قراءة في كتاب تنظيم الدولة المُكنّى (داعش)

2022.05.23 | 06:26 دمشق

2014_43_jihadi23.jpg
+A
حجم الخط
-A

الكتاب الأول: عزمي بشارة. إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة

 

مقدمة

صدر كتاب (تنظيم الدولة المكنَّى داعش) عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في جزأين، تضمن الجزء الأول دراسة افتتاحية للدكتور عزمي بشارة، تناولت ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، في شتى مظاهرها، وظروف نشأتها، وتطورها، وأيضًا مظاهر انحلالها ودمارها الذاتيين، وتناول ما استقرَّت عليه من مفاهيم، وادعاءاتها عن نفسها وما هي عليه بالفعل، وعرَّج على منظِّريها وما حملوه من دعاوى وتصورات عن الذات والغير، أما الجزء الثاني للكتاب فقد اشترك في كتابته العديد من باحثي المركز، ولقد قدَّم بشارة درسًا منهجيًا بيَّن فيه الطرق الملائمة لتناول ظاهرة (داعش) المعقدة. وبيَّن المسوغات لاشتراك العديد من باحثي (المركز العربي) المرموقين في إنجاز هذا العمل البحثي الكبير، ولقد حاولت هذه الدراسة الإطلالة على الجزء الأول.

لقد توَّج عزمي بشارة بكتابه الجديد جهوده البحثية التي تجلَّت سابقًا في مداخلاته ومحاضراته وملاحظاته المكتوبة والشفهية عن تنظيم الدولة (داعش). ولعلَّه أراد بهذا الكتاب أن يجيب عن الأسئلة الفكرية والسياسية التي طرحت نفسها في أثناء بروز تنظيم (داعش) مستثمرًا انهيار الخيار الديمقراطي في مصر، في عام 2013، مع انقلاب المشير السيسي على الرئيس محمد مرسي، ومستغلًّا ضربات النظامين السوري والعراقي الدموية للجمهور المليوني الذي خرج مناديًا بالحرية والكرامة، فقام تنظيم الدولة (موضوعيًا) بدور استكمال ما بدأته الأنظمة من نحر الحركة الشعبية الديمقراطية. فأتى كتاب بشارة عن تنظيم داعش ليكشف المعنى العميق للربيع العربي (الذي ما زال حيًا)، وذلك من خلال التعريف ببشاعة أعدائه وانحطاطهم الاستثنائي.

قدّم بشارة شهادته أمام التاريخ في لحظة استكمال مشهد/ ظاهرة داعش على الملأ بعد أن قامت بأسوأ الفصول الدموية في هذا المعترك التاريخي الكبير، ولم يكتفِ بشارة في التفكير بداعش، ومفاهيمها المتداولة، وأساليبها في العمل والتحكُّم، وفي ظروف نشأتها وسقوطها، ودورها التاريخي الدموي في الثورة المضادة، بل وقف مليًا متبصرًا بالعوامل الذاتية لدمارها وانكسارها.

لقد عمل بشارة على تقسيم الكتاب إلى مقدمة وستة فصول، فيها من التاريخ الكثير، التاريخ الذي يسمح لنا بالتعرُّف إلى تنظيم الدولة في أثناء نشوئه وتطوره في سياقات تاريخية كشف بشارة عنها، وأضاء الفصول التي مرَّ بها التنظيم زمنيًا وموضوعيًا، كيف ولد وانتعش، بعد أن كان خائر القوى، فأتت أنظمة الثورة المضادة، في سوريا والعراق، من خلال بطشها بالجمهور المسالم، فأيقظت فيه الحياة بعد موتها، وسجَّل الكثير من الأفكار والمفاهيم، حلل وفكك فيها ادعاءات التنظيم ودعاواه حول صلته الزائفة بـ (السلف)، في الوقت الذي كان يعبِّر فيه، من خلال مفاهيمه، عن أشد السلوكيات (الحديثة) عنفًا التي استوردتها من الأوجه السوداء للحداثة، وفي الوقت الذي يدعي فيه أنه ينتمي إلى الخلاصات النقية للماضي، يكشف بشارة أنه الصور البائسة عن بشاعة الحاضر وردَّا منحطًا عليه، وأنه في تركيبه التنظيمي إنما يستعير الشاذ والمشوه من التحديث. وفي كل ذلك كان فكر بشارة يشتغل على زيف الادعاءات التي تعيد مفاهيم داعش إلى الإسلام، وليكشف المنطق الجوهراني الكامن في كل تحليل مشابه.

