قبل الكورونا.. "وباء التعفيش" فتك بأرزاق السوريين

2020.03.31 | 00:08 دمشق

350.jpeg
+A
حجم الخط
-A

قبل أن يصبح فيروس كورونا جائحة تفتك بالبشر في معظم دول الكرة الأرضية، كان الناس في سوريا يموتون ويُفتك بهم تسع سنوات متتالية على يد جيش بلادهم ومن تحالف معه من أنظمة وميليشيات وقطاع طرق وشذاذ أفاق، كانوا يُقتلون بالصواريخ والبراميل وشتى أنواع الأسلحة ويخنقون بالكيماوي ويقضون تحت التعذيب أو بردا أو جوعا، وكان ثمة داء حمله أفراد عصابة الأسد هو داء التعفيش الذي فتك بأرزاق السوريين ولم يسلم منه المهجرون قسرا والمقتلعون من ديارهم.

أما التعفيش فهو جائحة أسدية خالصة تعتبر امتدادا لسلوك هذه العصابة على مدار نصف قرن مضى، ففي معظم المدن الكبرى وعلى هوامش الحياة تنبت أسواق للفقراء، منها ما يعرف بــ"سوق الحرامية" تجده في دمشق وكذلك في القاهرة وعمان وسواهما، أسواق يغيب فيها البائع الحقيقي لأنه السارق.. والسارق لم يُعهد به أن يعرّف الناس بنفسه، ولا يريد لأحد أن يعرف من هو أو أن يعلم فعلته، حتى إن ملامحه وشكله غالباً ما صورت لنا على أنه مقنع أو ملثم يخفي هويته ويجتهد بأن لا يترك أثراً يُعرَف من خلاله، وأصبح هذا التصور راسخاً في العقول.

في سوريا لم يعد كذلك، فقد سنّ السُرّاق الجُدد أغرب السنن في سلوكهم الذي كشفت عنه سنوات الحرب وهو فعل "التعفيش" وبيع المسروقات علناً في سوق ليس كالأسواق التي يرتادها البسطاء بحثاً عما عافه الناس وطلباً للبضائع الرخيصة، بل سوق للتشفي والانتقام وهذه الحالة المحدثة المبتدعة من هؤلاء الجناة تنم عن تنامٍ فاقع لنزعتهم العدوانية تجاه مجموعة محددة من الناس هم الخارجون على حكم الأسد وبالتالي حكمهم، وعلى هؤلاء -الثائرين- دفع ثمن انتفاضتهم بأن تصبح استباحتهم بالأنفس والأرزاق حقاً.

ولم يعد السارق ملثماً أو مقنعاً يا سادة، بل على العكس، فالسُرّاق الأسديون كسروا كل القوالب السلوكية النمطية، لأنّ فعل السرقة المشين المعيب المنبوذ في كل الأعراف والثقافات والديانات لم يعد كذلك في ثقافتهم

في أسواق التعفيش يعرض مقاتلو الأسد و"الشبيحة" ما نهبوه من بيوت السوريين المنكوبين، بعد أن اقتحم جيش وطنهم وبعض شركائهم في هذا الوطن مدنَهم وبيوتهم ودمروها.. ليصبح التعفيش الممتد لسنوات فوق جراح الناس وعذاباتهم، داء تنشره قوات الأسد وميليشياته وشبيحته، ولم يعد السارق ملثماً أو مقنعاً يا سادة، بل على العكس، فالسُرّاق الأسديون كسروا كل القوالب السلوكية النمطية، لأنّ فعل السرقة المشين المعيب المنبوذ في كل الأعراف والثقافات والديانات لم يعد كذلك في ثقافتهم، وتحول التعفيش إلى هدف بحد ذاته فيمكن لعنصر أو شبيح أن يدفع حياته ثمناً لحصوله على ثلاجة أو شاشة تلفاز.

حتى إن عمليات تدمير وهجمات على بعض المناطق لا أهداف عسكرية لها وكان هدفها فقط التعفيش.. وعلى المقلب الآخر راح الناس يحرقون ممتلكاتهم قبل الهرب من الموت، حتى لا يستفيد منها مُعفِّش. وبين هذا وذاك يكبر الشرخ الذي أسست له قوات الأسد وراحت تعظمه في المجتمع السوري المنهار، حتى اتسع الخرق على الراقع، فلا أهمية لثلاجة إن ذهب الوطن بالنسبة للمُهجّر الذي عاش كل صنوف القهر والألم في مدينته قبل أن يتركها مرغماً ولن يغني ثمنها سارقها بقدر ما يحقق له شهوة مريضة وصلت أيضا حد نبش القبور.

فلا بد من البحث عن تعريف آخر لهذه الشراكة في الوطن فالذاكرة الجامعة تتعرض لجرح، اندماله صعب والتعافي منه شاق

لا يُنكر أن الحروب تُخرج أسوأ ما في البشر لكن التفاخر بالسرقة وتحويل الفعل إلى حالة منظمة في بلد يقتل أحد أفراده الآخر أو يسلبه حريته ويدمر بيته ثم يسرق ممتلكاته ويبيعها في السوق جهاراً نهاراً ويفاخر بفعلته وتصل سلسلة الفعل المشين حد افتتاح أسواق مخصصة لهذا النوع من المسروقات، فلا بد من البحث عن تعريف آخر لهذه الشراكة في الوطن فالذاكرة الجامعة تتعرض لجرح، اندماله صعب والتعافي منه شاق ليس لأن سرقة بيت في سوريا تعد سابقة لا مثيل لها، لا بل لأن الرمزية هنا في تبعات الفعل الجرمي المركب ذاته تحوله إلى جريمة لا تسقط بالتقادم. فـ"أسواق الحرامية" المعروفة في العواصم كانت ملاذاً لكلا الطرفين الحرامي الخجِل المجهول والفقير التعيس وبينهما الوسيط بائع انتهازي، كلهم يحملون الوزر درجات، لكن في أسواق التعفيش السورية انهارت منظومة القيم الأخلاقية تماما لكلا الطرفين، فالسارق "المُعفِش" ذاته البائع ولا يخجل من فعلته ولا يتوارى والشاري يعرف أن ما يشتريه دُفع فيه دم أخيه السوري مرتين يوم اشتراه ويوم قُتل أو هُجر دونه وفي الخلفية نظام وسلطة الأسد شريك في هذه السابقة فهو لا يسهل فقط بل يشجع ويبارك ويعتبر رزق السوريين المُعَفَش غنيمة حرب وسبياً يستحقه مقاتله.

هذا التصالح مع كون الإنسان مجرماً ويتماهى مع حالته بأنه يقتل، يهدم.. ويعفش رغبة بالانتقام ويفتتح سوقاً لبيع المعفشات ويلتقط صوراً كأنها رسائل ثأر فجة. كل ذلك عن سبق إصرار، وكل ذلك يسقط نظرية سيادة السلطة والدولة والتحرير وما يقال عن تضحيات فهي في سبيل التعفيش وكل ذلك أيضا يجعل المقدرة على المسامحة شبه مستحيلة فقد يسامح المرء سارقا ثبتت حاجته أو عاد عن فعلته وندم أو اعترف بخطئه، لكن مسامحة أولئك المعفشين أمر ليس بالهين.. وعن ذلك فليُسأل السوريون المهجرون.