهم الأصلية فسوف تصادفهم صعوبات بالغة في طريق الاندماج وقد يعجزون تماما عن ذلك فلا يجدون مخرجا من شراسة الانعزال والوحدة غير الانخراط في الحياة مع من يشبههم من أبناء بلادهم الأولى، وفي حالة السوريين فإن البدائل متوافرة جدا، ذلك أن عائلات بكاملها انتقلت خلال السنوات الماضية إلى بلاد اللجوء، وكذلك مجموعات الأصدقاء من الدوائر السورية المختلفة.
في حالات اللجوء الجماعي يصبح الانغلاق على المتشابه تشبثا بالهوية خوف فقدانها وسط صراع البقاء في المجتمع الجديد والثقافة الجديدة، هذا ما يبرر غالبا كلام صديقتي السابق رغم أنها سيدة لا تعاني مشكلة في تفهم ثقافة المجتمع الألماني وعاشت في ألمانيا سابقا قبل الانتقال عليها نهائيا، فما بالكم بمن انتقل مباشرة من ثقافة مجتمعية مضادة كليا لثقافة المجتمع الذي جاء إليه، خصوصا في موضوع الحريات الفردية، وأظن أن هذا أحد أسباب ما نسمع به من جرائم قتل بين السوريين بدواعي (الشرف)، وهو أيضا أحد أسباب ظاهرة السوريين الشامتين في أي حدث يحصل في الغرب الذي يعيشون فيه هربا من بلادهم، وهم يعتقدون أن فرحهم بذلك هو حماية لدينهم، حيث الانغلاق الديني أيضا يصبح حماية للهوية من الفقدان. أما مسؤولية الدول المضيفة عن عدم اندماج اللاجئين فذلك يحتاج إلى بحث آخر.
السوريون ينغلقون على أنفسهم في علاقاتهم اليومية، يعيشون في أحياء محددة وسكن متجاور، مناسباتهم يغيب عنها المصريون غالبا
لكن ماذا بخصوص السوريين في البلاد العربية والمجتمعات ذات الثقافة المشابهة واللغة المشتركة؟ وسأورد هنا مثالا عن السوريين في مصر كوني أعيش في القاهرة منذ أكثر من عشر سنوات وأعرف حال الكثير من السوريين هنا. يشبه المجتمع المصري في الكثير من تفاصيله اليومية المجتمع السوري، بل لنقل إن السوريين يمكنهم أن يجدوا في مصر والمصريين معظم ما يفتقدونه في سوريا، ولعلهم الجالية الوحيدة في مصر التي لا تشعر بأي نوع من المضايقات، حتى حين يحاول البعض من المصريين التحريض على وجود السوريين يواجهون من مصريين آخرين كثر برفض التحريض والترحيب مجددا بوجود السوريين، مع ذلك، مع استثناءات قليلة خصوصا في مجال الأعمال والاستثمارات أو المصاهرات والنسب، فإن السوريين ينغلقون على أنفسهم في علاقاتهم اليومية، يعيشون في أحياء محددة وسكن متجاور، مناسباتهم يغيب عنها المصريون غالبا، لم يحاولوا الانخراط في العلاقات المجتمعية للمجتمع المصري، يمكن هنا أيضا أن نستثني طلاب الجامعات الذين استطاعوا تجاوز سلوك العائلات وانخرطوا في المجتمع المصري وتوحدوا به. ثمة ظاهرة أخرى تخص السوريين في مصر هي المناطقية حيث يعيش حلبيو مصر (وهم الأكثر عددا بين باقي السوريين) مثلا في مجتمع يخصهم نادرا ما يخترقه أحد، كذلك الأمر بما يخص أهل حمص أو دمشق أو غيرها من باقي سوريا ممن وجدوا في مصر ملاذا لهم.
يبدو الأمر أخيرا كما لو أن السوريين انتقلوا إلى مجتمعاتهم الجديدة ونقلوا معهم سلوكهم نفسه، من دون أن يبذلوا جهدا كبيرا للاندماج في المجتمعات الجديدة، خصوصا في المجتمعات ذات الثقافة واللغة المختلفة. حيث لن يكون شيئا كهذا بهين على من اعتاد أنماطا محددة من السلوك الاجتماعي، أنماطا ليست منفتحة عموما، وكانت تعزز بسياسات حكومية تكرس الهوياتية الضيقة والمنغلقة والمأزومة. وربما سينجو من ذلك، أو في الغالب هم ناجون، الأطفال والمراهقون الذين ولدوا أو كبروا في المجتمعات الجديدة وهم متخففون من ثقل الذاكرة (الوطنية المأزومة) التي تحملها عائلاتهم وتعيش بها.