لا يخالج بشارة الشك بأنه أمام ظاهرة معقدة للغاية، تحتاج إلى منهجيات مركبة لاستيعابها، فينطلق من فرضية مفادها "أن فهم ظاهرة مركّبة سياسية واجتماعية ودينية مثل تنظيم الدولة الإسلامية يستدعي رؤية مركّبة وتعددية في زوايا النظر وهو ما يُفضي إلى نوع من مقاربة منهجية تكاملية تتداخل فيها الاختصاصات وتعبرها في آن واحد. فلا يمكن الإمساك بظاهرة من هذا النوع من دون النظر إليها من زاوية النظر التاريخية والسوسيولوجية والفكرية والسياسية، ومن دون تحليل الخطاب ونقد الأيديولوجيا، فضلًا عن فهم موقعها ونشوئها وتطوّرها ووظائفها في سياق الصراع السياسي في ظلّ ضعف الدولة وصعود الهويات الطائفية وتسييسها. والتحليل"[1].

وقدّم بشارة في فصله الأول كشف حساب للأبحاث السابقة حول (داعش)، ثم تلاه في الفصل الثاني بإطلالة على التحولات التي أصابت مفاهيم الجهاد من اعتباره أداة أو وسيلة دفاعية إلى النظر إليه كغاية في حد ذاته، عندما تحول لدى الجهاديين إلى أيديولوجية صماء. وتتبّع في الفصل الثالث سيرورة تمايز تنظيم داعش عن تنظيم القاعدة، ولقد أطلق اسمًا معبِّرًا للفصل الرابع: (لا تبقى إذا لم تتمدَّد)، فيعلِّق بذلك بقاءه على استمراره في الغزو ومعه الغنيمة والاستقالة من الإنتاج! ويلقي نظرة متفحصة، في الفصل الخامس، على الحياة في ظل (داعش)، ويدرس في الفصل السادس أهم منظري (داعش).. وستختار الدراسة عناوين الفصول التي وضعها المؤلف كمحددات لدراسته، مع إضافة عناوين أخرى للوقوف أمام موضوعات لافتة.

فيرى بشارة أنه لا يمكن فهم ظاهرةٍ من نوع تنظيم الدولة (داعش) باختزالها في ميزة واحدة أو أكثر تجمعها مع ظواهر أخرى، كما لا يصح اختزالها في ما يميّزها من باقي الظواهر، فمن المجدي أخذها من زوايا نظر عدّة، وهذا يستوجب تداخلًا في مناهج علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية وعلم النفس والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار وغيرها؛ إذ لا يمكن مثلًا فهم تنظيم داعش باعتباره امتدادًا للسلفيّة، أو تمظهرًا لفكرة خلافة إسلامية تبرز وتختفي في مراحل تاريخية مختلفة، بحسب بعض الباحثين الذين اندفعوا لعرض فكرة الخلافة وانتشارها لفهم هذا التنظيم، فأخفقوا في رأيي، مثلما أخفق الذين حاولوا اشتقاق تنظيم الدولة من النصوص الدينية والإيمان الحرفي بها، أو من وقائع وأحداث من التاريخ الإسلامي، مع أن التنظيم يستند إليها في تبرير ممارساته. (ص23). لكن، لا يمكن تجاهل استخدام التنظيم نصوصًا إسلامية، متجاوزًا الأداتية منها ومركّزًا على الفكري – الفقهي، حتى وإن كانت هذه النصوص انتقائية تخدم أغراضه المعاصرة، فالتنظيم هو حركة دينية أيضًا، وتحاول إعادة تقديم الأحكام والفتاوى الفقهية وتنزيلها على "نوازل" معاصرة. ثم لا يمكن فهم عنف التنظيم من دون أن نأخذ في الحسبان أنماط العنف السائدة في دول الاستبداد... وعلى الرغم من أنّ السلفيين ليسوا كتلة واحدة صلبة، فإنه لا يمكن إغفال أنّ الفكر الديني الذي يتبنّاه التنظيم يُعلن عن نفسه بوصفه فكرًا سلفيًا جهاديًا (ص24).

ويؤكد بشارة أنه لا يكفي القول بفشل الدولة وحده لفهم داعش، فلا بد من وضع الظاهرة في سياقها الاجتماعي والتاريخي والسياسي من دون إهمال مميزاتها الفكرية والدينية أيضًا. (ص25 -26). وهذا التطور التاريخي يصيب تأثيره، أيضًا، تشكُّل المفاهيم واستحداث معانٍ جديدة لها، مثل مصطلح الجهاديين، ومصطلح الإسلاميين، فهما غير معروفين في تاريخ الإسلام؛ إذ نجد ألفاظًا مثل مسلم ومجاهد، لكننا لا نعثر على "جهادي" و"إسلامي"، فتتحوَّل ممارسة ما إلى مهنة أو تفرّغ أو أيديولوجيا. فالجهادي يحوّل الجهاد إلى أيديولوجيا موجِّهة للممارسة، وتصبح مهنةَ للجهاديّ، مثلما لا يكفي الإسلامي التعاطي مع الإسلام بوصفه دينًا، ولا حتى فرائض يمارسها وقيمًا أخلاقية، بل يتعامل مع الإسلام أساسًا بوصفه أيديولوجيا موجِّهة في العمل السياسي، أما إصلاح الدين، فوظيفة المتديّنين والفقهاء الإصلاحيين، وليس وظيفة مراكز الأبحاث العلمانية (ص26-27).

