قرار سحب القوات الأميركية: مشكلة جديدة في سوريا

2019.01.17 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ركزت سياسة أوباما تجاه سوريا مع بداية الثورة على أمرين: ضرورة رحيل الأسد، وعدم استخدام الأسلحة الكيمياوية، لكن بعد تجاوز الأسد لـ "خط أوباما الأحمر" في آب 2013، وبعد الصفقة التي تم التوصل إليها بالوساطة الروسية وتسليم النظام لمخزون الأسلحة الكيمياوية؛ ظهر تحوّلٌ في السياسة الأميركية تجاه سوريا، ولا سيما بعد تصدر التنظيمات الجهادية متمثلة بجبهة النصرة وداعش ساحة المواجهة مع النظام، وتراجع دور المعارضة المعتدلة العسكري لظروف إقليمية ودولية.

 تجلى ذلك التحول في تخلي إدارة أوباما عن فكرة رحيل الأسد، إذ اعتبرت ما حققته في صفقة التخلص من السلاح الكيمياوي انتصاراً لها ولأصدقائها، وفي محاربة الإرهاب من جهة، ومن جهة أخرى، تشكيل التحالف لمناهضة داعش بقيادتها عام 2014، بالتشارك مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية وتحديداً من وحدات حماية الشعب، الذي قام أساساً على أساس تعاقدي واضح: محاربة داعش.

مع تسلم ترامب رسمياً للبيت الأبيض في نهاية 2017، تابع السياسة الانكفائية تجاه سوريا، وأضاف إليها

الأمر المهم في عهد ترامب هو التسليم لروسيا بلعب الدور الأساسي في سوريا، كقوة مهيمنة تتحكم في العمليات الحربية كما السلمية

إعلانه الصريح عن عدم اهتمامه بمصير الأسد أو رحيله، وأبقى قضية استخدام الأسلحة الكيمياوية كأمر يجب عدم تكراره، كما أنه جعل الحدَّ من النفوذ الإيراني في سوريا قضيةً في المرتبة الثانية من الأهمية، بعد هزيمة داعش.

الأمر المهم في عهد ترامب هو التسليم لروسيا بلعب الدور الأساسي في سوريا، كقوة مهيمنة تتحكم في العمليات الحربية كما السلمية، بعد أن أنهى تدخلها الوحشي قضية رحيل الأسد من على الأجندات الإقليمية والدولية، فمع بداية عهد ترامب دمّرت القوات الروسية شرق حلب وأعادتها للسيطرة، ثم بعد عام كانت السيطرة على الغوطة الشرقية، وأخيراً درعا، ودير الزور، حيث استعاد النظام وحليفاه: روسيا وإيران، معظم المدن الرئيسة، وجزءاً من منابع الثروات المعدنية، وهكذا سيطرت قوات النظام وحلفائه على حوالي 60 في المئة من مساحة سوريا، وأصبحت قضية رحيل الأسد أمراً منسياً على الصعيد الإقليمي والدولي.

ما حافظت عليه وطورته إدارة ترامب هو الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، حيث استطاعت، بفضل الدعم الجوي والاستخباراتي على الأرض، إلحاق هزيمة عسكرية كبيرة بداعش، كما أنشأت أكثر من خمس قواعد عسكرية رئيسة في البلاد، وفي نفس الوقت وفرت قواتها حمايةً لقوات حماية الشعب الكردية، من أي هجوم تركي طيلة السنوات الماضية.

ضمن هذه الخريطة من تشابك الصراعات في سوريا، جاء قرار ترامب سحب القوات الأميركية في الشهر الماضي، ليزيد نسبة الإرباك والتوتر في المشهد السوري. فالمنطقة التي تقع تحت حماية تلك القوات وتشكل حوالي ربع مساحة سوريا، لكنها تحوي معظم ثروتها من النفط والغاز، كما أنها منطقة مجاورة للحدود التركية بمئات الكيلومترات، وفيها وجود سكاني كردي، بغض النظر عن السيطرة الحالية لقوات الحماية الشعبية عليها.

