"قدم في البور وأخرى في الفلاحة"

2021.03.26 | 06:59 دمشق

altayfyt-fy-swryt.png
+A
حجم الخط
-A

أياً كانت الدوافع وراء الحديث الدائم عن وضع "الأقليات السورية"، والاتهامات التي يسوقها البعض عن سلبية دورها في بعض مراحل الثورة، وعن استعانتها بالخارج، ليساعدها على تحقيق مكتسبات وأوضاع خاصة، يتعارض بعضها مع الأهداف السامية للثورة السورية، وتساعد على استمرار نزيف الدم اليومي، وتمتن من قوة النظام القمعية، وتديم بقاءه، فإنها -الدوافع- لا تبرر قبول بعض مؤسسات وهيئات وأحزاب وتيارات المعارضة، منح هذه الأقليات أوضاعاً خاصة في النسيج الوطني السوري، ولا الصمت والسكوت عن ممارسات مغطاة بأوهام انفصالية، تتناقض كلياً مع طموحات السوريين في بناء "وطن ديمقراطي، مدني"، تكون المواطنة فيه هي المعيار في تنظيم علاقات أبنائه، وتساويهم في الحقوق والواجبات.

 ثمة تناقض واضح لا لبس فيه في المشاريع والرؤى التي تطرحها، وتعلن تبنيها بعض أطراف المعارضة، عند مقاربتها لمسألة الأقليات، ودورها، ووضعها في مستقبل سوريا، بعد الخلاص من نظام الأسد الإجرامي الطائفي؛ تناقضٌ يجعل هذه المؤسسات المعارضة تتبنى الشيء ونقيضه، في برامجها وأنظمتها الداخلية.

 الأمثلة المقرونة بأسئلة تبحث عن إجابات كثيرة..

كيف تتحدث هذه المؤسسات عن المواطنة، وتتبناها كشرط ناظم لعلاقاتنا في المستقبل السوري "المدني الديمقراطي" الذي تناضل من أجل تحقيقه، وفي الوقت نفسه تكرر في بياناتها ورؤاها للحل، الجملة/اللازمة، حين تخص الأقليات، وتتحدث عن "الشعب السوري بإسلامييه ومسيحييه، وعربه وكرده وآشورييه وتركمانه.. "، إلى آخر تلك الجملة/النغمة المكررة، الفاقدة للمعنى، والمتناقضة مع فكرة "المواطنة"، التي تعني "المساواة في تكافؤ الفرص"، و"المشاركة في الحياة العامة"، و"الولاء للوطن"، وكل هذا يلغي أي "حقوق أو انتماءات خاصة" لأي جماعة من "الشعب السوري"، إثنية كانت أو دينية..؟!

وهي الفكرة – المواطنة -التي تلاحظها دساتير العالم، حين تؤكد على فكرة "الشعب الواحد" دون تخصيص لأي جماعة، فدستور الولايات المتحدة -على سبيل المثال- وهي البلد الأكثر تنوعا في الأعراق والألوان والإثنيات، يفتتح ديباجته ب "نحن شعب الولايات المتحدة  - We the People of the United States"، دون أن يخصص فيقول: ببيضه وسوده، أو طليانه وعربه، أو مسيحييه وإسلامييه ومورمونه وسيخه؛ فيما يفتتح الدستور السويسري، البلد المتنوع الإثنيات بجملة "يقرر الشعب السويسري"، دون أي تخصيص - أيضاً - لجماعة من الجماعات، التي تشكل نسيج المجتمع السويسري المتنوع.

إن القبول برفع أي جماعة – مدنية كانت أو عسكرية – لعلمٍ آخر غير علم الاستقلال، الذي توافق السوريون عليه، هو نوع من قبول فكرة "الخيانة" للثورة

وكيف نتبنى علم الثورة، وهو الذي دفع السوريون ثمناً غالياً من أجله، واختاروه ليكون رمزَ البلد الحالم بالحرية، والديمقراطية، وبناء المجتمع المدني، وفي الوقت نفسه نتغاضى عن رفع بعض المكونات السورية لأعلام أخرى، بعضها أعلام "من خارج الحدود"، تسترضي مرجعيات خارجية، ونسكت على رفع بعض الفصائل العسكرية أعلاماً خاصة بها، وتتجاهل رفع العلم "الموحِد للشعب السوري الحر".. إن القبول برفع أي جماعة – مدنية كانت أو عسكرية – لعلمٍ آخر غير علم الاستقلال، الذي توافق السوريون عليه، هو نوع من قبول فكرة "الخيانة" للثورة، والصمت على ممارستها في وضح النهار؛ وفيه استجداء لكسب ولاء هذه الفئة/الأقلية أو تلك، وكأننا في "بازار" مواقف، ولسنا مجتمعين رفضاً لظلم نظام طال الجميع، بغض النظر عن خلفياتهم الإثنية أو الدينية...!