ثم لخّص المشكلة الأعمق التي تشكل جذر الأزمة الفكرية للإسلاميين، الذين بدؤوها بوضع الشريعة فوق الأمّة، والأمّة الإسلاميّة المتخيّلة فوق المسلمين الحقيقيين الفعليين، فعمل تنظيم داعش بدوره إلى دفع المشكلة على نحو أعمق حينما وضع (جماعته الإسلامية الصغيرة) فوق الأمّة والمسلمين "الفرقة الناجية"، وفي سبيل هذه الغاية "تحرّر من أي اعتبارات دينية وأخلاقية لمصلحة جدلية العدو والصديق التي تميّز الفكر السلطوي الشمولي " (ص 29). ويذهب بشارة إلى القول: عندما تؤدلج السلفية الدين تفصل بين الدين والأخلاق أو تضحي به، وهذا يوازي "الفصل بين التقنيات (الفهم الأداتي للعقل) والأخلاق في الحداثة الأوروبية؛ وهو الذي أدّى إلى ارتكاب أفظع الجرائم في حالة الأنظمة الشمولية ". (ص29).

أولًا: مع المكتبة الداعشية

لقد أيد بشارة إعطاء الأهمية لعامل فشل الدولة، ورفض في الوقت نفسه، ما ذهب إليه المرحوم عبد الجبار من تأثير نظرية الخلافة أو تيارها على صعود داعش. فالحركات الإسلامية اهتمت بشعار: الحكم بموجب الشريعة على طريق بناء الدولة الإسلامية، ولم ينشغل تنظيم القاعدة بفكرة الخلافة. فينزل بشارة بالنقاش إلى الأرضي، قائلًا: "لا يجوز في رأينا التقليل من أهمية التأثر بمظاهر قمع السوريين وبث شرائط المذابح والتعذيب الذي تعرض له ناشطون في بداية الثورة، فإن أغلبية المتطوعين هاجرت إلى الجهاد بدوافع من هذا النوع وبدرجات متفاوتة من التديّن، لكن الأدلجة والتبني الكامل لأفكار تنظيم جبهة النصرة أو تنظيم الدولة، حصلا بعد الانضمام إليه والقتال في صفوفه". (61).

أما عن ميزة عنف داعش، فيرى بشارة: أن استخدام العنف الأقصى خارج نطاق الدولة القائمة لا يُميّز "داعش"، فاليساريون والقوميون متطرفون، وأيضًا عصابات المجرمين، والطائفيون مارسوا هذه الأساليب. لكن ما يُميّز "داعش" هو إخراجه الاستعراضي لإثارة الرعب وإضفاء الشعائرية عليها (ص62)، فلم تكن فكرة الخلافة أساس الجاذبية، بل الصراع الطائفي في العراق وشعور السُنة بالظلم بعد احتلال العراق وحلّ الجيش وتهميشهم، ولا سيما في مرحلة نوري المالكي، والأهم من هذا كله فشل الدولة في العراق وسوريا، وعنف النظام السوري، (ص65).

فلقد "ساهم الاحتلال الأميركي للعراق بتفكيك الدولة العراقية بشكل كامل... وقامت قوات الاحتلال الأميركي والحكومات العراقية بعد الاحتلال بتعميق الصراع الطائفي في العراق، ما وفّر أرضية خصبة للجماعات السلفية المتطرفة. كما أن السياسات الطائفية لحكومة نوري المالكي دفعت تدريجًيا نحو تأييد أوسع للجماعات المتمرّدة المتطرفة" (ص71). ومن قلب هذا الحريق والانهيار تفجرت الطائفية، وازدادت خطورة واشتعالًا مع اندماجها بالسلفية الجهادية، فيقول "أعتقد أن من الصعب فهم ظاهرة داعش من دون فهم لقاء السلفية الجهادية مع الطائفية السياسية في العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003، وبشكل خاص بعد نشوء الفتنة الطائفية في عام 2006 التي ساهم التنظيم في إذكائها بهدف استدراج ردة الفعل الشيعية وتوحيد السنّة خلف قيادة مثله غير متهادنة مع الشيعة" (46).

