أوروبا وأميركا
أنهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حالة الغموض السياسي وحالة التلاعب بالعقول التي سادت الفترة الماضي فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، وأكد على السمة البوتينية المتمثلة بالمباغتة والتحرك المفاجئ والتي انتهجها من جورجيا إلى سوريا إلى ليبيا إلى شبه جزيرة القرم.
أعلن بوتين انطلاق حملته العسكرية على أوكرانيا ليعلن انطلاق أكبر حرب في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصواريخه الباليستية التي أصابات ضواحي العاصمة كييف أصابات الأسواق المالية التي استيقظت على حالة من الارتفاعات والانخفاضات الحادة، حيث ارتفع سعر برميل نفط برنت إلى ما فوق 105 دولارات، وارتفع سعر أوقية الذهب إلى حدود 2000 دولار، وارتفع مؤشر الدولار الأميركي بحدود 1%، وارتفعت أسعار القمح بنسبة 7%، في حين هبطت أسواق الأسهم في كل أرجاء العالم بنسب متفاوته.
على صعيد الأسواق الناشئة فقد الروبل الروسي 9% من قيمته مع إعلان البدء بالعملية العسكرية، قبل أن يتدخل المصرف المركزي الروسي في أسواق الصرف ويقلص الخسائر بشكل مؤقت، أما الليرة التركية فقد تجاوزت حاجز 14 ليرة مقابل الدولار الواحد للمرة الأولى في عام 2022 وفقدت نحو 5% بالمئة من قيمتها.
سبق ذلك بأيام اعتراف موسكو باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين عن كييف، وقابل ذلك فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية عقوبات رمزية على بعض الشخصيات والمؤسسات الرسمية الروسية.
عكست تلك العقوبات حالة من الانقسام في الموقف الغربي بين موقف أميركي متشدد، وموقف أوروبي متحفظ تقوده ألمانيا وفرنسا متخوف من فرض عقوبات قاسية تستهدف قطاع الطاقة الروسي ومدى تأثيرها على اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي الذي بدأ بالانتعاش بشكل طفيف بعد انحسار جائحة كورونا.
في هذه المقالة سنركز على أكبر الرابحين والخاسرين من الأزمة الأوكرانية في منطقة اقتصاد اليورو وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية من وجهة نظر الاقتصاد السياسي من خلال تحليل الفرص المتاحة والتهديدات المتوقعة:
1- منطقة اقتصاد اليورو:
تستورد أوروبا 40% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، في حين تمر 30% من هذه الإمدادات عبر الأراضي الأوكرانية، الجدول الآتي يوضح بشكل تفصيلي مدى اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي:
الدولة |
نسبة الاعتماد على الغاز الروسي |
ألمانيا |
58% |
فرنسا |
24% |
إيطاليا |
40% |
فنلندا |
94% |
سلوفاكيا |
89% |
المجر |
73% |
النمسا |
100% |
مقدونيا |
100% |
ليتوانيا |
100% |
تبدو العلاقة الاقتصادية بين روسيا وأوروبا معقدة ومتشابكة، إذ تعتمد روسيا على أوروبا في الحصول على العملات الأجنبية وتمويل الاستثمارات، في حين تعتمد أوروبا على روسيا في الحصول على الطاقة وكثير من المواد الغذائية.
إن الحرب في أوكرانيا قد تتسبب بأزمة طاقة وارتفاع أسعار الغاز بشكل كبير، حيث ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 40% في المئة خلال الساعات الأولى للحرب على الرغم من استقرار الإمدادات، وقد كان ذلك واضحاً في تعليقات المسؤولين الروس على إيقاف ألمانيا لمشروع (نورد ستريم 2)، حيث صرحوا بأن ثمن المتر المكعب الواحد من الغاز سيصل إلى 2000 يورو في أوروبا.
وقد فشلت المحاولات الأوروبية والأميركية حتى الآن في إيجاد بديل للغاز الروسي على الرغم من المحادثات مع كل من قطر ومصر لعدم وجود البنية التحتية التي تخدم هذا التحول في أسواق الاستيراد.
