قراءة في خلفيات مغامرة النظام الأخيرة في درعا

2021.08.02 | 06:05 دمشق

5bbc3626-0c50-4e69-a034-4f5d6c1f8046.jpeg
+A
حجم الخط
-A

بات مقطوعاً فيه أنّ درعا هي مهد الثورة وشرارتها الأولى، وقد بقيت حتى اللحظة الحامل الأقوى لشعلتها. من ينظر إلى هذه المحافظة بمركزها الإداري المتمثل بمدينة درعا وبمدنها الكبرى وقراها المختلفة، يرى بيارق لم تُنكّس ومشاعل لم تنطفئ، يرى حُلماً لم يخمد وتوقاً للحريّة لم يخبُ، يرى نساءً ورجالاً لم يستكينوا للذلّ والهوان، يرى مستقبل سوريا المناهض للديكتاتورية الطامح للتغيير.

مرّت الثورة السوريّة بأطوار مختلفة، ودرعا كانت جزءًا من كلّ سوري، لم تكن استثناءً ولم تكن أسطورة، لكنّها كانت على الدوام مميّزة بشيء يخصّها. لن نتكلّم في هذا المقال إلا على السنوات الثلاث الأخيرة من عمر الثورة هناك. أي من تاريخ استعادة النظام السيطرة بشكل نهائي على كامل المنطقة الجنوبية، حتى نصل إلى لحظة المغامرة الأخيرة التي أقدم عليها النظام في محاولة اقتحام البلدة القديمة المعروفة بدرعا البلد.

التفاهمات والانهيار

تتويجاً للتفاهمات التي جرت بين وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، التي بدأت في موسكو في ديسمبر 2015، وانتهت بالاتفاق في مايو 2016 في جنيف، تم التخلي عن دعم فصائل المنطقة الجنوبية عام 2018 وإبلاغ قادة الجبهة الجنوبية بذلك. بمساعدة الطائرات الروسية تم شن حرب خسر بموجبها ثوار حوران والقنيطرة كامل الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها لأعوام خلت. هنا يجب ملاحظة أنّ السبب الوحيد لهذا النصر الذي حققته قوات النظام، كان الدعم الجوي الهائل للقوات الروسية، حيث لم تتوقف طائرات سلاح الجو الروسي عن التحليق في أجواء الجنوب على مدار أيام الحرب كاملة، ولم يكن بإمكان أيّة قوّة محليّة الصمود أمام هذه القدرة النارية الهائلة، المدعومة باستطلاع فائق التطوّر وتشويش إلكتروني رهيب لا يتناسب وقدرات المقاتلين على الجهة المقابلة.

قبل الحرب كانت هناك مفاوضات جرت في الأردن بين ضبّاط من الجيش والمخابرات الروسية وقادة الفصائل المسلحة، بموجبها عرض الروس عليهم (عدم دخول الجيش والأمن إلى مناطق سيطرة الفصائل، دخول الشرطة العسكرية الروسية فقط، منع التهجير وإعادة المهجّرين إلى مدنهم وقراهم، تسوية وضع جميع المطلوبين، إخراج المعتقلين الذين اعتقلوا في مناطق النظام، تسليم المعابر الحدودية بحيث يكون فيها موظفون مدنيون سوريون بحماية روسية لمدّة سنة، دخول مؤسسات الدولة المدنية للمناطق التي تحت سيطرة الفصائل، تعاون الفصائل المسلّحة مع القيادة الروسية لقتال داعش والنصرة والميليشيات غير السورية لإرساء الأمن والاستقرار، عدم سوق أي شخص للخدمة الإلزامية بجيش النظام لمدة ثلاث سنوات، تسوية وضع الضباط المنشقين، دخول المنظمات الدولية للإغاثة والخدمات الطبية والسماح بعودة اللاجئين الموجودين في المملكة الأردنية الهاشمية).

بعد مداولات كثيرة ومشاورات طويلة وشاقّة، وافق قادة الفصائل على هذا العرض، لكنّ غرفة العمليات المركزية وبتأثير الفصائل ذات التوجه الديني رفضت ذلك، وفرضت قرارها على الجميع بخطاب شعبوي عالي النبرة استخدم أسلوب المزاودات الجوفاء وتخوين الموافقين على العرض، وأصدرت هذه اللجنة المركزيّة بياناً حماسياً مصوّراً تعلن فيه استعدادها للمواجهة.