ثانيًا: من المجاهدين إلى الجهاديين ومن الجهاد إلى الجهادية

الجهاد حجر الرحى لدى داعش خاصة ولدى السلفية الجهادية عامة، ولهذا خصص بشارة لهذا الموضوع الخطير فصلًا كاملًا: يستفتحه بالتعريفات للتدقيق وحصر المعاني. ولاحظ بشارة أن مصطلحي "الجهاديون" و"الجهاديّة" هما عمليًّا تعبيران عن أدلجة حديثة للجهاد، أو تحوّله إلى هدف قائم بذاته. وبدأت أدلجة الجهاد بصيغته الحديثة تلك في كتابات سيّد قطب، ولاحقًا عند عبد السلام فرج في كتاب الفريضة الغائبة الذي جعل الجهاد فرض عين وليس فرض كفاية، أما جهاديو الثمانينيات... فلم يقوموا بعمليات إرهابية. كان هؤلاء مدفوعين بدوافع دينية، فإنهم لم يكونوا إسلاميين بالضرورة (ص102).. ثم بعد المرحلة الأفغانية "طورت حركة الجهاد دينامية خاصة بها " (ص105)، واتجهت إلى العديد من الجهات طلبًا للجهاد بدوافع شتى، بما فيها "العلاقات الشخصية" (ص106). ويذكِّر بشارة بتنوع صور السلفية الجهادية فهي عنده "أطياف منوّعة داخلها". بل تحول الجهاد لدى (أبي بكر ناجي) إلى عبادة، فيضع بشارة هذا التنوع ضمن قطبين "القطب الأول السلفية التقوية أو الطهرانية المهتمة أساسًا بنقاء العقيدة والمتزمتة لناحية الالتزام الشرعي بظاهر التديّن وفق الاعتقاد السلفي، وفي أقصى القطب الثاني تيارات إسلامية سلفية جهادية نجد من يولي الجهاد الاهتمام الأكبر، كما نجد من يشدّد أكثر على تفصيلات العقيدة وممارسة التديّن في الحياة اليومية (ص109-111).

ثالثًا: تنظيم الدولة. سيرورة التمايز من القاعدة

أدرك بشارة بدقة التمايز الذي اتسم به تنظيم القاعدة في مرحلة مواجهة الاحتلال الأميركي والفئات الحاكمة التي تعاونت معه في إدارة العراق، أتى هذا التمايز تبعًا للتبدلات التي طرأت على (أصل العدو وفصله)، وعلى ما يحيط به من وضع سياسي - اجتماعي، فقد" كان تركيز القاعدة في مرحلة ما يسمى "جهاد النكاية" على الحرب ضد أميركا باعتبارها أساس النظام القائم في الدول الإسلامية.. أما الزرقاوي وخليفتاه أبو عمر البغدادي وأبو بكر البغدادي فرأوا في الشيعة وإيران الخطر الداهم والعدو الرئيس للأمة، وتحديدًا في الساحة العراقية" (ص121). وما إن نصل -مع بشارة - إلى مرحلة أبو عمر البغدادي (أمير المؤمنين بدولة العراق الإسلامي)، حتى يختفى التمايز عن تنظيم الدولة (داعش)، ويصبح الحديث عن الأخير يتضمَّن الحديث عن الأول، ويصبح الرجال الثلاثة الزرقاوي وأبو عمر البغدادي وأبو بكر البغدادي داخل نسق تنظيمي واحد وفي كنف منزل واحد (الدولة أو خطابها)، وحافظوا على مسافة من قيادة القاعدة، فيقول بشارة عن الزرقاوي: "يمكن اعتباره أبا الدولة الإسلامية في العراق" (ص123). فقلل بشارة من أهمية الخلاف الفقهي والسياسي بين قيادة تنظيم القاعدة وتنظيم جماعة الزرقاوي، وأعطى الأرجحية والأولوية في خلافاتهما إلى الصراع على النفوذ والمكانة والزعامة.

رابعًا: سجال داخل السلفية الجهادية: اندماج الطائفية بالإسلامية

يرى بشارة في ذلك الزواج الذي أحدثته (جماعة الزرقاوي) في (جهادهم) ما بين الطائفية والإسلامية، ينطبق على تنظيم داعش نفسه، لذا نجد أن تعريفه لداعش ينطبق تمامًا على المرحلة الزرقاوية، أو مرحلة دولة العراق الإسلامية (أبو عمر البغدادي)، حين يقول "إن «داعش نتيجة لقاء بين السلفية الجهادية والطائفية، وردة كبرى عن التمدن العربي". حيث ارتبطت وحدة الدولة بالاستبداد، وقع لقاء شديد الانفجار بين السلفية والجهادية والطائفية "[2]. وذكَّر بشارة بتبرؤ أبو عمر البغدادي من التبعية لتنظيم القاعدة، بل تأكيده تبعية الأخير لـ (دولته)، حينما قال "ما القاعدة إلّا فئة من فئات دولة الإسلام" (ص185). واعتبر بشارة أن تجربته في سوريا والعراق بعد عام 2014، هي تجربته الثانية قياسًا على تجربته الأولى في العراق، فيقول "تبنّى تنظيم الدولة بعد سيطرته على مساحات واسعة من سوريا والعراق نهجًا أكثر تشددًا في التعامل مع المجتمعات المحليّة مقارنة حتى بتجربته الأولى في العراق (2006-2009) عندما كان يسمي نفسه "دولة العراق الإسلامية" (ص199).