كيف نقبل إعلان بعض الأقليات، عن تأسيس أجسام عسكرية ذات مسمى وصبغة طائفية، أو إثنية (بيشمركة - سوتورو - كتائب تركمانية – مسيحية - علوية...إلخ)، وفي الوقت نفسه نتحدث عن تأسيس جيش وطني حر، ونشكل وزارة دفاع، ونرصد لها موازنات.. كيف يستقيم هذا...؟ كل ثورات العالم التي اشتعلت لإطاحة أنظمتها الديكتاتورية، لم تقبل فكرة تأسيس "جيوش" تأتمر بأوامر طوائفها، وتعود في قراراتها لمرجعيات خارج حدود الوطن...!

كل القوى، والشخصيات التي تدعي تمثيل السوريين طلاّب الحرية، الذين خرجوا على نظام الأسد، يقرون أن الدستور يجب أن يكتبه السوريون، ويوافقون عليه في استفتاء عام، وأن يكون معبراً عن تطلعاتهم في بناء مجتمع مدني، ديمقراطي، تكون المواطنة السورية هي الأساس الذي يحكم علاقات أفراده، ومع ذلك يقبلون الجلوس مع ممثلي نظام الأسد، ليكتبوا دستوراً في أروقة الأمم المتحدة في جنيف، يراعي متطلبات الدول المتدخلة في الشأن السوري، ويجاملها في قبول منح الأقليات "حظوة خاصة" من خلال التعهد باحترام أحلامها القومية ".. نعم القومية"، مما ينسف فكرة "المواطنة" من أساسها. إن أي حديث عن إضافة نص في الدستور السوري، يشير الى الأقليات وحقوقها، هو نوع من المحاباة، وإساءة لهذه الأقليات قبل غيرها، لأنه يعترف "ضمناً" ب "لا سوريتها"، وعدم انتمائها الوطني...!

ومما يلفت النظر -أيضاً- أنه بالتوازي مع الحديث عن ثورة، وعن مجتمع مدني، وحكم وطني، وجيش وطني، نصمت عن تبعية بعض "الأطراف" للخارج، وطلب النصح والحماية منه، بل والاعتراف، علناً، بهذه التبعية سواء كان المقر في الفاتيكان، أو أربيل، أو ستوكهولم، واعتبارها مرجعيات، يعودون إليها، وينفذون إرادتها...!

أي مراعاة، وقبول ب "تخصيص" هذه الجماعة أو تلك، هو لغم مزروع لينفجر في المستقبل - طال الزمن أم قصر-

بعد عشر سنوات، هي عمر الثورة السورية، حان الوقت لإعادة النظر ببعض المفردات، التي لا يخلو منها أي بيان تأسيسي، وأن نتسلح بالشجاعة في الحوار الصريح بين السوريين، لأن أي مراعاة، وقبول ب "تخصيص" هذه الجماعة أو تلك، هو لغم مزروع لينفجر في المستقبل - طال الزمن أم قصر- ويضعنا عندها في مواجهة سيل دماء جديد، لا يبقي ولا يذر...!

إن خطورة هذا "النوسان" بين الوطن والخارج، تكمن في أنه يستجلب الخارج بكل تأثيره السلبي، ومن جهة أخرى يتناغم مع أوهام انفصالية، وكلاهما يؤثر سلباً على الطموح السوري الخارج على نظام ديكتاتوري، لتحقيق ما يصبو إليه ببناء مجتمع مدني ديمقراطي عنوانه الرئيس المواطنة السورية.

احترموا عقولنا.. إما أن نكون شعباً سورياً واحداً "ما بينذل"، أو لقطاء "نعتاش" من موائد الأخرين، وننفذ أجنداتهم، ونمزق الوطن السوري...!

جلّ ما نخشاه، أن تدفع الأقليات، التي لا تكتمل الفسيفساء السورية دون وجودها، ثمناً غالياً لمغامرات نُخَبِها، التي تتجاهل التاريخ، وتسعى خلف سراب؛ لا يأتي إلا بالعطش.