في مغبة الانتماء لهذا الشرق وهويته المُجَرَّمة

2022.12.17 | 07:39 دمشق

في مغبة الانتماء لهذا الشرق وهويته المُجَرَّمة
+A
حجم الخط
-A

احتفى صديق سوري سرياني بفوز المغرب على البرتغال، فشاركه أحدهم الاحتفاء مردفا بعفوية "إنه انتصار للعرب والمسلمين" فرد السرياني بكل ود "لست عربيا ولا مسلما وحق لي الفرح ولنتشارك معا" ثم دار حوار لطيف أفضى لتفاهم بينهما، وبعيدا عن عروبة السريان من عدمها، نرى أن العروبة اختُزِلَت ضمن أطر الشعور القومي -الضيف الجديد والحديث- الممارس سياسيا والذي تم تأسيسه على يد مثقفين مسيحيين بتوافق غربي إبان الحرب العالمية الأولى وتهاوي الرجل المريض – دولة السلطنة العثمانية-، ثم تبلور على طريقة البعث والناصرية؛ حتى ذهب هذا التضايف لاحتلال الضيف مكان المضيف وإزاحته، حتى انحصر تصور قوم أو شعب بنزوع "نخبهم السياسية" وتم التغافل عن العروبة الثقافية الحضارية التي لم تكن عرقا ولا أصلا بقدر ما هي ثقافة وقيم حملها كل من عاش في تلك الرقعة وضمت حضارات تشابكت وتواشجت وصنعت كل هذا التاريخ.

ولعل حلم الهجرة نحو الغرب فتح مجالا لكل مغترب للمجاملة والمحاباة والانذهال مما أنجزه هذا الغرب، لكنه وبعد تأثيث السكنى فيه سرعان ما وجد المسيحي نفسه جزءا من ذاك الشرق وثقافته التي تشكلت في حاضنة الإسلام، ووجد غير العربي العروبة الثقافية ركنا من ثقافته بعيدا عن موقفه من الحراك السياسي القومي العربي والتنظيمات الإسلامية الراديكالية، فاحتفى كل هؤلاء بانتصار المغرب المذكور رغم احتفال الكثير بذاك الانتصار انطلاقا من كون المغرب بلدا عربيا أو مسلما، لكن المثير للانتباه أنه وبين الموقفين هنا وهناك ظهر موقف بدا متطرفا لدى ثلة من المثقفين والمستثقفين والكتبة أنكر هذا الاحتفال، واعتبر أن المغرب دولة أبنائها فقط وما الاحتفال إلا لأنه نصر حققته دولة من شرق ضعيف أو أمة مهزومة ومأزومة، بل وأنكروا على اللاعبين سجدة الشكر أو رفع أكف الدعاء، في حين عندما صلى لاعبو أوروبا وأميركا القارتين الغربيتين كل حسب طريقته لربه، لا نأمة صدرت عن هذه الثلة المغرِّبة تغريبا لم يمارسه الغرب نفسه بين عموم أبنائه، ولسان حالهم يقول نحن النسخة العالمية الحداثية المعولمة الخارجة عن أغلال الشرق المتخلف وكل قيمه وأخلاقه وثقافته؛ التي ضمت المسيحي والمسلم والعربي وغيره من الإثنيات والأقوام والشعوب، ولأنهم مثقفو الانبطاح لا بد  أن يُنِفِّسوا عن عقدهم وضاقت بهم السبل في مناسبة رياضية في أن يجلدوا ذواتهم و شعوبهم كما دأبوا؛ فلم يجدوا سوى التقزيم من أثر الفوز وإنكار حق الاحتفاء، حتى انبرى في حروب الفضاء الأزرق من لا ينتمي للقومية العربية ولا للإسلام دينيا فقال حول هذا الانسلاخ "أيها المثقفون الأباطرة المتنطعون في الطعن بأي نشوة ولو صغيرة اتركونا نفرح في غمرة هذا الخسران الكبير في كل شيء، وكفى لعنا بهذه الشعوب وفوقية على هذا الشرق البغيض وكأنكم لستم منه وإن تبرأتم منه فمن أنتم؟" 

لو سئل عنها لاعب تربى في فرنسا وكبر مثل زين الدين زيدان لقال إنه فرنسي، ولكنها ظهرت في ضربه للاعب الذي سبه في عِرضه كجزء من هوية ثقافية ينتمي لها رغم شكل حياته المختلف

يفتح القول الأخير سؤالا محوريا عن الهوية وتطوراتها وتبدلاتها وشتى أشكال تحولها، ورؤية الفرد لنفسه ولهويته المعلنة بوعي منه، أو المضمرة ومختزنة في لا وعيه. مثل تلك الهوية المضمرة التي لو سئل عنها لاعب تربى في فرنسا وكبر مثل زين الدين زيدان لقال إنه فرنسي، ولكنها ظهرت في ضربه للاعب الذي سبه في عِرضه كجزء من هوية ثقافية ينتمي لها رغم شكل حياته المختلف.          

