قانون الجُناة

2020.12.15 | 23:01 دمشق

1018353125_475_0_2465_1076_1000x541_80_0_0_73cee9e25d5b80a73a339d4d86027120.jpg
+A
حجم الخط
-A

أطلق كثير من الناشطين في الفترة الأخيرة حملات لمكافحة ظاهرة التحرش، ودعوات لعدم السكوت عنه ومحاولة كشفه، على أن يكون ذلك واحداً من الإجراءات المعمول بها بهدف الحد من تفاقم الظاهرة وانتشارها.

إن التحرش ليس ظاهرة جديدة في العالم وفي المجتمع العربي والسوري بشكل عام، إلا أنها تزداد وضوحاً بسبب وجود أسباب اجتماعية واقتصادية معينة، ويظهر في أشكال مختلفة أكثرها وضوحاً، استغلال صاحب العمل للموظفة ومحاولة استغلالها جنسياً في مقابل بقائها في العمل، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

أما أصعب أشكاله فهو وجوده في العائلة نفسها في بعض الأحيان، إذ تتعرض الفتاة أو المرأة للتحرش من أقربائها الذكور، وتستصعب المكاشفة بالموضوع لأسباب تتعلق باستغلال الجاني ثقة العائلة فيه وعدم تصديقهم رواية الضحية أحياناً، أو محاولتهم التعتيم على الموضوع في أحيان أخرى بغية عدم انتشار فضيحة تمسّ شرف العائلة وتشكل وصمة عار في تاريخها.

غير أن السكوت عن الظاهرة لا يعني عدم وجودها، بل أنه قد يزيد الأمر سوءاً، فاعتقاد الجاني بعدم وجود رادع اجتماعي بسبب بنية المجتمع المحافظة التي تتحاشى الحديث في هذه الأمور، أو استفادته من الثغرات القانونية أو عدم وضوح النص القانوني للإفلات من العقاب، يؤمن بيئة مناسبة لفعل التجاوزات الاجتماعية بشكل عام.

لم يعتدْ المجتمع السوري على اختلاف طبقاته وفئاته وشرائحه الاجتماعية، على الحديث في الموضوعات المتعلقة بالتحرش أو الاغتصاب أو ما شابه، ويعدّ الخوض بمثل هذه الأحاديث سراً أو علناً من التابوهات التي لا يحبذ المجتمع التداول فيها، حتى وإن ترتب على ذلك أذى فردي أو جماعي أثّر بشكل مباشر أو غير مباشر على المجتمع.

يعتبر التحرش في المجتمع العربي بشكل عام ظاهرة سلبية مسكوت عنها ويترتب على المكاشفة فيها فيها آثار مسيئة قد تتعرض لها الضحية

وفي هذا السياق، يعرف المحامون والقضاة والمهتمون بالشأن القانوني في سوريا ندرة عدد الدعاوى المرفوعة ضد المتحرشين أو انعدامها أحياناً، الأمر الذي يعطي معلومات غير دقيقة وأرقاماً غير واقعية من الناحية الإحصائية.

يعتبر التحرش في المجتمع العربي بشكل عام ظاهرة سلبية مسكوتاً عنها ويترتب على المكاشفة فيها فيها آثار مسيئة قد تتعرض لها الضحية، مثل النبذ والإقصاء علاوة على إلقاء اللوم عليها بشكل مباشر وتجاهل الفاعل الحقيقي.

ويعرف التحرّش الجنسي، بحسب المنظمات الحقوقية والأهلية أنه "كل فعل يتم خلاله القيام بتوجيه أي نوع من الكلمات غير المرحّب بها، أو القيام بأفعال لها طبيعة أو إيحاء جنسي مباشر أو غير مباشر، وتنتهك السمع أو البصر أو الجسد، وتنتهك خصوصية فرد أو مشاعره، وتجعله لا يشعر بالارتياح أو بالتهديد، أو عدم الإحساس بالأمان أو الخوف، أو شعوره بعدم الاحترام، والترويع، والإساءة، والانتهاك والشعور بدناءة الفعل والفاعل".

تعد الحلقات الأكثر ضعفاً في المجتمع من نساء وأطفال أو ذوي احتياجات خاصة ممن لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، هم الهدف الأساسي للجناة في مثل هذه الحوادث، ويزداد انتشار مثل هذه الظواهر في حالات الكوارث الكبرى والحروب، لكن ذلك لا يعد سبباً رئيسياً أو وحيداً لها ولا يمكن أن يكون عذراً مخففاً.

تعاني هذه الظاهرة في سوريا من صعوبة التوثيق وعدم دقة الأرقام، إذ من الصعب على الضحية التصريح بما تعرضت له من أفعال تصنف على قبيل التحرش لما قد تتعرض له من لوم من المجتمع، الأمر الذي قد يتعدى ذلك ويتطور إلى إدانتها على أنها الفاعل الحقيقي في الجرم الشائن.

