في يومها العالميّ العربيّة تعيش غريبة!

2019.12.17 | 23:13 دمشق

images_5.jpg
+A
حجم الخط
-A

لن أكتب اليومَ عن خصائص اللغة العربيّة التي تميّزها! لن أكتب اليومَ عن جمال العربيّة التي تناهبتها الأقلام ولا زالت مواطن الجمال فيها كثيرةً كثيرة!

لن أكتب اليومَ عن عصريّة اللغة وقدراتها الجمّة التي تجعلها تواكبُ روح العصر ومستجدّاته!

لن أكتب اليومَ عن سعةِ اللغة العربيّة ومفرداتِها وثرائها حتّى بلغت جذورها اثني عشر مليونًا وثلاثمئة وخمسة وسبعين ألفًا؛ أي إنّ الجذور العربيّة تتجاوز جذور اللغات الأوروبيّة مجتمعة!.

لن أتغنّى بروضها الغنّاء وقطوفها الجنيّة التي كلّما تناولتها شهّتك إلى المزيد المزيد! لن أتحدّث عن بساتينها وأشجارها الوارفة ووظائفها المتنوّعة في حياة الفرد والمجتمع وأنّ اللغة وسيلة المرء للتحكّم في بيئته لأنّها أداة التفكير وثمرته! وبها تسهل عمليّة التفاعل والانصهار الفكريّ بين أفراد المجتمع والأمّة!.

سأتحدّث اليوم عن غربة العربيّة التي رافقت غربة الناطق بالعربيّةِ المنتمي إليها بحسب ما في نفسه من انتماء (دينيّ، قوميّ، ثقافيّ...)، فاللغة كالكائن الحيّ تنمو وتحيا وتموت، وإذا سلّمنا بحيوية اللغة العربيّة فإنّنا سنتحدّث عن غربتها أيضًا ولكي نقرّب الصورة نربطُ غربة العربيّة بغربة العربيّ - لسانًا - عن بلاده ومعاناته في الشتات؛ شتات بكلّ ما تعنيه الكلمة على جميع الصعد ولا سيّما الفكريّة والثقافية والذهنيّة.

معاناةٌ قاسيّةٌ في صراعٍ مريرٍ من أجل البقاء فقط! بعد أن تكالبت قوى الشرّ الداخليّة والعالميّة لاقتلاعه من جذوره قتلًا وقتلًا وقتلًا! كي يموت جسدًا وروحًا وثقافةً ميتةً بائسةً!

 تتجلّى غربةُ العربيّة في أمورٍ قد تغيب عن كثيرٍ من أبنائها وحتّى عن طبقة المثقّفين والمهتمين باللغة العربيّة الذين شغلهم جمالها عن إحيائها وتجديدها وغرسها في كلّ صقعٍ من أصقاع المعمورة دون الاكتراث بالظروف التي تعاند هذا المشروع

 ليس بدعاً إذا قلنا إنّ اللغةَ العربيّةَ عاشتْ محاطةً بكثيرٍ من اللهجات في كلّ بلدٍ بحسب خصوصيّاته ومناطقه وتأثير اللغات في لغته العربيّة

الجليل وتقف عائقًا أمام نجاحه، وتنوّعت غربة العربيّة ولا سيّما في هذه السنوات العشر الأخيرة من الحراك الشعبي العربيّ وشعوب المنطقة من أجل حياةٍ كريمةٍ حرّةٍ والتطلّع لآفاق جديدة من الحياة تواكب تطوّرها في البلدان المتقدّمة والانعكاسات السلبية التي لحقت البلاد والعباد ومن ثمّ اللغةَ العربيّةَ، ويمكننا أنْ نتحدّث عن نوعين لغربة العربيّة هما: غربة داخلية وغربة خارجية.

 ليس بدعًا إذا قلنا إنّ اللغةَ العربيّةَ عاشتْ محاطةً بكثيرٍ من اللهجات في كلّ بلدٍ بحسب خصوصيّاته ومناطقه وتأثير اللغات في لغته العربيّة، فعاشت حالةَ اغتراب في بلادها من جرّاء ذلك وإنْ كانت الرؤية من زاوية ثانية أكثر إشراقًا تمثّلت في الاهتمام باللغة العربيّة في الدوائر والمؤسّسات الرسميّةِ وكان هذا الاهتمام عزاء المهتمّين والمتخصّصينَ في اللغة العربيّةِ فصارت العربيّة قِبلةَ طلبةِ العلمِ وخِصلةَ افتخارٍ عند كثيرٍ ممّن أتقنها محادثة وكتابةً وعرف أسرار جمالها ووظّفها في حديثه وكتاباته، فكان موضع إعجاب ممّن حولَه.