هل يمكن للهوية أن تتأسس أو تستقر بدون شرط اجتماعي بل وجماعي أيضا؟ وللقائلين بانتمائهم لهوية أوروبية أو إنسانية عالمية هل هذه الهوية هي هوية أفراد أم هوية مقرونة بانتماء ما؟ وهل يشكلون جماعة محددة لها صفات وبينها علاقات أو تجمعها جملة أفكار خاصة تميزهم عن غيرهم ويعرفون بها؟ حسنا إن كان كذلك -رغم انعدامه- فاتركونا بحالنا نحن المحتفلين بانتصاراتنا، نحن المتمسكون بهوياتنا عربية كانت أم إسلامية أم مشرقية أو حتى وطنية، فما يربطني بالمسيحي من هوية مشرقية أعلى مما يربطني بمهاجر يميز نفسه عنا بأنه مهاجر بينما نحن لاجئون- كما يقول الكثير- إذا اشتد النقاش ليؤكد فوقيته. 

وهو ما يفتح مجالا لدراسة حقيقية للتفريق بين المهاجرين واللاجئين والفروق الثقافية وعوامل التحول والتفكير لدى كل منهم، حيث يرى المهاجر نفسه أنه هاجر بملء إرادته بحثا عن حياة أفضل اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، بينما اللاجئ خرج طريدا شريدا فارا بنفسه وعائلته بحثا عن لقمة عيش، وعليه أن يعيش حالة من الامتنان لمن منحه اللجوء وعليه تبني كل ما يطرحه المجتمع الجديد من قيم، واكتشاف أن التحول الذي يطرأ على الهوية لدى المهاجرين لا يمثل خطا واحدا يتفق مع خط تحولات الهوية لدى اللاجئ الذي هجر عن وطنه ويبغي العودة إليه، ورغم أنه من حق أي منهم أن يختار طريقة حياته وأشكال التعبير عنها والانتماء، لكن ذلك يفتح سؤالا آخر حول عمن يمكن التعويل عليهم؛ في بناء وطن خسر أبناءه في موجة نزوح قسري هائلة وزعتهم في بلدان الشتات، وآخرين  هاجروا بحثا عن حياة أفضل؛ دون أن نسقط في إطلاق حكم القيمة وتثبيت معيار آخر سوى بناء الأوطان بسواعد أبنائها.

أما عن الهوية وتحولاتها فبالرغم من إمكانية اجتراح الكثير من الأفكار بخصوص ذلك، نزعم أن الهوية لا يمكن أن تتعين على مستوى الفرد بصفات خاصة وقيم خاصة، لأنها حينذاك ستكون عادات وطبائع خاصة بالفرد واهتمامات، وانتماءات ضيقة، إذ لا بد أن يتحقق تعينها عبر فضاء مشترك عام كلي أو جزئي في مجتمع/ جماعة/ طبقة/ أو فئة اجتماعية حقيقية أو حتى متخيلة، وهي تغدو في حالة عدم انتمائها للجماعة / المجتمع أو بلورتها جماعة أو مجتمعا أو شريحة اجتماعية تغدو ضربا من الفردانية، ولا ينقض هذا القول سوى من يحتفي بالهوية الفردانية التي أغرق بها الغرب مجتمعاته، وشتتها في مغبة التقديس الشعاراتي للفرد وحرياته التي اكتسبت صفة رمزية صنمية، يصار تحت وسمها إلى استعباد المجتمعات اقتصاديا، وإشغالها بتلقف الفرص لسد احتياجاتها التي تصنعها الشركات، وتغرسها وسائل الإعلام في ذهنه لتطويعه وتحويله إلى قطعة صغيرة في آلة كبيرة اسمها مجتمع الدولة المقونن والمحكوم بالعمل، والركض خلف الرغبات المصنوعة سلفا، مع حفاظها على هوية كلية أوروبية غربية متعالية على كل ما هو غير غربي؛ عبر استشراق مستمر وذهنية كولونيالية تأسست عليها أنظمة وأنساق الحكم في أوروبا والغرب كله.

ما تشهده ساحة المهجر الشاسعة لا تمثل تلك المماحكة التي تجترح تطورا وتحولا في تشكلاتها بل تنحصر في كونها دعوات متهافتة للطعن بهذا الشرق وهوياته

بالرغم من أن الهوية ليست تعينات ثابتة بل خاضعة للتحول والتحوير فإن هناك من يخلط بين التعيين الاجتماعي للهوية وبين رمزها ومنطوقها ورأسمالها الرمزي، إن ما تشهده ساحة المهجر الشاسعة لا تمثل تلك المماحكة التي تجترح تطورا وتحولا في تشكلاتها بل تنحصر في كونها دعوات متهافتة للطعن بهذا الشرق وهوياته يعبر عن أزمة مطلقيها وخروجهم من أي هوية سوى تلك الفردية التي تضيق كلما اتسعت في انتمائها العالمي المعولم دون ركيزة أو أرومة تنسب نفسها لها، وتشدد على نبذ تلك الأرومة التي انبثقت منها وانسلخت وتجرح فيما يمكن تحقيقه حتى إن البعض صار ينظر، إلى قضية رياضية بمنظور عقد هوياتية حتى وصل الأمر إلى اعتبار انتصار فريق المغرب مثلا هو انتصار لأعضاء الفريق فقط، ولا يعبر عن المغرب الدولة، وأن هؤلاء اللاعبين لم يكونوا ليحققوا نصرا لولا معيشتهم في أوروبا، وأن هذا النصر يعود لهم كأفراد حصرا، لكنا لا نعرف ماذا سيقول هؤلاء لو انتصرت فرنسا في مباراتها القادمة عبر منتخبها المشكل من أفارقة مهاجرين؟ وهل سينسبون الفوز لأفريقيا أم للدولة التي مثلوها في المونديال؟