قربان سعيد: في فض غموض حياة غريبة وخطيرة

2019.12.19 | 16:55 دمشق

3b6a30a7-daa6-4ce6-a6d6-02d894feb2d3.jpg
+A
حجم الخط
-A

بدأ "توم ريس" الاهتمام بهوية وشخصية "قربان سعيد" من ربيع عام 1998، حين ذهب إلى مدينة باكو عاصمة أذربيجان للكتابة عن طفرتها النفطية الجديدة، وهي أول مظاهر الحياة التي عادت للمدينة منذ أن جعلت الثورة الروسية الزمن يتوقف بها عملياً عند تاريخ 1917، وبالكاد قبل أن يغادر باكو نصحه صديق إيراني بقراءة رواية "علي ونينو" لقربان سعيد للتعرف من خلالها على المدينة وعلى القوقاز بوجه عام، تلك كانت البداية وأينما ذهب وحل توم يلاحقة ظل قربان سعيد في باكو، عاد لفندق "باكو حياة ريجنسي" ووجد كتابا وحيدا باللغة الإنجليزية في محل لبيع الهدايا بعنوان "الدم والنفط في المشرق" وعلى الغلاف مكتوب أن المؤلف "أسعد بيك" هو مؤلف رواية "علي ونينو" وتحته وبين قوسين كتب اسم "ليف نوسيمباوم"، أسماء ثلاثة لشخصية واحدة: قربان سعيد أم أسعد بيك أم ليف نوسيمباوم، وماذا حدث له ومن هو؟ ذلك الفضول الذي استولى على توم ريس جعله يتتبع كل ما يخص حياة قربان سعيد تتبعا دقيقا يشبه تتبع المحققين السريين.

أتصفح الكتاب وأسير مع توم ريس في رحلة تدقيقه تفاصيل حياة قربان سعيد، أغلق الكتاب أحيانا وأتمتم أنها رواية مشوقة أكثر منها ترجمة لحياة أديب، هل يعقل أن قربان سعيد مر بكل هذه التجارب المريرة، ورؤية هذه الشخصيات، وتأتي الإجابة أن المعلومات التاريخية الموثقة في الكتاب مطمئنة وحياة قربان سعيد المثيرة للتأمل لافتة ومشوقة.

جُهد توم ريس في تتبع كل ما يخص قربان سعيد مبهر، لقد بنى الكتاب على مراجعة المراسلات والمخطوطات، وسجلات الشرطة الفاشية في روما، ومدونات محفوظة في النمسا، وزيارة المناطق والقرى التي يذكرها قربان سعيد عن حياته فضلاً عن مقابلة كل من يمكن أن يساهم بمعلومة عن حياة قربان سعيد من أقارب أو أصدقاء وورثة، وحصل على أكثر من ثلاثمائة رسالة خاصة خفيت عن أعين الباحثين، كانت مراسلات بين قربان سعيد وإحدى صاحبات الصالونات الأدبية في عهد موسوليني وفي الرسائل وصف لأيامه الأخيرة، لكن الأكثر أهمية هو وصوله للناشرة الألمانية لكتب قربان سعيد وزيارتها في بيتها وهي في عمر ال96، السيدة "موغلة كيرشنر" التي استقبلت توم ريس وحكت له عن قربان سعيد وسألته هل قرأت كتابه بعنوان "الرجل الذي لم يعرف شيئاً عن الحب" وكانت إجابته بالنفي، فسلمت له دفاتر مخطوط كتاب كتبه قربان سعيد، وعندما بدأ توم في قراءة سطور هذه الدفاتر، كانت المفأجاة أن هذه الدفاتر ليست رواية بل كانت مذكراته التي كتبها عن حياته وهو على فراش مرضه، وهي آخر ما كتبه قربان سعيد.

في السيرة التي كتبها توم ريس عن قربان سعيد، نجد ملامسة لعالم الظلال الغامض للمهجرين والفارين من أوطانهم بسبب الثورة الروسية أو الحرب العالمية الأولى

قصة "ليف نوسيمباوم" القصيرة هي التالي: ولد ليف في أكتوبر 1905 في باكو عاصمة أذربيجان لأب يهودي ثري من تجار صناعة النفط ولأم شيوعية من متطرفي الثوار والتي تبرعت لستالين بمجوهرات لدعم الثورة وانتحرت في طفولة ليف، ثم قامت الثورة البلشفية ضد القيصر الروسي، وصل البلاشفة باكو وسيطروا عليها وهددوا بارونات النفط فيها، على إثر ذلك هرب هو وأبوه على ظهر الجمال بصحبة قافلة عبر سهوب بلاد فارس وعبر صحاري تركستان، وانتقل إلى إسطنبول بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل بعدها إلى برلين، وأعلن اعتناقه الإسلام في السفارة العثمانية في برلين عام 1923، في الأيام الأخيرة للخلافة العثمانية، وتسمى "قربان سعيد" وفي بداية الثلاثينيات انتقل إلى فيينا، ونشر روايته "علي ونينو" باسم مستعار، وحقق كتابه "القيصر وستالين" أعلى المبيعات واشتهر في الولايات المتحدة في رحلته لها 1935، اشتهر في مجتمعات فيينا ونيويورك وهوليوود في الثلاثينيات، كان نجم وسائل إعلام جمهورية فايمار في ألمانيا، ومستشرقاً محترفاً يلتقي كثيراً بموسوليني، لكنه حتى في أثناء حياته لم يعرف أحد على جانبي المحيط الكثير عن قصة حياته أو هويته أو ماضيه، كتب تروتسكي إلى ابنه من منفاه عام 1935 متسائلا: "من هو أسعد بيك هذا؟" وفي عام 1938 حاول قربان سعيد الفرار من حصار الاضطهاد النازي الألماني، وسرعان ما تم اعتقاله وترحيله إلى إيطاليا، وهناك مات عام 1942.