بدأت الحرب، وكان دور الطائرات الروسية حاسماً في تقدّم قوات النظام. هنا يجب ملاحظة أنّ الطائرات الروسية لم تتدخّل سابقاً في معارك النظام مع الثوار قبل هذه اللحظة، باستثناء مشاركة واحدة في معركة الشيخ مسكين حسب إفادات مؤكدة من أحد الأكاديميين الثقات من أبناء المنطقة. أثناء المعارك جرت مفاوضات بين عدد من قادة الفصائل والمدنيين من جهة، وبين ممثلة النظام كنانة حويجة بحضور الضباط الروس. كانت أول جولة على حاجز خربة غزالة، وجرت الجولات التالية في قلعة بصرى الشام. في النهاية تمّ الاتفاق على إيقاف الحرب ضمن شروط معينة يلتزم بها كلا الجانبين بضمانة الروس، وتنفيذاً لهذا الاتفاق سلمت الفصائل أسلحتها الثقيلة والمتوسطة كلها، ولم يعد هناك أية فصائل مسلحة في درعا بدءاً من صيف عام 2018، وهذا يعني أنّ الفصائل نفّذت جميع ما تعهّدت به في الاتفاق من بنود، يستثنى من ذلك فصيل شباب السنّة بقيادة السيد أحمد العودة، الذي احتفظ ببعض عتاده وأصبح تابعاً للفيلق الخامس المدعوم من روسيا ضمن مسمّى اللواء الثامن.

كان الروس خلال المفاوضات يشددون على عدم التهجير، وحتى أنّ أحد الأشخاص المحسوبين على أحرار الشام كان يطلب باستمرار التهجير، مما أثار حفيظة ممثلة النظام التي قالت له بتهكّم: لا تخف سأنقلك بسيارتي إلى الشمال ما دامت هذه رغبتك. والحقيقة أنّ كثيراً من المدنيين والعسكريين الذين فضّلوا الخروج مع قوافل التهجير كانوا من خيرة الثوار، لكنّ بعضهم كان مطلوباً لأهالي حوران بتهمٍ جنائية وبتجاوزات لا تُغتفر مثل تلك التي كان تحدث فيما كان يُعرف باسم دار العدل.

لم يلتزم نظام الأسد طبعاً بشروط التسوية التي اتفق عليها عبر ممثلته مع قادة الفصائل المسلحة عام 2018، ورغم رعاية الجانب الروسي وضمانته لتنفيذ كلا الطرفين تعهداته، فإنّ مماطلة النظام وتنصّله من جميع تعهداته كانت العنوان الأبرز للأعوام الثلاثة التالية لاتفاق التسوية المذكور.

تعهدات النظام والتزاماته

نتيجة للمفاوضات المذكورة أعلاه، تعهد النظام بما يلي:

  1. عدم سحب مقاتلي المعارضة للخدمة الإلزامية أو خدمة الاحتياط لمدة عامٍ كاملٍ قابلة للتمديد.
  2. تسوية أوضاع الضباط والجنود المنشقين وتسريح من لا يريد العودة منهم للخدمة وبقاؤه حراً في بلده.
  3. إلغاء المطالبات الأمنية على جميع المعارضين والثوار من أبناء المحافظتين.
  4. إطلاق سراح جميع المعتقلين من أبناء المحافظتين وبيان مصير المفقودين.
  5. إعادة الموظفين إلى وظائفهم والسماح لأصحاب المهن الحرة بمزاولة مهنهم مثل المحامين والأطباء والمهندسين...إلخ
  6. إلغاء القيود الأمنية ورفع الحجوزات القضائية وغير القضائية عن أملاك أبناء المحافظتين.
  7. عدم التعرض للمواطنين بالاعتقال والتضييق الأمني ومنع السفر.

لم يطبق النظام أي شيء من هذه التعهدات، ولم يستطع الروس إجباره على ذلك، باستثناء حالات قليلة لإطلاق سراح بعض المعتقلين، أغلبهم ممن اعتقلهم بعد التسويات، وإعادة بعض الموظفين للعمل. ولإيضاح هذه النقطة نورد المقطع التالي من تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن جزء من ممارسات النظام خلال الأعوام الثلاثة المذكورة.

(وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 1438 حالة اعتقال بينها 13 طفلاً و21 سيدة تم اعتقالهم من قبل قوات النظام السوري في محافظة درعا منذ تموز 2018 حتى تموز 2021، ومن بين حصيلة المعتقلين 124 شخصاً كانوا عسكريين قبل إجرائهم التسوية لوضعهم الأمني. من بين حالات الاعتقال ما لا يقل عن 837 شخصا ممن أجروا تسوية لأوضاعهم الأمنية. كما وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 986 شخصا بينهم 7 أطفال و4 سيدات لايزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري لدى قوات النظام السوري منذ تموز 2018 حتى تموز 2021، تم اعتقالهم في محافظة درعا من بينهم 93 شخصا عسكريا، ومن بينهم 473 شخصا ممن أجروا تسوية لأوضاعهم الأمنية).

سياسة النظام خلال السنوات الثلاث الأخيرة

اتّبع النظام سياسة القضم التدريجي للمناطق، والعمل مع قادتها المحليين بسياسة النفس الطويل لإعادة المنطقة إلى الحظيرة. فاستطاع شراء بعض ضعاف النفوس وتجنيدهم في ميليشياته المحلية من أبناء محافظتي درعا والقنيطرة، وهؤلاء باتوا عصاه الغليظة على رؤوس أهالي المحافظتين.

بسبب ضعف التجربة السياسية والمدنية، وبسبب الظروف الأمنية المتردية التي عززها النظام وحلفاؤه، وبسبب نقص أسباب العيش الطبيعية، لم يستطع قادة الرأي في المنطقة وأصحاب القرار تشكيل أي جسم سياسي أو مدني موحّد، رغم أنّ الروس أرسلوا إليهم أكثر من إشارة بهذا الخصوص، وجلّ ما استطاعوا تشكيله هو ثلاث لجان في ثلاث مناطق هي لجنة درعا البلد، ولجنة المنطقة الغربية (طفس)، ولجنة المنطقة الشرقية (بصرى الشام).

وجد تنسيق بين هذه اللجان في كثير من الحالات والقضايا لكنه كان ضعيفاً جداً وغير مثمر في أغلب الأحيان. من أهمّ أسباب ضعف التنسيق استمرار التنافس القديم بين القادة السابقين الذين بقوا في أماكنهم مع تغيّر صفاتهم. يمكن تسجيل بعض الاختلافات الأيديولوجية أيضاً، حيث يغلب الطابع الديني نوعاً ما على خطاب المسيطرين فعلاً في المنطقة الغربية وجزئياً في درعا البلد، بينما يغلب طابع شبه مناقض في خطاب المسيطرين في المنطقة الشرقية. يضاف إلى ذلك، انعدام الخلفية السياسية لقادة هذه اللجان بالمجمل، واعتدادهم الشديد بأنفسهم لدرجة عدم قبولهم سماع الرأي والمشورة والنصيحة من أهلهم الأكثر خبرة وتجربة ودراية منهم، وبالتأكيد العراقيل والمعوقات التي وضعها النظام أمامهم والتي لا مجال لحصرها وتعدادها. تعامل الجميع مع الأزمات بطريق ردود الأفعال، فلم يكن هناك أي قدرة على التخطيط الاستراتيجي والعمل المنظم الواضح الرؤية والأهداف والآليات.

أسباب التصعيد الأخير

جاءت الأزمة الأخيرة على خلفية إصرار الإيرانيين على تثبيت أقدامهم في الجنوب، ومحاولة إفهام الروس أنهم ليسوا ورقة بأيديهم، وكان هذا واضحاً من خلال استخدام الفرقة الرابعة التي ولاؤها وهواها إيراني بحت. يبدو أنّ النظام أراد إحراج الروس أيضاً بمناسبة مؤتمر عودة اللاجئين - الذي انعقد في دمشق أثناء حصار درعا - ورسالته أنني أسعى لتهجير سكان هذه المدينة، التي ضَمِنَ الروس اتفاقين مع أهاليها قبل ثلاثة أعوام، أثناء فعاليات المؤتمر المذكور. هي محاولة من النظام لكسر هيبة الروس من خلال إظهار عدم قدرتهم على الوفاء بتعهداتهم. من هنا لم يدخل الروس بالمعركة التي بدأها النظام بعد شهر من الحصار والتضييق، ولم يغطوها جوياً.