وكان البنك المركزي الأوروبي يتباهى بالمستوى المنخفض بالتضخم في منطقة اليورو مقارنة ببريطانيا والولايات المتحدة وأنه ليس بحاجة لرفع أسعار الفائدة خلال عام 2022 أسوة بالبنوك المركزية الكبرى، ارتفاع أسعار الغاز نتيجة الحرب على أوكرانيا سيرفع التضخم بشكل كبير في اقتصاد اليورو ويدفع المركزي الأوروبي إلى رفع الفائدة أسرع من المتوقع وبالتالي كبح النمو الهش في الاقتصاد الأوروبي بعد كورونا.
كل هذا يحدث في ظل تحضير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للانتخابات الرئاسية، حيث يشكل التضخم الاقتصادي المنافس الرئيسي له، ومستشار ألماني جديد على رأس الحكومة الألمانية لم يفهم بعد التناقضات في الساحة الداخلية الألمانية، حتى وجد نفسه في خضم أزمة عالمية قد تقود إلى حرب عالمية ثالثة.
2- بريطانيا:
ارتفع معدل التضخم السنوي في بريطانيا في يناير إلى 5.5%، وهو أعلى مستوى منذ نحو 30 عاما، مما زاد الضغط على كلفة المعيشة. ورفع بنك إنكلترا أسعار الفائدة الرئيسية بربع نقطة مئوية للمرة الثانية في شهرين، في مسعى لاحتواء التضخم.
وعلى الرغم من أنّ المملكة المتحدة تحصل على معظم احتياجاتها من الغاز من بحر الشمال والنرويج، فإن الحرب التي اندلعت في أوكرانيا قد تعطل إمدادات الغاز في أوروبا، وتضرّ بخطوط الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
وإذا اختارت روسيا إيقاف الإمدادات لمعاقبة الغرب، يمكن أن يؤدي هذا إلى رفع سعر الغاز في أوروبا بشكل كبير، وفي المملكة المتحدة.
يأتي كل هذا في ظل تراجع شعبية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بين البريطانيين، في حين يهدد مشرّعون غاضبون من حزب المحافظين بالإطاحة به، وفتحت الشرطة تحقيقًا إن كان رئيس الوزراء قد خالف فعلاً القوانين التي وضعها هو بنفسه خلال جائحة كورونا.
3- الولايات المتحدة الأميركية:
لطالما عارضت أميركا مشروع (نورد ستريم 2) لما له من تأثيرات جيوسياسية من خلال سيطرة روسيا على أسواق الطاقة في أوروبا، وقد كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب قد فرضت عقوبات على الشركات المنفذة للمشروع قبل أن ترفع بعد وصول جو بايدن إلى سدة الرئاسة بهدف تحسين العلاقات مع ألمانيا.
وكان الرضا واضحاً في تصريحات المسؤولين الأميركيين بعد تعليق ألمانيا للمشروع كجزء من العقوبات على روسيا حيث أشاروا إلى أن (نورد ستريم 2 أغلق للأبد).
تتطلع أميركا للاستفادة من هذه الأزمة بهدف زيادة صادرات الغاز الأميركي إلى أوروبا، إذ إن أوروبا ظلت مستوردا رئيسيا للغاز الطبيعي المسال الأمريكي في فبراير الحالي ومن المتوقع أن تبقى أكبر وجهة للشحنات الأميركية لثالث شهر على التوالي، حيث بلغ اجمالي صادرات الغاز المسال الأميركي إلى أوروبا خلال يناير الماضي 7.3 ملايين طن.
ولكن في المقابل قد يعرقل ارتفاع سعر النفط الناتج عن الأزمة حرب الفيدرالي الأميركي على التضخم في الاقتصاد الأميركي الذي سجل أعلى معدل له منذ 40 عاما خلال الشهر الماضي.
الخلاصة:
تبدو أوروبا أكبر الخاسرين من هذه الحرب على المستوى الاقتصادي إلى جانب روسيا التي ستستهدفها العقوبات الغربية، في حين تجد الولايات المتحدة في هذه الأزمة فرصة لإعادة تطويع الحليف الأوروبي وإظهار أنه دائما سيبقى بحاجة للقوة الأميركية بالإضافة إلى استنزاف روسيا، ولكن هل ستدفع هذه الأزمة روسيا إلى تحالف استراتيجي كامل مع الصين وتشكيل تكتل عسكري واقتصادي مرعب في وجه الغرب؟