في ميلاد رسول المحبة لننظر في عيون بعضنا البعض

2019.12.24 | 16:42 دمشق

2019.12.16.16.02.31-8v.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما سألت "الأوردياديات" أو ربات الغابات البحيرة: لماذا تبكين؟ بعد أن سقط فيها وغرق ذلك الفتى الأجمل "نرسيس" ونبتت مكانه زهرة النرجس "الحزينة"، ردّت البحيرة: أبكـي من أجـل نـرسيس لأنـني كـنت في كـل مرة ينحني فيـها على ضفافي أرى انعكاس جمالي الخاص في عمق عينيه. مع أن الحكاية تريد أن تقول إن كل فرد يرى صورته في الآخر، لكن ما نال من الشهرة حدّ تسمية أحد الأمراض النفسية أو الاضطرابات الشخصية باسمه هو نرسيس الذي بهره جماله، على حدّ قول الأسطورة فهوى إلى عمق الماء وقضى.

الكلّ يبحث عن جماله ليمتلئ بالرضا والإعجاب، يتوق إلى أن يقرأ انعكاس شخصيته في عيون الآخرين، مراياه الأكثر حساسية التي إذا ما رأى نفسه فيها على حقيقتها يمتلئ بمشاعر الرفض والكراهية. المرآة جديرة بأن تفتح للإنسان باباً للدخول إلى إدراك ذاته، ليس ما تقدمه مجرد انعكاس لصورته فيها، فهناك بعض الحيوانات التي تعرف آلية المرآة وتعرف أيضاً أن ما تراه هو صورتها، أو ربما صورة مخلوق يشبهها كما عند بعض أنواع القرود والدلافين والفيلة، لكن الإنسان يتفوق عليها بفضاء الأسئلة الفلسفية الذي توفره له المرايا. ليس الذنب ذنبها حتى يصبّ البعض جام غضبه فوق وجهها فيهشّمها لأنه رأى ما لا يريد أن يراه، كخدوش الزمن على وجهه، عمره الذي لم يحدّثه أحد عنه لكن المرايا قالت. ما ذنبها في أنّ نرسيس فتنه جماله فهوى إلى الماء ومات وصار رمزاً لعقدة نفسية يحملها كثير من الناس قد تصل حدّ جنون العظمة أو البارانويا، وفي الهلع الذي يصيب بعضهم كلما لمحوها بسبب رهاب المرايا "السبكتروفوبيا". المشكلة فينا، فمرايا أرواحنا فيها تاريخنا وما راكمنا في رحلة العمر، لكنها في حالة عطالة تنتظر انعكاس صورتنا في الآخر، الآخر هو مرآتي، هو إدراكي لذاتي. فماذا فعل الواقع الجهنمي والحرب المتغولة في حياتنا على مدى السنوات التسع؟ بل ماذا فعلت عقود أو قرون من العطالة التي أينعت فيها الأعشاب السامة في أرواحنا، أعشاب الكراهية والثأرية والضغينة تجاه الآخر الذي لم تعكس مرآة عينيه الصورة التي نحملها عن أنفسنا ولا نريد أن نرى الحقيقة التي تستبطنها؟

في هذه المناسبة التي تحتفل فيها غالبية العالم، العالم المسيحي وجزء من العالم غير المسيحي، هل يمكن أن يقف المرء لحظة ويعود إلى روحه وهو يستعيد حكاية المخلص الذي نذر نفسه لخير البشرية؟ الذي نادى على المحبة والتراحم والتسامح والغفران؟ إن ما تشهده البشرية

التراحم يندرج تحت مفهوم الأخلاق والمثل، هذا المفهوم الذي أول ما ينتهك في ظروف الحروب الوحشية كالتي تدور في بلادنا

من مآس وكوارث في وقتنا الحالي وخاصة سوريا يلخص واقعًا يفوق كل خيال أو تصور، وليست الحروب التي تدار على أرضنا وبأرواح شعبنا، التي تدمر هويتنا وتراثنا الحضاري إلاّ نتيجة لهذا الواقع الرهيب، فهل يمكن الحديث عن التراحم في لحظة استعار مجنون كهذا؟ التراحم يندرج تحت مفهوم الأخلاق والمثل، هذا المفهوم الذي أول ما ينتهك في ظروف الحروب الوحشية كالتي تدور في بلادنا، لكنه أصبح اليوم حاجة ملحّة لترميم ما بقي من النفوس ولم يتآكل حتى آخره، فكل يوم جديد من القتل السوري سوف يزيد الانهيارات أكثر ويعمّق الشروخ والانقسامات.

