قبضة على نطاق المروءة: الطريق من بيت والدي فيصل الغانم إلى سجن تدمر

2023.05.31 | 07:07 دمشق

آخر تحديث: 31.05.2023 | 07:07 دمشق

قبضة على نطاق المروءة: الطريق من بيت والدي فيصل الغانم إلى سجن تدمر
+A
حجم الخط
-A

"هل سمعت الأخبار؟ بعض الناس استطاعوا زيارة أبنائهم" سرت رعشة باردة في جسد أم أحمد بعد سماع هذا الكلام.
قبل أشهر دهمت قوات الأمن بيتهم في حلب القديمة مرات كثيرة واعتقلوا ثلاثة من أولادها.
في إحدى تلك المداهمات، والتي اعتقلوا فيها ثاني أبنائها، أسقطت جنينها وهي في شهر حملها الثامن، ظلت بعدها تنزف دماً شهرين متتابعين.
لم تكن تلك السيدة تعرف من الدنيا شيئاً خارج بيتها وحارتها الضيقة، بعد اعتقالهم، وبعدما صار فؤادها فارغا، وبعدما نسيت جنينها وجف رحمها، انطلقت هائمة تجوب الشوارع والأزقة طوال النهار، تقصد مباني المخابرات والأمن الكثيرة في المدينة لتتحسس خبراً عن أحد أبنائها. ثم تعود في الليل إلى حارتها المصابة بيوتها بمثل مصاب بيتها، لتجتمع بأمهات يشبهْنَها في العذاب والألم، ويشاركْنَها في سعيها المر كل يوم، فتتقاسم النسوة ما مررن به من أحداث وما استطعن جمعه من أخبار عن أبنائهنّ وأماكن اعتقالهنّ.

متأكدة من الخبر؟"

"نعم متأكدة، لكن ثمن الزيارة باهظ جداً كما سمعت"

كان سجن تدمر الصحراوي قد بدأ يفتح أبوابه للسجناء السياسيين، ومعظمهم من الإخوان المسلمين والمشتبه فيهم، في أيار عام 1980، بعدما غصت فروع أجهزة الأمن والمخابرات الكثيرة جداً في البلاد بالمعتقلين من هؤلاء، فقرر حافظ الأسد استخدام ذلك السجن العسكري لحل تلك المشكلة.

ندب لإدارة ذلك السجن الصحراوي الرائد فيصل الغانم الذي كان شخصاً موثوقاً من قبل رفعت الأسد شقيق حافظ

ركضت أم أحمد وأخرجت من خزانتها أساور ذهبها وانتظرت مجيء زوجها، الذي يجول هو أيضا في شعاب المدينة باحثاً عن أسباب توصله إلى أن يعرف مصير أبنائه.

كان أبو أحمد رجلاً صلباً بطبع مدينته، خبر الدنيا وأحوالها وحلب الدهر أشطره، "قبضاي" يصارع الرجال ولا يهاب شيئاً، يمتلك شاحنة تجر مقطورة خلفها، ويمضي معظم أيامه مسافراً بين البلدان والمدن يعمل في الشحن.

أعدت أم أحمد زاد الرحلة وهدايا القوم وانطلقت بهم الشاحنة على طريق حلب اللاذقية الجبلي قاصدين قرية الهنادي، يسافر أمامهم الأمل، ويغشى الطريق الجبلي الجميل غشاء شاحب من الهم والحزن.

تتوضع الهنادي في ضَمّة من البساتين بعيدة عن البحر، ويعذوذب مُتحلِّقين حولها نهرا: الكبير الشمالي شماليها والصنوبر جنوبيها، ثم يمضيان بسبيلهما إلى الوديان تحتها منسكبين برفق.

تستحيل صورة جمال القرية تلك في عيون زوارها الغرباء مشهداً لا ألوان فيه ولا صوت، يأتونها وقد قرّح الحزن قلوبهم، وسوّد ألم الفقد محاجر العيون منهم فلم تعد ترى الحياة إلا بالأبيض والأسود.

وصل الوالدان إلى قرية الهنادي بعد الصباح واتجهوا إلى بيت والدي فيصل الغانم بعد أن استدلا على مكانه من أهل القرية.

أجال أبو أحمد نظره في المكان حينما وصلوا؛ يشبه البيت في بنائه الفيلا أو القصر بخارجه فناء، يُجدّد حديثاً ويوسّع بأموال الغرباء الوافدين إليه لهفةً على ذويهم في سجن تدمر.