لا يمكن استبعاد التفاهمات الروسية الأميركية الأخيرة بشأن سوريا والتي نتجت عن اللقاء الأخير بين الرئيسين الأميركي والروسي قبل أسابع في جنيف. لا يمكن كذلك استبعاد ارتدادات زيارة وزير الخارجية الصيني إلى دمشق، ويبدو أنّ الروس أرادو إفهام النظام أنّ قوّتهم الجويّة حصراً هي التي أبقته واقفاً على قدميه، وليس الفيتو الذي لوّح لهم – عن طريق كتابة بعض الشعارات باللغة الصينية عن الصداقة بين الشعبين السوري والصيني، وعلى لسان أحد أبواقه البارزين خالد العبّود - بأنّ حليفه الصيني يملكه. ومن هنا يمكن قراءة زيارة المبعوث الروسي أليكسندر زورين إلى سوريا في العاشر من تموز الماضي أثناء حصار درعا. جاء زورين عبر مطار حميميم، ومرّ بدمشق ولم يلتق أيّ مسؤول سياسي أو أمني بها ألبتة، اجتمع حصراً بالزعيم المحلي في بصرى الشام أحمد العودة.

النهاية المتوقّعة

تدلّ المؤشرات على أرض الواقع - حتى لحظة كتابة هذه الكلمات – أنّ الأمور ذاهبة إلى التهدئة، ورغم التجاوزات الفردية التي يقوم بها عناصر النظام هنا وهناك، ورغم التحشيدات العسكرية المختلفة، فإنّ تصريحات القيادة الروسية في مركز المصالحة من جهة، وما يصدر عن بعض المسؤولين المحليين في أجهزة النظام من جهة ثانية، يؤكد أنّ هذه الجولة ستنتهي عند هذا الحد. يشترط النظام تهجير بعض الأفراد المعروفين بالاسم، وهؤلاء من مصلحة أبناء درعا تهجيرهم قبل النظام، وستسفر الجهود عن ذلك بلا ريب.

الخلاصة

تلقى النظام في حوران درساً قاسياً، وعليه أن يدرك أنّ أهالي المنطقة – كما أهل كل سوريا – لا يريدونه ولن يسكتوا على تجاوزاته أبداً. عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء، لقد ولّى زمن الخوف. شوكة النظام كُسرت على ثرى حوران وبأيدي شبابها الأغيار. هبّ الصغير قبل الكبير بحملة تضامن مع أهلهم المحاصرين في درعا البلد منذ اللحظة الأولى. اجتماعات ولقاءات عقدها المجلس السوري للتغيير على مستوى سوريا بأكملها، خاطب بها الجمهور السوري العريض، ونبّه إلى خطورة ما يجري على الأرض. وعندما بدأ هجوم قوات النظام، خرج الثوار من تحت صخور البازلت في كلّ مدينة وقرية ومزرعة في حوران، ولقّنوا النظام وميليشياته درساً لن ينساه أبداً.

والآن، العبرة لجميع السوريين، موالاة وحياديين، ثواراً ومعارضين، لا حول ولا قوّة لهذا النظام إن اتحدنا. علينا فقط أن نعرف كيف نستفيد من الفرص، وعلينا أن نخاطب الدول الفاعلة في الشأن السوري بخطاب المصالح المشتركة، لا بخطاب العاطفة البائسة. الحماسة والنخوة والفزعة تصدّ العدوان وتردع الظالم، لكنّ العقل والفكر والسياسة هي من تحصد النتائج وتحوّلها إلى حقوق مكتسبة ثابتة.

لنُعمل العقل فيما نحن فيه الآن، ولنُنحّ العواطف جانباً، لا مجال اليوم للوهن والتردد والتراجع. اللينُ مطلوب بحيثُ لا نُعصر، والصلابةُ واجبةٌ بحيثُ لا نُكسر.