لو يفكر واحدنا بالآخر الذي لا يشبهه لكنه يكمّله، لو يرى فيه مرآته الصادقة فيسبر أعماقه وينصت إلى حديث روحه، كلنا أرواحنا تعاني، وكلنا من هذه الأرض، وكلنا انزلقنا بطريقة أو بأخرى إلى منحدرات معيقة للحياة المشتركة والحياة الخاصة، وكلنا تعرضت مناعتنا لأعتى أشكال الاختبار، وغالبيتنا يعتبر نفسه محصنًا ضد مشاعر الكراهية والرفض والإقصاء، بينما الواقع أن غالبيتنا كنا نرى بعين واحدة، لأن الرؤية بالعينين متطلبة، فهي تفرض علينا موقفًا أخلاقيًا على الأقل، وهذا مكلف في ظرفنا الحالي، مكلف حدّ الموت. لكن هل أحدنا ناجٍ من الموت؟ لقد صار المصير الأكثر حتمية لكل سوري، الموت السوري متعدد الأشكال يحصد الأرواح ويحصد النفوس، فمن لم تمته الحرب مات مجازيًا مع موت هويته الإنسانية، فإلى أين المصير والأفق مظلم مغلق؟

صحيح أن لا شيء يبقى ثابتًا، فالحركة هي قانون الطبيعة والحياة، لكن هل يبدأ التغيير من الرأس في حالة كحالتنا، أم لا بد أن يبدأ من القلب؟ وحتى يبدأ من القلب ألا يلزمه أن تفتح المرايا على بعضها البعض؟ من الجدير بكل عاقل أن يرى نفسه في الآخر، وحتى يحقق هذه الضرورة من أجل العيش الجماعي الذي هو حاجة إنسانية بامتياز، لا بد له من الاعتراف بالآخر وبأنه متممه في هذا التجمع الذي ينتميان إليه، عليه ترويض أنانيته وسعيه المحموم إلى الامتلاك والحيازة والتسلط والتميز، نرسيس قضى بمشاعر الإعجاب بالذات، لو كانت مراياه هي عيون الآخرين، أو لو كانت المفارقة تأتي من الاختلاف ربما لم تلاقِ تلك النزعة النرجسية الأنانية طريقًا إلى نفسه وربما عاش حياته الطبيعية مثله مثل بقية البشر، لكن أن لا يرى المرء في المرآة غير نفسه فهذا أمر قاتل. بينما البحيرة قالت: أبكـي من أجـل نـرسيس لأنـني كـنت في كـل مرة ينحني فيـها على ضفافي أرى انعكاس جمالي الخاص في عمق عينيه. فهل نطمح بأن ينمو في أعماقنا ضمير كتلك البحيرة التي رأت جمالها في عيني الآخر؟ أم سيبقى الآخر الذي لا يشبهنا هدفًا نمارس فيه عقدنا المتأصلة في أعماقنا المتكلسة التي صاغتها قرون من التبعية لكل أشكال

إن ما أورثته الحرب، وهي لم تنتهِ بعد، مزيد من الانقسام والتفتت وتجذير المجتمعات العميقة والهويات الضيقة في سوريا

الطغيان فجردتنا من أهم شيء يمكن أن يجعل حياتنا ذات معنى، ومستقبلنا واعدًا وملونًا، العمل معًا وليس ضد بعضنا البعض؟ كيف يمكن أن يحدث التغيير فيما لو بقينا منقسمين مشتتين تحركنا الضغينة والكراهية والثأرية، وبقي ولاؤنا للزعيم والقائد والجماعة والعشيرة والطائفة؟

إن ما أورثته الحرب، وهي لم تنتهِ بعد، مزيد من الانقسام والتفتت وتجذير المجتمعات العميقة والهويات الضيقة في سوريا، وكلما طال أمد الحرب وحصاد الأرواح والتهجير والتشريد، سيخسر السوريون أهم مرايا في حياتهم، عيون بعضهم البعض.

قد يتهم هذا الكلام بالرومانسية المغفلة التي تطرح نفسها في زمن غير زمانها ولن تجدي نفعًا أمام جبروت العنف والقتل، لكن، من قال إن كل السوريين يريدون الحرب ويقبلون الحياة التي يعيشونها المفارِقة لكل مقومات الإنسانية في أي بقعة من بقاع الأرض السورية؟ التراحم والتسامح والغفران أكثر ما تحتاج أرواحهم، على وعد أن يكون هناك عدل واحترام لحقهم في الإقرار والاعتراف بما ارتكب بحقهم، بعدها يمكن أن يمارسوا تلك القيم بتلقائية ودون إكراه فيما لو كانوا يحلمون بإعادة بناء وطنهم. في ذكرى ميلاد رسول المحبة، كل عام والإنسانية بخير.

كلمات مفتاحية