بدا الفناء كظيظاً بالناس ذوي المعتقلين من جميع المدن السورية يقصدون هذا المكان الذي أصبح مشهورا عندهم.

ينتشر العساكر في البيت وفنائه يساعدون عمال البناء في بعض أعمالهم، وينظمون الطابور الطويل من الآباء والأمهات والأزواج والبنين والإخوة والأخوات. ويتوزع عدد من الفتيات والنسوة من أهل المعتقلين على خدمة المنزل داخله وخارجه.

أمام الطابور الطويل تجلس أم فيصل الغانم وأبوه خلف طاولة بلاستيك وبالجانب منها كيس ممتلئ بقطع الحلي.  

بدا محمد والد فيصل غانم رجلاً عارمَ الخِلقة جسيماً كبير الرأس وعريض الجبهة بعيون صغيرة، يشبه حافظ الأسد شيئاً ما.

تأمل أبو أحمد من مكانه حال إخوانهم في المحنة ورفاقهم في طابور الذل، كان المشهد صورة مصغرة لحال البلد بكامله، رجال ونساء من جميع المدن السورية لا تخطئ العين كرم الأصل فيهم، وعز النعمة في هيئاتهم، تتناثر في فناء الدار فتيات ونسوة يسعون في خدمة ذاك الرجل وامرأته. نفث أبو أحمد نفثة طويلة وقال لأم أبنائه: لو يرى أبناؤنا هذا المشهد هنا لتمنوا أن يدفنوا أحياءً وهم في عذابات سجنهم.

 تحدر الدمع من عيون أم أحمد وهي تقول لزوجها: لن تعرف ما حييت ما خبأت رحمة الله في قلب الأم.

مضت ساعتان أو ثلاث على وقوف الوالدين في القطار البشري، تمر أمام ناظريهما غصص شتى من جراحات الناس كلما وصلت إلى الطاولة البلاستيكية.

وبينما هم وقوف مكانهم إذ جاءت مركبة يقودها رجل طاعن في العمر يسوق معه قطعةً من الأغنام ومجموعةً من الهدايا المتنوعة ليقدمها بين يدي حاجته. عرف أبو أحمد من ملابس الرجل أنه من المنطقة الشرقية، ثم ما إن نزل الشيخ من مركبته حتى ركض مسرعاً باتجاه والد فيصل الغانم وأمسكه من نطاقه قائلا له: جئنا قاصدين جودكم وكريم عفوكم.

قفز والد فيصل فزعاً وبدأ يصيح يميناً وشمالاً، فرت الكلمات من لسانه وطفق يقرع القافات في حلقه، منادياً العساكر كي ينقذوه.

انقض العساكر على الشيخ وأبعدوه عن صاحب البيت ركلاً ولكماً وضرباً بأعقاب البندقيات. شاهد أبو أحمد ما يجرى واندفع سريعاً نحو الشيخ المسكين، دافع العساكر دونه وذاد عنه شيئاً من الضرب وهو يصرخ فيهم بأعلى صوته: ما لكم؟ لم تضربون الرجل؟ ألا تعرفون معنى تلك الحركة؟ ألا تعرفون عادات أهل المروءة في تقديم حاجاتهم؟

تباعد العساكر عن الرجل وهدأ الأمر قليلاً، وسكن من روع والد فيصل الغانم وقال: ليخبرنا ما يريد، ليتكلم ما شأنه، لماذا يندفع نحوي؟ ظننته سيقتلني.

لم يعِ والد فيصل الغانم النازل من الجبل، وهو مدرس ذو اتجاه تقدمي، ما تحمل مسكة النطاق من معاني الاستجارة وطلب الغوث والنجدة. ولم يدرك لم فعل الشيخ هكذا، ولا لمح طباع المروءات التي تروّيها عروق ممتدة عبر الجدود والآباء إلى ينابيع كريمة ماجدة.

ساعد أبو أحمد الشيخ في النهوض، وشكر له الشيخ بعينين لامعتين قائلاً: يبدو أن سنن المكارم لا معنى لها هنا يا بني. أجابه أبو محمد: "بعيْنْ الله يا عم".

عاد أبو أحمد إلى مكانه في الطابور ورجع الشيخ الى آخره حاملاً هداياه والرضوض والشجوج في جسده.