خامسًا: لا تبقى إذا لم تتمدد

يختصر بشارة استنتاجاته حول مصير داعش بهذا العنوان: إذ إنّ خيار داعش الوحيد (الانتصار المتعاقب أو الموت!)، لم تترك في نظرتها لنفسها (الطائفة المنصورة) وللعالم (الذي يعلوه الكفر) وفي ممارستها الفعلية سوى هذا الاستنتاج: الغزو والغنيمة أو الموت! وقد ميَّز بشارة بدقة بين نشوء التنظيم الجهادي السلفي من جهة وظروف النشأة من جهة أخرى، والتي ترتبط بتاريخ الحركات الجهادية وتقاطعها مع السلفية في مرحلة تراجع التيارات اليسارية وظهيرها العالمي، والتيارات القومية، ولا سيما بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 وأزمة الأحزاب القومية في الحكم من جهة، فتمدَّد هذا التنظيم مستغلًّا هذه الظروف. من جهة أخرى، وكان بدونها سيبقى تنظيمًا صغيرًا في الدولة المعاصرة، فارتبط تمدّده بفشل أنظمة الحكم المتداخلة مع بنية الدولة والمجتمع على نحوٍ قاد إلى فشل الدول ذاتها. وأدّى تمدّده المتسارع نفسه إلى فقدان السيطرة ومواجهة أعداء كثر وإجماع دولي على القضاء عليه وعلى خطره. ومع توقّف التمدد، بدأ الانحسار والاندثار لأنه غير قادر على إنتاج نفسه اقتصاديًا داخل حدود، أي من دون تمدد وغنائم. على حفظ الذات وإعادة إنتاج سلطته على السكان، قام تمدده مع انحسار نفوذ الدولة القائمة في العراق وسوريا، وفشلها في التعامل مع الناس بصفتهم مواطنين، "إلى درجة شن الحرب عليهم مباشرة في بعض الحالات كأنهم عدوّ في حالة حرب مع الدولة، وليس في صراع سياسي مع نظام حاكم" (ص158 -159).

ويذكُر بشارة، أنه ساد ما يشبه الإجماع بين الباحثين "أن السياسة الأميركية المعتمدة على نظام المحاصصة الطائفية السياسية، وتفوّق مكانة الشيعية السياسية في إطار هذا النظام في العراق، وحلّ الجيش العراقي والتمدّد الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، واعتماد النظام في سوريا على الولاءات الطائفية والاجتماعية التقليدية العشائرية والجهوية والعنف المتطرّف والمفرط في قمع الحراك الشعبي الواسع في المدن والأرياف الذي انخرطت فيه جموع غفيرة في مسرح الفعل التاريخي، باحثة عن صوت ودور لها.." (ص160). كما ساهمت دول الخليج في دعمها للتنظيمات الإسلامية المتنافسة في ما بينها في تشظِّي المعارضة السورية (المعارضة الديمقراطية والإسلامية)، ولم تنجح تلك الدول في الاتفاق على دعم الجيش السوري الحر بوصفه بديلًا، فتغير المشهد السوري، وانقلب من "ثورة الناشطين الديناميين المتطلّعين إلى بناء دولة الحق والقانون والانتقال الديمقراطي إلى مرحلة اختُطِفَت فيها الثورة السورية، في أثناء تمدد داعش بالقوة والحيلة دون حاضنة شعبية. ويؤكد بشارة، هنا، أنه ليس هناك من حاضنة اجتماعية لداعش بل هناك حاضنة واسعة للاحتجاج على (النظام) (ص161).

وأعاد بشارة إلى الذاكرة تصدي الصحوات والجمهور لتنظيم دولة العراق الإسلامية، ففي عام 2006 بعد مقتل الزرقاوي (اغتيل في 7 حزيران/ يونيو 2006)، أُسّس مجلس إنقاذ الأنبار بقيادة الشيخ عبد الستار الريشاوي. وانتشرت بعد ذلك في محافظتَي صلاح الدين وديالى وغيرهما. فشهد التنظيم تراجعًا في شعبيته إلى المستويات الدنيا (ص164). وبعد طرد تنظيم دولة العراق الإسلامية عمليًا في عام 2008، تفرّق مقاتلوه في الأرياف والصحارى وفي سوريا. لكن توقف هذا التدهور خلال عهد نوري المالكي الذي واجه الصحوات بالعداء، فقد سرَّح منهم الكثير، وحرمهم من الرواتب ومن الوظيفة في الدولة، وطال حُكم الإعدام غيابيًّا على قادة سنّة مشاركين في العملية السياسية، من أبرزهم نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، والنائب أحمد العلواني، ووزير المالية رافع العيساوي. وردًّا على ذلك ازداد التصلُّب لدى السياسيين السنة، وأخذ هذا التصلُّب والعداء طابعًا طائفيًا لدى الحركات الإسلامية، وكانت أكثر الحركات عداءً للشيعة هو تنظيم الزرقاوي (التوحيد والجهاد، الذي خلفه تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) الذي أصبح لاحقًا دولة العراق الإسلامية، ووصل عداؤها وتكفيرها العقيدي للشيعة عند أبي بكر البغدادي إلى مستويات غير مسبوقة. وساعد التنظيم في تلك الفترة فشل الرهان المجتمعي السنّي على المشاركة السياسيّة بدعم القائمة العراقيّة بقيادة إياد علاوي الذي فاز في الانتخابات، وحرمه الاتفاق الأميركي الإيراني من السلطة (ص166-167). وتراجع الصحوات عقب الانسحاب الأميركي، وارتقاء نوري المالكي مع سياسته المعادية للصحوات. فيرى بشارة أن "انتعاش تنظيم الدولة يعود، في عامي 2011–2012، إلى عاملين رئيسين: أوّلًا، انسحاب الولايات المتحدة من العراق وتولّي المالكي رئاسة الحكومة دورة ثانية ووقف دعم الصحوات؛ وثانيًا، شن نظام الأسد حربًا شاملة على الثورة السورية، ونشوء "مناطق محرّرة" خارج سيطرة الدولة بجهود الجيش السوري الحر وغيره من الفصائل.

