"قاتلوا من أجلنا"

2019.10.21 | 20:39 دمشق

983.jpg
+A
حجم الخط
-A

في برنامج إذاعي فرنسي شاركت فيه قبل قليل حول التدخل التركي في شمال السوري، وخلال التقديم للموضوع، مرّر المُنشّط تسجيلاً صوتيا للفيلسوف الإعلامي برنار هنري ليفي يُعبّر من خلاله عن شديد تعاطفه مع ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومندّداً بالتخلي الغربي عنهم والذي يصفه بالخيانة. ولتعزيز موقفه، يُضيف ليفي مشدّداً على أن هذه القوات "قاتلت داعش من أجلنا". والترجمة الواضحة لهذه العبارة هي قتال وحدات حماية الشعب الكردية الخاضعة لأوامر جبل قنديل للعصابات الإرهابية الداعشية.

طرح أبوي واستعماري تفوّه به هذا "الفيلسوف". فالكرد المسلحون في إطار هذه الميليشيا قاتلوا، بناء على ما يورد، داعش لأجله ولأجل مصلحة بلاده أو قومه. وهذا الطرح، إن أُخِذَ في درجته الأولى، هو مهين للكرد السوريين. وحتى لو أُخِذَ بدرجته العاشرة، فهذا لن يُغيّر شيئاً من مستوى الإهانة التي تلحق بالكرد السوريين. فهم، وإن قاتلوا داعش، فعلى الأغلب لأنها تُمثل بالنسبة لهم ولمصالحهم خطراً محدقاً يجب التصدي له. هم قاتلوا داعش إذاً ليسوا

الإعلام الغربي، وتعاطفاً مع القضية أو القضايا الكردية، يرى في مقاتلي وحدات حماية الشعب "غيفاريوا" القرن الواحد والعشرين

آخذين بعين الاعتبار السيد ليفي أو حتى مصلحة الدولة التي ينتمي إليها. على الأقل، هذا هو المرجو، وحسن النية يجب أن يكون قائماً في هذا الملف خصوصاً فيما يتعلق بالتصدي للإرهابيين من الدواعش. بالمقابل، يجب أن يتم التنبيه إلى أنهم ليسوا وحدهم من واجه داعش، فقد سبق طردها من حيّز جغرافي مهم كمدينة حلب من قبل الجيش السوري الحر.

وفي الحديث عن الكرد، يبدو واضحاً أن الإعلام يعتبرهم مكوناً متماسكاً لا يحمل تناقضات أيديولوجية ومناطقية، والتي ما فتئت تعصف بالعلاقات بين الأحزاب الكردية التي يفوق عددها في سوريا 16 حزباً، ويترك للميلشيات المسلحة القول الفصل لأنها تفرض نفسها على الساحة بقوة السلاح وبالتنظيم الستاليني المتميّز. كما أن الإعلام الغربي، وتعاطفاً مع القضية أو القضايا الكردية، يرى في مقاتلي وحدات حماية الشعب "غيفاريوا" القرن الواحد والعشرين. صورة ملائكية تزينها لقطات الفتيات المحاربات وتدفع المراقبين السطحيين إلى التوقف عند هذا المشهد لتفسير كل ما سيليه من تضامن ودعم، بعيداً عن الذهاب بعيداً في سبر تطورات المسألة الكردية منذ خيانة الغرب للكرد إثر اتفاقية سيفر 1920 مروراً بالمذابح التي اقترفها صدام حسين بحق كرد العراق، كما القمع والتنكيل القائمين ضد المكون الكردي في إيران، ووصولاً إلى تاريخ القمع والحرمان والإقصاء والتهجير في سوريا البعث وفي سوريا الأسدين الأب والأبن.

ينسى بعض المراقبين أن يتوقفوا أمام الخيانة الروسية التي فتحت الباب لتركيا للسيطرة على مدينة عفرين منذ سنة ونصف تقريباً، كما لا يتوقفون أكثر عند خيانة ترمب المتوقعة لهم من خلال إعطاء الضوء الأخضر في اتصال يوم الأحد الليلي الشهير مع الرئيس التركي الذي سبق العملية وسحب القوات الأميركية من المنطقة تمهيداً لدخول القوات التركية، مع تصريحات زائفة ومتناقضة. وكذا يغيب عن المتعاطفين مع القضية الكردية ضرورة التمييز بين الكرد كشعب وبين الأحزاب والميليشيات التي تقامر بمصيره المؤلم وبمطالبه المشروعة وبمستقبله الغامض.

في الحوار الإذاعي ذاته، يُشير صحفي أجرى الكثير من التحقيقات والأفلام الوثائقية على الأرض في شمال سوريا وفي جنوب تركيا، إلى تضحيات الكرد دون أية إشارة إلى أنهم جزء من شعب سوري قدم التضحيات الجسام منذ 2011 وغادر الملايين من أهله من مختلف المكونات منازلهم للجوء إلى مخيمات داخلية أو في دول الجوار أو هم عبروا البحر ليصلوا شطآن السلام والأمان في أوروبا.

مشارك آخر في البرنامج من المدافعين عن التدخل، وهو تركي / فرنسي، يتناول الموضوع من وجهة نظر الأحزاب القومية التركية مشيراً إلى الرهان الفرنسي الخاسر على حزب العمال الكردستاني المصنف فرنسيا وأوروبياً كجماعة إرهابية. وهو يُشدّد على قيام وحدات حماية الشعب أثناء إدارتها للمناطق الشمالية في سوريا بعمليات "تطهير عرقي" طالت العرب كما التركمان، في عدة قرى مستنداً إلى تقارير

بناءً على معرفة تركية واسعة بموقف دمشق من حقوق المكون الكردي السوري، فسيطرة دمشق على هذه المنطقة ستؤمن حدوده الجنوبية مهما كان الخلاف متجذراً مع نظام الأسد

منظمة العفو الدولية. طرحٌ، وعلى افتراض صحّته، لا يُعطي بأي شكل من الأشكال أي مبرر مشروع يسمح للجانب الآخر بالقيام بنفس الخطوات التهجيرية والإحلالية إن في عفرين كما سبق وجرى جزئياً أو في مناطق أخرى من الشمال السوري.

في متن البرنامج، يُشير المنشّط إلى إمكانية نشوب حرب واسعة بين الجيش التركي والجيش السوري، متجاوزاً حقيقة القبول التركي بعودة قوات دمشق للإمساك، ولو نظرياً، بالحدود، مما يعني إبعاد الميليشيات الكردية إلى الداخل السوري. وبناءً على معرفة تركية واسعة بموقف دمشق من حقوق المكون الكردي السوري، فسيطرة دمشق على هذه المنطقة ستؤمن حدوده الجنوبية مهما كان الخلاف متجذراً مع نظام الأسد والذي يعمل الروس على إيجاد حلول له. وهذا يُذكّر برضا نتنياهو المعلن عقب عودة قوات دمشق للإمساك بحدود سوريا مع فلسطين المحتلة.

وفي المحصلة، يبقى السؤال مفتوحاً على مصراعيه حول الرهانات والتحديات والمآلات المرتبطة بملف هذه العملية العسكرية التي ليس من المنطقي الاعتقاد بقرب نهايتها كما بإمكانية تجاوز نتائجها.