 وصل الدور إلى أبي أحمد وزوجته، لم يتكلم أو يقدم لطلبه بأي شيء. دفعوا الأساور الذهب إلى المرأة وهم يستمعون لحديثها عن حبها هي وزوجها لمساعدة الناس وبذل جهدهم في تلبية حاجاتهم، حتى ظن أبو أحمد أن هذا الجمع هنا ركاب سفينة تجري في بحر جود تلك العائلة. أخذ الوالدان وريقة صغيرة مكتوباً عليها اسم ابنهما أحمد مع إذن بالزيارة في سجن تدمر.

بعد عدة أيام ركب الوالدان المركبة وسار بهما الطريق الصحراوي إلى تدمر، على طول الطريق كانت تلوح في خاطر أم أحمد صور أولادها وترتسم على السراب الأسمر القسمات أمامها. يُرمد هجير الصحراء جفونها المتقرحة من البكاء وينجبل الرمل في مآقيها ليكحلها كحلاً شاحباً مبعثراً حول عيونها، ويسوّد خدودها ببقع سوداء تشبه طين الأزقة. تصل المركبة إلى سجن تدمر ويأتي العساكر ويأخذونهما إلى ساحة الزيارة: شبكٌ حديدٌ متداخل الأسلاك وعلى مسافة عشرة أمتار منه شبك مثله، يقف كل طرف من طرفي الزيارة خلف شبك.

وقفت أم أحمد وزوجها خلف الشبك المخصص للأهل. يطول الانتظار شيئاً، يشتد حر الهجير وتغلي الأرجل داخل النعال وتُدمى تحت الرمضاء السجيرة. يأتي جلادو السجن بشاب منهكٍ جسدُه من سَهَك الحديد وثقله، ويوقفوه خلف شبكه.

تحاول أم أحمد جاهدة أن تمد بصرها خلال الشبكين لترى الشاب، يحاول كلٌّ أن يتكلم صراخاً ليُسمع الآخر.

"إنه ليس ابننا، يوجد خطأ، راجعوا الاسم نرجوكم، ليس هذا صوته ولا هذه ملامحه" قال أبو أحمد للسجانين، لكن دون فائدة.

عرفت ذلك أم أحمد أول ما رأت الشاب وسمعت صوته. أغمي عليها وتمددت على الأرض الملتهبة. اسم ابنهما وكنيتهم شائعة جداً في البلاد وصادف أن كان شابان في سجن تدمر يتسميان بنفس الاسم.

تكلم أبو أحمد مع الشاب الغريب بضع كلمات، أوصاه أن يحمل السلام إلى أبنائه إن لقي أحداً منهم، وأوصاه الشاب بالشيء ذاته إن التقى بأهله.

سيرجع الوالدان إلى حلب وتمضي بهم السنون والأيام، ويخرج واحد من أبنائهما ويقتل الآخران والشاب الذي لقياه داخل السجن مع ألوف كثيرة قتلوا في تدمر.

لن يخبرهم ابنهم الناجي (اسمه يوسف) بخبر مقتل إخوته، في أحد الأيام مع وفود أهالي المعتقلين لزيارة يوسف وليسألوه عن مصائر ذويهم المعتقلين، سيلتقي أبو أحمد بأهل ذلك الشاب ويوصل سلامه لهم.

تمضي الحياة في بيت الوالدين، يكبر الصغار من أبنائهم وبناتهم، يتزوج الجميع ويمتلئ البيت بالأحفاد والأسباط.

عام 2000 بعد موت حافظ الأسد وتسلم ابنه بشار للحكم، توفي أبو أحمد كمداً بعدما أتعبه الأمل الذي راوده طويلاً بخروج ولديه، أما الأم فظلت تلاحق الأحلام طول حياتها، تزين البيت وترتبه وتجهزه كلما سمعت بخبر عفو أو خروج دفعة من السجناء.

في آخر عمرها فقدت ذاكرتها إلا الجزء الذي يستقر ابناها فيه، لم تسأم سؤال أبنائها الباقين عن خبر إخوتهم إلى أن وافاها أجلها.

عند دفنها في القبر قبّل يوسف جبين أمه قبل أن يوسّدها اللحد، وقال لها: هل عرفتِ الآن خبر إخوتي يا أمي؟