أما في سوريا فقد استخدم النظام، بحسب بشارة، التعبئة الدينية الجهادية ضد احتلال العراق، وسمح "للجهاديين"على الالتحاق بالجهاد في العراق، وكان مصير كلّ من يعود من العراق السجن أو القتل، وفي بداية الثورة السورية أصدر النظام عفوًا رئاسيًا عن المعتقلين الإسلاميين في سجن صيدنايا في 31 أيار/ مايو 2011، فأسس بعضهم  فصائل مسلّحة أو أصبحوا قادة في فصائل إسلامية مسلّحة، مثل أبي عيسى الشيخ الذي تزعّم صقور الشام، وأبي عبد الله الحموي (حسان عبود) الذي أسّس حركة أحرار الشام وقادها، وزهران علّوش قائد جيش الإسلام ومؤسّسه. (ص176). فعمل كلٌّ منهما (النظام والجهاديين) على تصفية هذه المعارضة، وأجَّلا القتال بينهما إلى حين التخلُّص من هذا العدو! كان الاثنان في خندق الثورة المضادة، وهدف كلِّ منهما التفرد بالسلطة.

سادسًا: عن الحياة في ظلّ داعش

يختصر بشارة مشهد الحياة في ظل تنظيم الدولة، بالقول إنه طبق نظامًا "بحسب فهمه الفقير للشريعة الإسلامية"، فحولها "إلى مجموعة من التحريمات والعقوبات"، فرض فيها "تغييرات على الأنماط الحياتية في محاولة لاستبدالها بأخرى قادرة على إنتاج فرد مسلم يدين بالولاء المطلق للتنظيم وأفكاره، وكأنهم أرادوا هندسة مسلم جديد على نمط تجارب الأنظمة الشمولية" (ص199) الفاشية أو الشيوعية

سابعًا: منظّرون

لاحظ بشارة أنّ التيار السلفي الجهادي لم يتأخر في نقل ولائه الفكري من سيّد قطب إلى الوهابية، حين وقع في إغواء مفهوم الوحدانية المجرّدة ومعها التفسير المتشدّد للولاء والبراء في تفسيراتهما الوهابية، فأصبحت كتابات ابن تيمية وتلامذته وعلماء الفكر الوهابي تُمثّل مراجع حتى إن "بعض الكتابات الرسمية لتنظيم الدولة الإسلامية ليس أكثر من اقتباسات طويلة من كتابات الوهابيين" والتي حملت معها التبرير لمحاربة الشيعة في العراق، في ظرف كان العراق جاهزًا لاستيرادها (ص 229). وتتمثل أبرز مراجع تنظيم الدولة، بحسب بشارة، في العديد من الأعمال السلفية الجهادية: إدارة التوحّش لأبي بكر ناجي، وفقه الجهاد لأبي عبد الله المهاجر، وكتاب العمدة في إعداد العدّة لعبد القادر بن عبد العزيز" (ص231). وأيضًا كتاب (مد الأيادي لبيعة البغدادي).