في السيرة التي كتبها توم ريس عن قربان سعيد، نجد ملامسة لعالم الظلال الغامض للمهجرين والفارين من أوطانهم بسبب الثورة الروسية أو الحرب العالمية الأولى، مع الثورة الروسية ووصول البلاشفة إلى باكو ستنهار ثروة والده ويتم الاستيلاء على ممتلكات الأسرة بل تهديد والده بالقتل، ومثل كثير من الكتاب الذين ولدوا في أعوام تحتضر فيها الإمبراطوريات وتتداعى، سوف يجعل ليف من إمبراطوريته المنهارة "الحكم الملكي القيصري والحنين لباكو قبل وصول البلاشفة" عالماً مثالياً يحن إليه دائماً، ألا يذكرنا ذلك بما تحدث عنه ستيفان تسفايج في سيرته "عالم الأمس"، أو سيرة حياة شكيب أرسلان بعد سقوط الخلافة العثمانية التي انتمى إليها وتشكل عالم جديد مختلف كلياً عما اعتاده قبل ذلك، قريب من ذلك يحكي لنا توم ريس عن جده النمساوي الذي شعر بنفس الشيء عند سقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية، وبسقوط إمبراطورية الهابسبورج المنهارة تغير الكثير في تلك المنطقة، وهاجر العديد من اليهود إلى أمريكا أو سقطوا ضحايا للنازية.

يبني توم ريس قصة حياة قربان سعيد على استراتيجية أسميتها "الاستطراد التاريخي" ومثال ذلك عندما يأتي الحديث عن ولادة قربان في باكو، يقف وقفة عند باكو وصراعات بارونات النفط وأهمية النفط فيها، يصل في هذا الاستطراد إلى لمحة حول الحرب العالمية الثانية والصراع بين ألمانيا وروسيا على نفط باكو واستشهاد بمواقف هتلر في إصراره للوصول إلى تلك النقطة، وعن دور باكو في تاريخ الاتحاد السوفيتي، يتوقف بعدها ليعود ويلتقط خيط الحكاية ويقص عليك قصة قربان سعيد، الاستطراد التاريخي يبرز عند ظهور شخصية على مسرح الأحداث، فمثلا ستالين يزور باكو هنا يجب أن يستطرد عن تاريخ علاقة ستالين بهذه المنطقة وموقف لينين والبلاشفة منها.

يبني توم ريس قصة حياة قربان سعيد على استراتيجية أسميتها "الاستطراد التاريخي" ومثال ذلك عندما يأتي الحديث عن ولادة قربان في باكو

يقرأ توم ريس شخصية قربان سعيد باعتبارها جزءا مما يسميه "نمط اليهودي الشرقي"، ظاهرة شاعت في القرنين التاسع عشر والعشرين ولكن نسيت في عصرنا الحالي، ظاهرة عرفت في بداية العصر الفيكتوري في إنجلترا، حينما كان الشباب من العائلات اليهودية الثرية والشهيرة ذات النفوذ في مجتمعاتها مثل وليام جيفورد وبنيامين درزائيلي، ينطلقون للبحث عن جذورهم المشرقية في الصحراء، في حالة بيلجراف فقد وصل الجزيرة العربية وانتحل شخصية طبيب مسلم وعمل في الخفاء لصالح طائفة الجزويت، وعمل على إدارة مؤامرة من نابليون الثالث لتأليب العرب ضد العثمانيين، أي قبل خمسين عاما من قدوم توما إدوارد لورانس المشهور بلورنس العرب، كانت مذكرات بيلجراف من أعلى الكتب مبيعاً حتى غلبت عليها مذكرات لورنس بعد ذلك، الاستشراق اليهودي يرى المشرق لا كمكان لاستكشاف الغريب عنه ولكنه موضع يكتشف من خلاله جذوره الشخصية، وأحيانا اعتبروا العرب أخوة دم أو اعتبروا العرب يهودا على ظهور خيول كما صاغها دزرائيلي.

تمت ترجمة رواية "علي ونينو" لقربان سعيد إلى العربية وتحولت إلى فيلم من إنتاج أمريكي، وهناك روايته الأخرى "فتاة من القرن الذهبي" بالأضافة لسيرة توم ريس عنه، والتي تعتبر درسا في كتابة التراجم الشخصية، وهناك سيرة أخرى لتوم ريس بعنوان "الكونت الأسود" عن ألكسندر دوما أتمنى أن تلتفت لها دور النشر لترجمتها إلى العربية.

كلمات مفتاحية