يضاف إلى الضغط الاجتماعي أن القانون السوري لم يشكل ملجأ آمناً أو داعماً قضائياً للنساء في مواجهة الخوف الاجتماعي، فهن في الغالب يمتنعن عن المطالبة بحقوقهن قانونياً تحت الضغط الاجتماعي تارة ولأن القانون لا ينصفهن في أكثر الأحوال.

لقد عالج قانون العقوبات السوري هذا الجرم في مادته /506/  التي تنص على أن “من عرض على قاصر لم يتم الخامسة عشرة من عمره أو على فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من خمس عشرة سنة عملاً منافياً للحياء أو وجه إلى أحدهم كلاماً مخلاً بالحشمة، عوقب بالحبس التكديري من يوم إلى ثلاثة أيام، أو بغرامة لا تزيد على خمس وسبعين ليرة أو بالعقوبتين معاً”.

وفي هذه المادة أو غيرها لم يذكر المشرع (التحرّش) بالاسم وإنما ألمح إليه على استحياء، وهذا إنما يدلّ على أن القانون بحد ذاته غير عابئ بالموضوع ويحذو حذو المجتمع بالتكتم عليه، وإلا كان يستطيع التعريف بالتحرش وتحديد عقوبة واضحة له، أسوة ببقية الجرائم المعرّفة والمحددة عقوبتها، أو كان من الممكن مراجعة هذه المادة وتعديلها عبر عقود.

ومن حيث المبدأ لا يبدو أن القانون يعد هذا الفعل شائناً ومسبباً للحبس، ذلك أنه فرض الحد الأقصى للعقوبة بثلاثة أيام وتغريم الفاعل بمبلغ لا يذكر، إضافة إلى مطالبة القانون في الإجراءات القضائية إلى إثبات الفعل الأمر الذي يحتاج إلى شهود وتحرك من قبل المجتمع، وهو أمر يصعب إثباته عملياً خاصة في ظل تكتم وتجاهل مجتمعي واضح لهذه الظاهرة.

لا يقتصر تأثير التحرش على اللحظة الراهنة فحسب، بل إن النتائج السلبية التي من الممكن أن تنعكس على الضحية ومحيطها بسبب التكتم عليه قد تكون أكثر كارثية، لأنه قد يخلف نتائج نفسية عميقة على النساء، ويخلّف امرأة انطوائية ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن حقوقها وغير قادرة على تعليم أبنائها فيما بعد الدفاع عن أنفسهم ضد هذا الخطر أو غيره.

شهدت الساحة القانونية والاجتماعية حراكات كثيرة لمكافحة موضوع التحرش والعنف ضد المرأة بأشكاله، إلا أن ذلك كله قوبل بعدم مبالاة من السلطة التشريعية المفترضة في سوريا

فالصمت في الأحوال كلها لا يمكن إلا أن يكون مساهماً بشكل سلبي في نشر هذه الظاهرة وعدم مساءلة الفاعل، وفي هذا الشأن لا يمكن أن يكون القانون الوضعي الذي يعالج هذا الجرم الشائن بهذه الطريقة الأقرب إلى الكوميديا إلا شريكاً فاعلاً في تفشي هذا الجرم وأشباهه من الجرائم، لأنه لا يمكن لقانون يحترم نفسه أن يطبق عقوبة حبس لا تتجاوز الثلاثة أيام على جرم أخلاقي مثل هذا، إلا في حالة من اثنتين إما أنه لا يجد فيه من الخطورة أو أنه لا يشيل وزناً للضحية. 

لقد شهدت الساحة القانونية والاجتماعية حراكات كثيرة لمكافحة موضوع التحرش والعنف ضد المرأة بأشكاله، إلا أن ذلك كله قوبل بعدم مبالاة من السلطة التشريعية المفترضة في سوريا، وبتجاهل تام من المجتمع.

في هذا السياق يبدو لنا أن "القانون لايحمي المغفلين" والضعفاء ومهيضي الجناح، والمجتمعات تحمي العادات والتقاليد أكثر مما تحمي الإنسان، لذلك فإن الوسيلة الأنجع لتحقيق تقدم في الشأن الحقوقي في هذا المجال، العمل على منح القوة والدعم النفسي للطرف المتحرش به وتشجيعه على الإفصاح عن الأمر والحد من حالة الشعور بالذنب التي قد تتلبسه جراء وقوع الحادثة أو بضغط من الجاني والمجتمع، وتقديم الدعم القانوني والنفسي اللازم للضحايا، للخروج بهم من دائرة الضحية إلى دائرة الناجين جسدياً ونفسياً.

كلمات مفتاحية