قراءة في كفّ السنة الجديدة

2019.01.24 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أخيراً أطبق العام المنصرم أنفاسه، وأخذ معه ما أخذ فيما أبقى على كثير من الألم الذي ودّ السوريون التخلص منه بوصفة سحرية غير متاحة.
ربما لا تختلف هذه السنة كثيراً عن سابقاتها، لكننا لأول وهلة وكحال كل "المحكومين بالأمل" ننتظر أن تفتح لأحلامنا أبواباً نحو التحول إلى حقيقة ونظن مثل كل مرة أن نهاية هذا الصبر والألم كله هي فرج لا محالة.
لكن! "لا بد لليل أن ينجلي" - مثلما يقول الشاعر- سنتغاضى عن كمّ أسماء الوفيات الذين قمنا بحذفهم من ذاكرة هواتفنا الذكية التي باتت أعدادها عصية على الإحصاء، وسنحاول تناسي أشكال الأمهات اللواتي استلمن وثائق رسمية تثبت موت أولادهن تحت التعذيب، وسنتجاوز نشرات أخبار الطقس التي تتحدث عن السيول والفيضانات التي غرق فيها أهلنا في الخيام، سنتجاهل كل مقاطع الفيديو المصورة التي تظهر أقدام أولئك الأطفال الحافية التي تحاول أن تشقّ لنفسها طريقا في الطين لتصل إلى مقاعد الدراسة في مدارس تفتقر إلى أقل مقوّمات الآدمية ثم سنظهر على الملأ بأمنيات السلام والمحبة والتآخي.

لقد أصبحت الأحمال ثقيلة لدرجة ألا نستطيع أن نعبر بها هذا البرزخ اللعين بين الحياة والموت لذلك سنفضل أن نرميها لنعبر خفيفين إلى السنوات الجديدة التعيسة ربما والسعيدة على الأغلب مثلما نتمنى.

سنستمر في تعاطي مضادات الاكتئاب لنستطيع أن نقنع أنفسنا أن غداً جديداً جميلاً يلوح لنا صباح العام الجديد لا محالة.
لقد أصبحت الأحمال ثقيلة لدرجة ألا نستطيع أن نعبر بها هذا البرزخ اللعين بين الحياة والموت لذلك سنفضل أن نرميها لنعبر خفيفين إلى السنوات الجديدة التعيسة ربما والسعيدة على الأغلب مثلما نتمنى.
سننتقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى ومن تحليل إلى آخر لنقرأ طالع السنة المقبلة ونحاول أن نتبين بقعة ضوء صغيرة تحدّ من الألم الذي نعانيه نحن الملعونين بسوريتنا، سنقصد محللي السياسة الذين يقرؤون خريطة البلاد وأحوالها السياسية مثلما تقرأ العرافات فنجان بنٍّ ممتلئ بالسواد وربما في أحسن الأحوال سنغير المحطة التلفزيونية لنستمتع بتوقعات الأبراج ونصغي إلى تنبؤات المنجمين السياسية في العالم، لنزيل عن كاهلنا عبء المحاولات الفاشلة في الابتسام ونستريح من تأنيب الضمير وعذاب الوجدان في هذه الليلة المباركة.
سنبتسم في وجه عدسات التصوير التي تحاول أن تجسّد لحظاتنا السعيدة التي لو استطاعت الحديث لوشت بنا لا محالة بأنّا كنا نصطنع تلك الابتسامة الغبية في وجهها وأننا لسنا سوى كاذبين لا مناص لهم من كل هذا البؤس سوى أن يكذبوا على أنفسهم أكثر فأكثر.
سنستمر في متابعة أخبار الطقس وتعقبها لنعرف كم علينا المكوث في كهوفنا ريثما تمر العاصفة التي نخاف أن تقتلعنا في طريقها، سنتعلم الرضوخ أكثر لمشيئة القدر مبررين بذلك إحناء رؤوسنا جميعاً في مواجهة تلك العاصفة أو غيرها.
سنستلقي في أسرتنا ونحن ننعم بدفئها متجاهلين مشاهد المخيمات التي ظهرت في الأخبار العاجلة ونقنع أنفسنا بأنهم يقومون برياضة التزلج وأنهم لا يموتون من صقيع الثلج حقيقة لا مجازاً.
سنصطنع الفرح والمديح ونحن نتندر بأن سانتا كلوز أتى لهم هذا العام بكثير من الهدايا وقطع الشوكولا المعبأة في الصناديق الممهورة بشعار الأمم المتحدة أو شعار أحد المنظمات الدولية من دون أن يقدموا مأوى بسيطاً دافئاً إلى أحدهم، أو حتى لباساً صوفياً ثقيلاً على الأقل.
لقد وضعتْ الحرب أوزارها أخيراً -هكذا يقولون- وضعت أوزارها، وأخذت معها وزرنا، وبما أننا رمينا ذنوبنا على كاهل تلك الآلة المجنونة آن لنا أن نعود لننعم بحضن الوطن واحتضانه لنا.
هكذا يحلم المشرذمون في أصقاع الأرض والجائعون إلى الانتماء جميعهم، يغذّون خيالهم بأن لهم بقعة من بقاع الأرض تسمى وطناً ما زالت في انتظارهم ويورثون حلم العودة لأبنائهم الذين وُلدوا في بقع جغرافية مختلفة هي في الأصل أوطان لغيرهم.

لقد كنا من المحظوظين الكثيرين الذين نجوا من الموت برصاص طائش أو متعمّد ولم يُتهم الجوع أو البرد بقتلهم أو بالترصد لهم، لكن مسألة النجاة تلك ليس بوسعي أو بوسع أحد حسمها الآن.

لقد كنا من المحظوظين الكثيرين الذين نجوا من الموت برصاص طائش أو متعمّد ولم يُتهم الجوع أو البرد بقتلهم أو بالترصد لهم، لكن مسألة النجاة تلك ليس بوسعي أو بوسع أحد حسمها الآن.
ومن ماذا نجونا بالفعل؟
إننا مقتولون حتى النخاع ومُمَثلٌ بجثثنا علناً على مرأىً من العالم العاهر الذي يقيم موائده فوق لحمنا ويحتسي دماءنا مثل مسيح مصلوب شرب نخبه أصدقاؤه قبل أعدائه.
فنحن إن لم نكن أرقاماً في سجلات الوفيات العالمية حتى الآن، ما زلنا مشروعات طويلة الأمد ستحقق تلك النتيجة إن عاجلاً أم آجلاً.
لقد أصبح الموت رفاهية ليست في متناول أيدينا على الإطلاق فمن ماذا نجونا إذن؟
من الموت، من البؤس، وربما من تعذيب الضمير وجلد الذات، لكننا جميعا على الأقل معطوبو حرب ومعطوبو أملٍ أيضا في عالم لا تحتمل عدالته أن تمنح للفقراء والمشردين حق الحرية أو حق الدفء أو حتى حق المساواة في الألم أو حق الحلم على أقل تقدير.
عامٌ بعد عام وعقد يخلفه آخر، والخيبات تتراكم واحدة تلو الأخرى في قلوبنا، لنُصاب في نهاية الأمر بذبحة صدرية سببتها جرعةٌ زائدة من الأمل في سنوات عمرنا المبكرة.


 

كلمات مفتاحية