 فأبو عبد الله المهاجر شكّل "مصدرًا مباشرًا لتبرير كثير من الممارسات الدموية، وتتفوّق كتاباته على أهمية كتاب أبي بكر ناجي إدارة التوحّش لناحية التأثر به والاعتماد المباشر عليه، فأسلوبه في تجميع الفتاوى لتبرير أعمال العنف غير العادية هي محل تقليد عند شرعيي التنظيم، وأشاد به أبو مصعب الزرقاوي قبل ذلك.. واعتبر بشارة أبا بكر ناجي صاحب كتاب "إدارة التوحّش" الشخصية المرجعية الثانية لتنظيم الدولة، فيشبِّه بشارة الفوضى التي يصفها ناجي "بالفوضى التي سمّاها توماس هوبز الحالة الطبيعية.. وإدارة التوحّش هي إدارة هذه الحالة. بالطبع يتم ذلك أيضًا بأساليب متوحشة" (ص234). وحالة التوحش ليست عند ناجي حالة ما قبل الدولة، بل حالة تنشأ رغمًا عن الدولة، أو بسبب فشل دولة أو انهيار إمبراطورية، أو على هوامش الدول وفي مناطق التخوم. وإدارة التوحّش هي إدارة هذه الحالة، ويتم تأمين الحد الأدنى للحياة، وهذا الوصف يشبهه بشارة بالمناطق التي سيطر عليها (داعش)! وميَّز ناجي بين الحاكم الظالم والحاكم الكافر أو المرتدّ. في الحالة الأولى لا يُلزم الإسلام بدفع الظلم، بل ينصح بالصبر على الحاكم الظالم المسلم. أمّا الحاكم الكافر أو المرتدّ، فالخروج عليه فرض عيْن"، ويسخَر، مقتديًا بأبي قتادة الفلسطيني، من دعاة الحفاظ على الرابطة الوطنية، فيتبنى خطابًا يجمع بين الولاء والبراء ومعاداة الوطنية، وليس الاستقرار عنده، في ظل الكفر، مصلحة، بل إفساد (ص235 -237). وهو "مع اتّباع سياسة الشدّة، بل إنّ القسوة المروّعة مقصودة، ولها هدف إستراتيجي، وهو التخويف والردع. وربما يمارس المنفّذون هذه الأعمال بدوافع ذات علاقة بنفسيات سادية؛ لكن المهم في الحالتين هو تعطيل الروادع الأخلاقية وعناصر الرحمة والرأفة في الدين " (ص244). فيصل بشارة إلى استنتاج مفاده، أن الجهاديين السلفيين يحملون بالمجمل "خطابًا فاشيًا تطهّريًا يدّعي النقاء و"النظافة" من نوع خطاب أتباع الأنظمة الشمولية مع حلول مصطلحات الطهارة والنجاسة محل هذه المصطلحات في حالة السلفية الجهادية" وهم يعمدون في ذلك "إلى آراء الفقهاء المختلفة المتباينة التي كانت رهينة عصرها وأوانها وفق أعراف القتال في ذلك الوقت، فيختارون  أكثرها فحشًا وأفظعها سوءًا وأبعدها عن الأخلاق (ص242)

يختم بشارة بحثه المُعمَّق في جغرافية خطاب (داعش) مع المهاجر، الذي لا يرى فيه بشارة أنه صاحب منهج، أو استراتيجية، فهو في كتابه (فقه الدماء، أو فقه الجهاد) يقتصر على جمع ركام من المرويات لتبرير سفك دماء العدو، فهو "لا يناقش إستراتيجية أو يحلل وضعًا أو يبلور فكرًا، بل هو مجموعة من التبريرات لاستخدام العنف المتطرف والتفنن فيه"، والمهاجر نفسه اعترف، بأن " كتابه مسائل في فقه الجهاد ما هو إلا جمع وإعداد، لا تأصيلًا ودراسة وتفقّهًا، لذلك جاء على غلافه" جمع وإعداد أبو عبد الله المهاجر.. يتبع المؤلف تقليدًا لدى السلفيين والحركات الإسلامية في مقاربة الشريعة كأنها مجموعة قوانين وضعية (على عكس ما يدّعي)؛ إذ تطالب بتطبيقها كأنها قوانين، لكن الفرق أن سلطة تشريعية سماوية سنّتها، وبالتالي هي مقدّسة وتصلح لكل زمان ومكان. وضمن هذا التقليد نقل المهاجر من أقوال الفقهاء ما أساء فهمه، واجتزأه  وانتقى منه، وغفل عن أنهم يتكلمون عن ديار كانت علاقتها بالمسلمين في تلك الأزمنة علاقة حرب، ولم يكن ثمة قانون دولي يجعل السلم (نظريًا) قاعدة بين الدول والشعوب (ص287-288).

ويذكِّر بشارة: إن مفهوم دار الكفر ودار الإسلام مفهوم "اجتهادي" ينتمي إلى سياق تاريخي، وهو قابل للتطوير (في ذاته)، ولم يتفق عليه الفقهاء طوال العصور، ولا على مناطاته. وإن السرخسي الحنفي يقرن دار الاسلام بالأمان، وأن ابن تيمية وصف، أو نسب الدار بساكنيها لا بالأحكام المطبقة فيها، ثم يطرح سؤالًا استنكاريًا، مشوبًا بالاستفظاع: ما الذي يجعل أحدًا يجمع 600 صفحة ليسوّغ تكفير الناس وقتلهم وقطع الرؤوس والتحريق والتغريق وغيرها من الفظائع؟ (ص298-300). فيختم مقاله بالآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي﴾ (النحل: 90)، فهل يفقهون؟!

