قراءة أولية في الاتفاق الأميركي – التركي

2019.08.12 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد مباحثات طويلة امتدت، في جولتها الثانية، على مدى 3 أيام، توصل الجانبان التركي والأميركي إلى اتفاق حول موضوع "المنطقة الآمنة" في شمال شرق سوريا. نشر الطرفان البنود الثلاثة نفسها من الاتفاق، بما ينفي احتمال وجود تباينات في فهم ما اتفق عليه. غير أن البنود المنشورة أقرب ما تكون إلى "اتفاق إطار" يحيل الموضوع الذي كان مختلفاً عليه إلى "لجنة مختصة" باسم غرفة عمليات مشتركة تم الاتفاق على إنشائها "في أقرب وقت" في أنقرة من ضباط أميركيين وأتراك من أجل وضع تصور عملي لتفاصيل المنطقة الآمنة.

لا تذكر بنود الاتفاق عمق المنطقة الآمنة أو طولها، ما يعني أن الخلاف حولها ما زال قائماً. معروف أن الأتراك يطالبون بمنطقة تمتد على طول الحدود وصولاً إلى الحدود السورية – العراقية، وبعمق 35 كلم، في حين كان العرض الأميركي يتحدث عن شريط بعمق يتراوح بين 5 – 14 كلم، وبإدارة من قوات التحالف الدولي. وكان التركي يطالب بإدارة تركية منفردة. وفي هذه النقطة تم الاتفاق على "حل وسط" بتشكيل دوريات مشتركة أميركية – تركية لإدارة المنطقة.

الخلاصة أن الاتفاق أوقف أزمة سياسية كبيرة بين واشنطن وأنقرة في حال نفذ الرئيس التركي أردوغان تهديداته المتواترة، في الفترة الأخيرة، بغزو الشريط الحدودي بقرار منفرد لفرض أمر واقع على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. والأصح أنه تم تأجيل هذا الأمر من خلال أسلوب "الإحالة إلى اللجان". الواقع أن تورطاً تركياً حقيقياً بقرار منفرد، كان من المحتمل أن يؤدي إلى صدام عسكري بين القوات التركية والقوات الأميركية لا يريدها الطرفان. فلجأ الأميركيون إلى التهدئة وتأجيل الخلافات العالقة مع أنقرة بشأن التحالف الأميركي مع قوات حماية الشعب.

الأمر اللافت أن اجتماع الوفدين الأميركي والتركي تزامن مع حدث آخر هو قيام محامي عبد الله أوجلان بزيارة جديدة له ونشرهم لرسالة شفهية منه يتعهد فيها "بإنهاء الصراع المسلح خلال أسبوع واحد إذا تم تمكينه من التواصل مع الأطراف". كانت الزيارة مفاجئة، بعدما تم رفض طلبات كثيرة من مكتب المحاماة، منذ انتهاء انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول التي فاز فيها مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، لزيارة أوجلان. ذلك أن السلطات القضائية التركية توقفت عن منح إذن الزيارة، بعدما كانت سمحت به منذ أوائل شهر أيار الماضي. ويشير هذا المسلك الغريب إلى مدى ظرفية القرارات المتعلقة بإبراز ورقة أوجلان كلما احتاجت إليها السلطة، وإخفائها بعد انقضاء الحاجة. فقبيل انتخابات

دور أوجلان يتلخص، في هذا الموضوع، بإقناع حزب الاتحاد الديموقراطي بالقبول بصيغة التفاهمات التركية – الأميركية، أو بمباركة قبوله المسبق

الإعادة في 23 من حزيران بيومين، نشر أستاذ جامعي مغمور رسالة نقلها من أوجالان توصي الناخبين الكرد باتخاذ موقف محايد بين مرشحي السلطة والمعارضة. وهو ما لم يلتزم به حزب ديموقراطية الشعوب الذي وجه ناخبيه في إسطنبول بالتصويت بكثافة لمرشح المعارضة. ومنذ ذلك التاريخ لم تفتح زيارات أوجلان حتى جاء موعد المباحثات الأميركية – التركية بشأن المنطقة الآمنة. فهل كان لأوجلان دور في حدوث التسوية المؤقتة بين الطرفين؟

