يثير اصطلاح النهاية كثيرا من التوجس في الثقافة العربية، وبخاصة منذ حملة النقد التي تعرض لها كتاب فوكوياما عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، والذي بشر فيه بأن البشرية وصلت إلى نهاية الشوط، حين انتصرت الليبرالية الديمقراطية على الشيوعية، مجسدة بذلك وصول التاريخ إلى لحظة الكمال.
إذا كانت الدولة الليبرالية هي نهاية التاريخ عند هيغل، والمجتمع الشيوعي هو المرحلة الأخيرة من رحلة البشرية بحسب الماركسية، فإن الدولة الإسلامية الواحدة هي الدولة المثال في تفكير الإسلاميين، أما كمال التاريخ، استنادًا إلى النظرة القومية العربية، فهو الدولة القومية. والوصول إلى هذا الكمال، وهذه الغاية العليا، تنبع من شعور قومي في النظرية القومية، ومن وازع ديني في النظرية الإسلامية، لا من عوامل موضوعية يشكل الجانب الاقتصادي والخدمي أساسها المتين. فالوحدة العربية أو الإسلامية، بناء على هذا التصور، عصا سحرية ستحل بالوصول إليها كل مشكلاتنا، بغض النظر عما تحققه لنا تلك الوحدة الموعودة. وهذا ما يفسر إلى حد بعيد لا عقلانية كلا المشروعين، واعتمادهما على المشاعر والأهواء، بدلًا من النظر إلى حركة الواقع والتاريخ.
من المناسب الإشارة إلى أن نقطة البداية في أزمتنا المعاصرة تعود إلى بدايات مشروع النهضة العربية، وخطابها الذي ساد الحياة الثقافية والفكرية في المشرق العربي، منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. إن أهم عثرة للخطاب القومي هي إغفال تأثير الجوانب الاقتصادية والخدمية في حياة البشر، فتحقيق الوحدة العربية في أدبيات ذلك الخطاب يأتي بفعل شعور فطري مجبول في الذات العربية، وليس ثمرة عوامل موضوعية يأتي الاقتصاد في مقدمتها. لهذا، وُلد خطاب النهضة، وهو يعاني خللًا بين حجم التنظير السياسي الكبير، والفقر الشديد في الرؤية الاقتصادية، والذي كان فيما يبدو كعب أخيل في هذا الخطاب الذي بدا متماسكًا من الناحية الفكرية، في سياق الظروف السياسية التي وجد نفسه فيها.
العار الذي لحق بكرامتنا الوطنية بفعل الاستعمار الفرنسي، وتقسيم بلادنا إلى دويلات، صبغ نضالنا بطابع العزة القومية، واستدعى مفردات الأنفة والكبرياء والشموخ
ربما يجد المرء العذر للمنظرين الأوائل الذين كان مشروع الدولة القومية لديهم ردًا على محاولات حزب الاتحاد والترقي فرض سياسة التتريك على العرب، وطمس هويتهم اللغوية والثقافية. ولهذا، لم ينل الجانب الاقتصادي والخدمي أي اهتمام أو تنظير، فاتخذ رد الفعل العربي، وبخاصة في بلاد الشام، شكل حركة إحياء للغة العربية، تمثل أحد وجوهها في تأسيس مجمع اللغة العربية بدمشق، وهدفه المعلن تخليص اللغة العربية من الكلمات التركية الدخيلة. فالبعد الاقتصادي والخدمي لم يكن مؤثرًا في تشكيل خطاب النهضة، والبرامج التي رفعتها الأحزاب والجمعيات العربية لم تتضمن مطالب اقتصادية وخدمية، تؤسس حالة قطيعة عن السياسات الاقتصادية والخدمية التي كانت تسير عليها الدولة العثمانية. كانت الدولة العثمانية دولة عادلة، في توزيع تأخرها الاقتصادي، وسوء خدماتها، على كل البلدان والمناطق التي تحكمها، والبلاد العربية الخاضعة للدولة العثمانية لم تختلف في شيء عن المناطق التركية نفسها، فالاختلافات الطبقية في أرجاء الإمبراطورية العثمانية لم تتخذ مظهرًا قوميًا، فنقاط الاشتراك بين الباشا العربي والباشا التركي أكثر من جوانب التلاقي بين الباشا العربي والفلاح العربي على سبيل المثال.
استمر الضعف في التنظير الاقتصادي، وتجاهل الجانب الخدمي، في مرحلة الاستعمار الغربي. إذا تكلمنا على حالتنا السورية في مواجهة الانتداب الفرنسي، فسنلاحظ أن كبرياءنا القومي أصيب بطعنة، بعد أن حققنا جزءًا من حلمنا في تأسيس دولة عربية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. العار الذي لحق بكرامتنا الوطنية بفعل الاستعمار الفرنسي، وتقسيم بلادنا إلى دويلات، صبغ نضالنا بطابع العزة القومية، واستدعى مفردات الأنفة والكبرياء والشموخ، دون أن يتناول نضالنا أي جانب تنظيري، يسهب في الحديث عن الخسائر الاقتصادية التي تترتب على وجود الاستعمار؛ فظلت، بناء على هذا، مفاهيم مثل النهب الاستعماري والإمبريالية والاستغلال، مؤثرة في الجانب العاطفي، وجزءًا أساسيًا من بلاغة الخطاب القومي، دون أن يتشكل وعي عام بالمكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق في أعقاب رحيل المستعمر.