خاتمة: المصير، وضرورة المراجعات في صف الإسلاميين

لم يتحدث بشارة كثيرًا عن السيناريوهات الممكنة التي تنتظر التنظيم، كان في لجة المشكلة، وفي نقطة المحرق منها، والتي من خلالها يمكن أن يبصر القارئ خطوط النهايات بعد أن أرخى له خطوط النشأة والتطور والإطار التاريخي المحيط بالظاهرة والقوى المحركة لها، فقد ضمّن  بشارة وصفه لظاهرة (داعش) بتنبؤات تحمل الدمار له، لأن كل مصادر قوتها يحمل معنى المؤقت، ويستنزفه الزمن، في التوازي مع تنامي الغضب، غضب الناس قبل الحديث عن العوامل الدولية، فقد تشابه التركيب الاقتصادي للتنظيم مع واقع النظام الاقتصادي للقبيلة البدوية. موردها الأساسي مصدره إنتاجها الخاص، أما المصدر الثاني فمن الغنائم، أي من الغزو. (ص205). واعتمد التنظيم على بيع النفط، والغاز وتهريب الآثار، فعمل كل ما يمكنه كي يصنع (المُسلِم) القاسي الخشن، عابس الوجه، خارج دائرة العمران والحضارة. فعلى الرغم من صعود تنظيم الدولة العاصف، فإن بشارة لاحظ عوامل تدميره الذاتي قبل الخارجي، إذ إن "من أهم مشكلات اقتصاد تنظيم الدولة هو أنّ أغلبية الميزانية تذهب لتمويل الجهاد، أو ما يمكن اعتباره المصاريف الحربية والأمنية ورواتب المقاتلين، كما أسلفنا. وفي هذا السياق نشأت توترات عدة نتيجة المزايا التي تمتع بها المقاتلون الأجانب لناحية الرواتب. ويبدو أنّ فروقًا كانت بين رواتب الأجانب التي وصلت في حالات الذروة إلى 1000 دولار في الشهر، ورواتب المحلّيين التي يقدّر بعض الباحثين أنّها كانت أقل" (ص195). لا شك في أن الحركات السياسية الإسلامية، والتيار الإسلامي عمومًا، تمرّ بأزمة عميقة نتيجة انكشاف نهج هذا التنظيم وحجم ارتكاباته، والتي شملت آثاره السلبية مجمل الحركات الإسلامية، بل أثارت نفور الأغلبية الساحقة من المسلمين أيضًا.

أصيبت الحركات الإسلامية بانتكاسات عدة. لكنّ فشل تجربة الإخوان المسلمين القصيرة جدًا في حكم مصر بالانتخاب، واختتامها بانقلاب عسكري، ثم اتضاح معالم تجربة داعش (النقيضة لتجربة الإخوان الانتخابية في مصر) وتنفيرها الناس من العمل السياسي الديني عمومًا، هما مكوّنا الانتكاسة الأعمق للتيار الإسلامي بمعناه الواسع، وهي الانتكاسة الراهنة. فهي تجمع بين ضربتين قاصمتين لتوجّهين أساسيين متنافرين في العمل السياسي الديني تقع بينهما أغلبية اتجاهات التيار السياسي الإسلامي؛ إذ ما عاد أيٌ من التوجّهين قادرًا على الادعاء أنه يشكل بديلًا من الثاني، فكلاهما ساق ممارساته إلى نهايتها القصوى عبر ممارسة السلطة وإدارة المجتمع. وكلاهما فشل في ذلك في سياق تفاعل ظروف داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية أحبطتهما. وكانت النتائج وخيمة. فلا بدّ إذًا من مراجعة نقدية شاملة لمجمل الفكر والتجربة. مع أن الكاتب يميل إلى عدم شمل تنظيم الدولة داخل الحركات الإسلامية السياسية، لأن هذا التنظيم في الحقيقة مناهضٌ للسياسة وأدوات العمل السياسي؛ أي يفتقر إلى الحدّ الأدنى المطلوب لتسميته حركة سياسية، لرفضه التعامل مع الدولة أو العمل السياسي في إطارها، أو حتى السيطرة عليها. فهو لا يهدف إلى السيطرة على مؤسسات دولة قائمة، بل يقيم دولة بديلة منها على حدّ زعمه. أما براغماتيته البالغة في استخدام العنف وتبرير الوسائل بالأهداف من دون أي اعتبارات أخلاقية، بهدف إخضاع خصومه أو التقدم عليهم، فلا يكفيان لاعتباره حركة سياسية بالمعنى (ص20).

 


[1] عزمي بشارة، إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة، في كتاب تنظيم الدولة المُكنّى (داعش)، الجزء الأول، الدوحة، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018، ص19.

[2] عزمي بشارة، "المسألة الطائفية وصناعة الأقليات في المشرق العربي الكبير"، مجلة عمران، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠ ١ ٥ شتاء – العدد11، المجلد الثالث، شتاء 2015، ص16-17.