 في ظلّ الحراك الشعبيّ العربيّ وما نتج عنه من استباحةٍ للبلاد من قِبَل جيوش وجماعات مسلّحة تتحرّك وفق أجنداتٍ معيّنةٍ وأغلبُ هذه الجيوش والجماعات غريبة عن العربيّة أو مشوّهةٌ لها نطقًا وإنسانيّةً وهجرة أبناء العربية عن بلادهم وتناثرهم في الأصقاع = باتت العربيّة غريبةً في بلادها دون اغتراب ولسان حالها يحاكي جداول فلسطين الغريبة في ديارها بعد هجرة أبناء الأرض وحلول الغرباءِ محلّهم:

تناديني الجداول شارداتٍ      تسيرُ غريبةً دون اغتراب

 واللغة كالكائن الحيّ لا بدّ لها من مجتمعٍ تعيش فيه وتكون لغته الرسميّة، وخروج اللغة من هذا المجتمع يعرّضها للضعف بل الموت أيضًا! كالسمكة التي لا تعيش إذا خرجت من محيطها وميدانها، وهذا ما حصل للغة العربيّة فقد اقتلعت من منابتها وعاشت غربة في الشتات وأصبحت غريبةً وسْطَ اللغات الجديدة المفروضة على أبناء العربيّة في كلّ بلدٍ من البلدان التي قصدوها؛ منها ما هو قريب من نظام العربيّة ومنها ما هو مغايرٌ لها، بل ومعاكسٌ لنظامها وخصائصها.

ووجد أبناء العربيّة أنفسهم أمام واقع جديد لم يخطّطوا له مسبقًا وإنّما سِيق بهم إليه مكرهين، يحاولُون إيجاد ذواتهم وأنفسهم في هذا الضياع الكبير ولا سيّما في ظلّ ما يمارَسُ ضدّهم من إهانات وعصبيّاتٍ شتّى؛ الأمر الذي جعل كثيرًا منهم ينسلخُ عن كلّ ما له صلةٌ بأصله وأصالته، وهذا ما انعكس على اللغة العربيّة التي رافقته على استحياء منه تعيش منزويةً في أعماق أعماقه! غريبةً حتّى عن نفسه التي باتت تستمرئ اللغة الجديدة وتنأى عن اللغة الأمّ أو اللغة الثقافيّة! فتعيش العربية هذه الغربة الصعبة نتيجة هذا الهجر القاسي من أبنائها تكاد تعاتب قائلةً مندهشةً:

أَيهجُرنِي قومِي عفا الله عنهمُ       إلى لغة ٍ لمْ تتصل برواة ِ

فمن المسؤول عن هذه الغربة؟

إطلاق لفظة المسؤوليّة يعني شموليّتها وهذا الإطلاق مقصود لأنّه لا يمكن إلقاء المسؤوليّة على جهةٍ دون أخرى فاللغة ليست حكرًا على فئة معيّنةٍ أو جهةٍ محدّدة، أو مؤسّسةٍ، بل هي مسؤوليّة الجميع مع العلم أنّ اللغة العربيَّةَ تتمتّع بمقوّمات العالميّة والإنسانيّة كونَها لغة الدين إضافةً إلى خصائصها الأخرى.

ولا شكّ أنّ الأنظمة العربيّة القائمة أو التي على شفا جرف هارٍ تتحمّل المسؤوليّة الكبرى عن إهمال اللغة العربيّة وضعفها واجتثاثها من منابتها بتهجير وتقتيل أبنائها إلّا أنّها ليست المسؤولة الوحيدة! ولكي نكون منصفين في توزيع المسؤوليّة فإنّ المنظمات والمؤسّسات المهتمّة باللغة العربيّة تتحمّل قسطًا كبيرًا من هذه المسؤوليّةِ، وهنا أتساءلُ: أين المنظّمات الثقافيّة والجمعيات اللغويّة أو حتّى الجماعات اللغويّة؟ بل أين أعيانُ العربيّة لمَ لا نسمع لهم صوتًا ولا نحسّ لهم رِكْزًا؟! لقد كان من العقل بمكان أن يوازي الحراكَ السياسيّ حراكٌ تعليميٌّ بشكلٍ عامّ ولغويٌّ بشكلٍ خاص وأركّز على اللغة لأنّها الهويّة، والثقافةُ والتاريخُ ومنظومة الفكر الإسلاميّ والثقافيّ لهذه الشعوب في هذه البلدان المتوتّرة الآيلةِ للفشل والانهيار! فما الحلّ إذَا؟.

للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الاهتمام باللغة العربيّة من حيث تعليمُها وتنميتُها وتمكينُها، والتشجيع على الإقبال عليها ليس على تعلّمها فحسب بل الاعتزاز بها وهذا مهمّ جدًّا فرؤيةُ حالةِ النقص التي يشعر بها أبناء العربيّة من لغتهم وشعورهم بالدونيّة بيئةٌ خصبةٌ لغربة العربيّة في نفوسهم!

ويتجلّى هذا الاهتمام باقتناء الكتب وارتياد دورها، والاستماع إلى العربيّة من قنوات مهتمّة باللغة العربيّة وغير ذلك كثير..

إضافةً إلى ضرورة الاهتمام بلغة الكتابة الإلكترونيّة في وسائل التواصل الاجتماعي وما وصلت إليه لغة الكتابة العربيّة من قِبَلِ أبنائها والاستغناء عن تعابيرها الجيّاشة المؤثّرة بالملصقات والعبارات التبّؤيّة الجامدة الخالية من المشاعر ولا سيّما إذا كان على المرء أنْ يكرّر الكتابة فيقوم بنسخ ولصق ما كتب أو ما نسخ أصلًا! وهذا لَعَمْري تجنٍّ صارخٌ على اللغة العربيّة وخصائصها الشاملة الجامعة بين الفكر والروح.

 ولا بدّ من الاهتمام بالخطّ والكتابة بالقلم الذي هجره كثيرٌ منّا والاستبدال به الذي هو أسرع وأريحُ (الإلكترونيات)، فنحن أمام مهمّة تستلزم نفيرًا عامًّا على صعيد تعليم اللغة العربيّة وتنميتها بدءًا من القراءة والكتابة وصولًا إلى نضجها وتطوّرها الأدبيّ والمجازيّ. والسؤال هنا ما الذي يستوعب هذا الاهتمام ويحتضنه لتنمو العربيّة؟

  قد سبقت الإشارة إلى أهمّيّة البيئة، وإلى أنّ اللغة العربيّة كالكائن

 لا شكّ في أنّ الأسرة هي البيئة الأولى وهي البيئة الأمّ لتعليم اللغة وتنميتها وتطويرها لدى الإنسان ودور الأب والأمّ أساس في ذلك

الحيّ الذي لا يعيش بمعزلٍ عن المحيط أو المجتمع أو البيئة بشكلٍ عامّ، لكنّنا هنا نقف في مواجهةٍ صعبةٍ للسؤال الذي يطرح نفسه: كيف نخلق بيئة للغة تعيش فيه ضمن البيئات المختلفة الجديدة الغريبة؟!

إنّ خَلْق أيّة بيئةٍ ممكنٌ إذا توفّرت الإرادة الحقيقة والإخلاص للغة من قِبلِ أبنائها وهنا نقسّم البيئة قسمين أو نوعين لا غير: الأسرة، والمركز أو المؤسّسة.

 لا شكّ في أنّ الأسرة هي البيئة الأولى وهي البيئة الأمّ لتعليم اللغة وتنميتها وتطويرها لدى الإنسان ودور الأب والأمّ أساس في ذلك وهي البيئة التي يقضي فيها الطفل أو المرء أغلب وقته ومن ثمّ كان لزامًا أن تشعر الأسرةُ بمسؤوليّتها ودورها في تعليم العربيّة والإيناس بها وتعزيزها وتمكينها لدى أبنائها، وقد يسأل سائلٌ: كيف ذلك وقد تشتّت الأسرُ أيضًا؟ نعم لقد تشتّت الأسر إلّا أنّ الأسرَ تتجدّدُ ويلتئم شتاتها ولو بعد حين، لذا لا يكون هذا مبرّرًا لعدم التركيز على الأسرة ودورها في إنماء اللغة والاهتمام بها.

ولا يقتصر هذا الأمر على الأسرة بل على المتخصصين في اللغة العربيّة أو المهتمّين بها فدورهم يكمن في خلق مراكز لتعليم العربيّة وتمكينها، وطباعة كتب العربيّة، وإنْ بدأ بإمكانات صغيرة وبسيطة وأظنّ أنّ إنشاء مثل هذه المراكز ليس مطلبًا طوباويًّا ولا سيّما ما نراه من دعم كثير من المنظّمات الإنسانيّة والثقافيّة لمثل هذه المشاريع؛ وعلينا جميعًا أن نؤدّي دورنا ونتحمّل مسؤوليّاتنا تُجاهَ هذه اللغة الجميلة كي نستحقّ أنْ نكون أبناءها. 

 هي اللغة العربيّة التي يبقى سحرها يجذب إليها القلوب، ويبقى حبّها يجري منّا مجرى الدم، ويبقى تأثيرها يخلق فينا عوالم من الجمال، وتوقد شحنات الوجدان والذهن لتتفتّق براعم تثمر إبداعًا وخَلْقًا فريدَ نوعِهِ.