التقليل من البعد الاقتصادي سنراه لاحقًا؛ ففي تفسير اندلاع حركات الاحتجاج في ربيع عام 2011م، يجري التركيز على الاستبداد السياسي للأنظمة العربية، وغياب المشاركة السياسية، فيما يخفت أو يتوارى تفسير هذه الثورات بغياب العدالة الاقتصادية، وانسحاب الدولة من أدوارها الخدمية، كذلك لا توضع حركة الربيع العربي في سياقها العالمي، بوصفها حركة تمرد واحتجاج على الأوضاع الاقتصادية التي أدت إليها الأزمة المالية العالمية في عام 2008م، وكأن هذه المجتمعات تعيش معزولة عن حركة الاقتصاد العالمي.
تجليات هذا الضعف في الجانب الاقتصادي متجذرة في مبادئ حزب البعث العربي، وأسسه التي ارتكز عليها، والتي تكاد تخلو من أي بعد اقتصادي، أو برنامج عمل منظم، أو رؤية شاملة للتطوير الاقتصادي. فإذا استثنينا التنظيرات السياسية التي تشكل استمرارًا لمبادئ خطاب النهضة، فإننا لا نعثر على أي تصور للحالة الاقتصادية التي سيحكم بموجبها الحزب. كان هذا طبعًا قبل الاندماج مع الحزب الاشتراكي، وتلفيق نظرية جديدة، يمينة في جانبها السياسي، ويسارية في شقها الاقتصادي، نظرية بدت أشبه بثوب مرقع، يجمع بين الأسس الفكرية لخطاب النهضة الذي ورثه حزب البعث، وروح العصر "الاشتراكية" في خمسينيات القرن المنصرم. وهو تلفيق سيحاول الإسلاميون مجاراته بالحديث عن اشتراكية الإسلام، كما فعل مصطفى السباعي في كتابه المنشور بهذا الاسم.
كانت الوحدة مع مصر كفيلة بفتح أعيننا على حقيقة أن الشعور القومي لا يكفي وحده للوصول إلى الهدف المنشود؛ ولكننا لم نحسن قراءة انهيار الوحدة السريع بطريقة موضوعية. باختصار، كانت الإيديولوجيا أكبر بكثير مما تحققه تلك الإيديولوجيا على الأرض. وإنصافًا للتاريخ، فإن ما وصلنا إليه حاليًا لا تتحمل تبعاته الإيديولوجيا القومية وحدها، فما زال في مجتمعنا من يرى أن الإيديولوجيا القومية هي المقولة التي ينبغي أن ترتكز عليها الدولة السورية، يعزز ذلك تجذر خطاب القومية العربية في بلاد الشام عمومًا، وسوريا خصوصًا، وإن كان هؤلاء القوميون قد خفت صوتهم على خلفية التفتت الذي أصاب المجتمعات العربية في العقد الماضي.
إخفاقاتنا المتزايدة في العقود السابقة دليل على ضرورة التوجه نحو الاقتصاد والخدمات، والتجارب العالمية نفسها تؤكد أن الانعتاق من أسر القيد الإيديولوجي أدى بكثير من الدول إلى قفزات في مجالات التنمية، وتجربة الصين مثال لا يمكن أن تخطئه عين.
لقد أثبت المشروعان الإسلامي والقومي أنهما مشروعان فوضويان، يحاولان جمع ما لا يمكن جمعه في الواقع، وأن الخيار الوحيد هو خيار الدولة الوطنية الديمقراطية التي تقوم على اقتصاد السوق
إن صورة الدولة المثال التي ترتسم في مخيال السوريين ليست دولة إيديولوجية، فالمشروع القومي استحال إلى دولة دكتاتورية تقوم على نواة عسكرية طائفية، عطلت التنمية عقودًا، ودمرت في السنوات الماضية ما استطاع الإنسان السوري إنشاءه بمجهوده الذاتي. أما المشروع الإسلامي أو الدولة الإسلامية، فإن التجارب التي عاشها السوريون في بعض المناطق في السنوات الماضية، وبخاصة مع تبدل السيطرة على الأرض بين فصائل عسكرية إسلامية التوجه- هذه التجارب قدمت الدليل الأكيد على فوضوية هذا الخيار، وعجزه عن إنشاء دولة تليق بطموحات السوريين وتضحياتهم.
لقد أثبت المشروعان الإسلامي والقومي أنهما مشروعان فوضويان، يحاولان جمع ما لا يمكن جمعه في الواقع، وأن الخيار الوحيد هو خيار الدولة الوطنية الديمقراطية التي تقوم على اقتصاد السوق، وعلى توفير الخدمات الاجتماعية (الصحة-التعليم-الضمان الاجتماعي...)، على الرغم من كل ما أصاب الفكرة الوطنية من دمار بفعل سياسات النظام الطائفية.
في اللحظة التي سيجلس فيها السوريون ليقرروا شكل دولتهم المقبلة، عليهم أن ينحوا جانبًا أي بعد إيديولوجي عابر للحدود السورية، وأن يناقشوا القضايا التي تحقق العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، واللامركزية الإدارية، والخدمات الاجتماعية...إلخ. لقد شربنا من كأس الإيديولوجيا طويلًا، وحانت الآن لحظة الصحو والاستيقاظ.