هذه الميزات للمنطقة جعلتها محط تصارع قوي بين القوى الموجودة في سوريا، وخاصة بين طرف النظام وحلفائه من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى (على الرغم من أن الأطراف الثلاثة: روسيا وإيران وتركيا، تشارك في محادثات حول سوريا). فالنظام وحلفاؤه يعدونها منطقة استراتيجية لما فيها من ثروات، كما أنها بالنسبة إلى إيران منطقة أمان وحماية للطريق البري من طهران لدمشق مروراً ببغداد، ولروسيا أيضاً، للتأكيد على أنها الجهة الفاعلة الأقوى، ومن يحدد الأدوار والمساحات للقوى الأخرى. أما بالنسبة إلى تركيا فهي قضية أمن قومي كما تعدّها، وساحة لمحاربة لتنظيمات إرهابية مثلها مثل داعش.

دفع قرار الانسحاب قواتِ وحدات الحماية الشعبية إلى التواصل مع النظام وروسيا، وإجراء المفاوضات بهدف السماح لقواتهما ببسط السيطرة عليها مجدداً، مقابل الحصول على وعود بضمان حكم إداري مستقل للمنطقة وللأكراد، ومن ناحية أخرى بهدف دعم رفض للدخول التركي للمنطقة، وهو الأمر الذي تجمع عليه الأطراف الثلاثة: روسيا وإيران والنظام، وزاد من تعقيد الموقف التركي وصعوباته الطلب الأميركي من تركيا بضرورة تأمين حماية لوحدات حماية الشعب الكردية وعدم ضربها، وهو أمرٌ تعدّه تركيا قضية أمن قومي لا يجوز لأي طرف فرضه عليها.

يعكس قرار ترامب بالانسحاب الذي جاء عقب محادثة هاتفية طويلة مع الرئيس أردوغان، والتصريحات والتفسيرات التي يدلي بها أركان السياسة الخارجية والدفاع المناقضة للقرار، والاستقالات التي تمت على أثره، خلافات عميقة داخل أركان الإدارة ومؤسسات الحكم في واشنطن، فمن جهة هناك الرئيس الذي يصر على الانسحاب وترك "القيادة الإيرانية تفعل ما تشاء بالمنطقة"، ومن جهة أخرى الخارجية والدفاع والأمن القومي، التي تعارض الانسحاب وتعد حماية "الأصدقاء" ومحاربة

يسعى ترامب من خلال فرض هذا القرار -في حال نجاحه- لفرض نمط من الدكتاتورية الجديدة بمواجهة السلطات والإدارات الأخرى صانعة القرار في واشنطن

النفوذ الإيراني في المنطقة أولويةً في سياستها، وما عبّر عنه الرئيس أردوغان بعد زيارة بولتون لتركيا وتصريحه بضرورة حماية قسد، الذي قال: إن مرجعيتنا هي الرئيس ترامب وليس بولتون. وتبقى العقدة الكبرى في تنفيذ القرار كيفية التوفيق بين قرار تركيا وهي العضو في حلف الناتو، وبين حماية "الأصدقاء".

يسعى ترامب من خلال فرض هذا القرار -في حال نجاحه- لفرض نمط من الدكتاتورية الجديدة بمواجهة السلطات والإدارات الأخرى صانعة القرار في واشنطن، كما أنه إعلان من واشنطن بفشل سياساتها وهزيمتها الذاتية في الشرق الأوسط، وخاصة بعد الفشل في أفغانستان والعراق، حيث لم يتمكن التدخل المباشر في البلدين من تحقيق الاستقرار، على الرغم من سنواته الطويلة، ففي أفغانستان تضطر واشنطن إلى التفاوض من جديد مع طالبان، وفي العراق تسلمت الميليشيات الشيعية الطائفية التابعة لإيران مقاليد السلطة، ناهيك عن تدمير البلدين وعودتهما لعصور ما قبل التاريخ.

يعكس هذا القرار تغيّراً في الاستراتيجية، وهو دليل على الفوضى الخطيرة داخل الإدارة الأميركية، حيث يعارضه كثيرون وعلى جميع المستويات من أركانها، لكنه بالتأكيد يضيف تعقيداً جديداً على الوضع في سوريا، وهو الوضع غير المستقر أساساً، ويشير إلى أن مدة التصارع طويلة في المنطقة، إن لم يكن نذيراً بانطلاق شرارة صراع أكبر.