يمكن الافتراض أن دور أوجلان يتلخص، في هذا الموضوع، بإقناع حزب الاتحاد الديموقراطي بالقبول بصيغة التفاهمات التركية – الأميركية، أو بمباركة قبوله المسبق الذي لا يملكون بدائل عنه. تتحدث بعض التحليلات في الصحافة التركية عن صيغة ابتزاز طورها الحزب الكردي مفادها أنه إذا غزت القوات التركية مناطق سيطرة الحزب، فسوف ينقل هذا قواته من أرياف دير الزور إلى الحدود التركية لمقاومتها، الأمر الذي من شأنه أن يربك وزارة الدفاع الأميركية لأنها لا تملك بدائل ميدانية في مواجهة بقايا محتملة لتنظيم الدولة، أو لمواجهة قوات النظام الكيماوي والميليشيات التابعة لإيران المستعدة لقضم تلك المناطق فور انسحاب قوات "قسد" منها. لا أظن أن القوات الكردية وحلفاءهم في إطار "قسد" هم في موقع يسمح لهم بابتزاز الأميركيين. لكن هزيمة متوقعة لتلك القوات أمام غزو تركي محتمل، في حال امتناع الأميركيين عن حمايتها، من شأنها أن تقوض كل ما تبقى من استراتيجية أميركية بشأن سوريا، سواء في جانبها المتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني، أو في ذلك المتعلق بالمشاركة في تحديد مصير سوريا. لا يتعلق الأمر، إذن، بابتزاز بقدر ما يتعلق بقراءة موضوعية لخلخلة تركية محتملة للتوازنات القائمة في شرقي نهر الفرات، لا تريدها واشنطن. هو إذن "ابتزاز موضوعي" أكثر من كونه ابتزاز الحزب الكردي لظهيره الأميركي.

لكن تحليلات أخرى، في الصحافة التركية، تتحدث عما يتجاوز موضوع الرغبة التركية في السيطرة على ما تسميه "كوريدور السلام"، إلى عمق الصراع التركي – الكردي ببعده الداخلي الأصلي الذي يشكل الصراع على "شرقي الفرات" امتداداً له. فهناك من يتحدثون عن ضغوط أميركية على أنقرة من أجل إعادة ما انقطع من مفاوضات بين الحكومة التركية

كأن أردوغان يمسك بورقتي بهجلي وأوجلان معاً، ليبتز هذا بذاك، وذاك بهذا، في سعيه لمواجهة تدهور شعبية حزبه في الآونة الأخيرة

وحزب العمال الكردستاني، باعتبار أنه لا يمكن حل الخلاف الأميركي – التركي في سوريا بدون حل الصراع الداخلي في تركيا نفسها. فمن شأن عودة مفترضة إلى تلك المفاوضات المنقطعة، منذ العام 2015، أن يلغي العداء التركي لحزب الاتحاد الديموقراطي وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب.

إن عودة عبد الله أوجلان إلى المشهد السياسي التركي من خلال رسائله، تغري بتحليل من النوع المذكور. لكن الغموض التام يلف نوايا أردوغان بهذا الخصوص. فهو يتحدث كل يوم عن عزم حكومته على القضاء على الإرهاب، إضافة إلى استمرار العملية العسكرية ضد قواعد الحزب في شمال العراق، واستمرار الإجراءات الداخلية القاسية بخصوص حزب الشعوب الديموقراطي، من سجن كوادره و"مصادرة" بلدياته التي فاز فيها في الانتخابات الأخيرة وغيرها من وجوه التضييق على الحزب السياسي الكردي الممثل في البرلمان. كما أن التحالف القائم بين أردوغان وحزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي ما زال مستمراً، بعد انتهاء الانتخابات، وآخر الإشارات إلى ثبات هذا التحالف هي الزيارة المفاجئة لأردوغان لحليفه بهجلي في بيته في الأسبوع الماضي. كأن أردوغان يمسك بورقتي بهجلي وأوجلان معاً، ليبتز هذا بذاك، وذاك بهذا، في سعيه لمواجهة تدهور شعبية حزبه في الآونة الأخيرة. ولكن إلى متى يستطيع اللعب بالورقتين معاً؟

نقطة أخيرة حول الاتفاق الأميركي – التركي: يتحدث البند الثالث من الاتفاق المنشور عن تحويل المنطقة الآمنة إلى "كوريدور سلام" لإسكان اللاجئين السوريين، من غير توضيح اللاجئين المعنيين: هل هم السوريون تحت الحماية المؤقتة في تركيا، أم من يتوقع فرارهم من منطقة خفض التصعيد الرابعة في محافظتي إدلب وحماة، إذا انتهى الصراع الدائر هناك بسيطرة قوات النظام على المنطقة؟ من الواضح أن تركيا هي من فرض إدخال هذا البند، وفي ذهنها التخلص من قسم كبير من لاجئي "الحماية المؤقتة" في تركيا. أما بالنسبة للأميركيين فلا يعنيهم مصير المدنيين السوريين، إضافة إلى أنهم يسعون، أصلاً، إلى إطالة فترة التحضير لإنشاء المنطقة التي تطالب بها تركيا، على غرار ما فعلوه سابقاً بشأن منبج.