icon
التغطية الحية

في مدار المعنى.. بين سطوة الوزن وجموح النثر

2025.08.23 | 12:00 دمشق

آخر تحديث: 23.08.2025 | 12:03 دمشق

7767
تماضر سعيد عودة
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- الصراع بين الشكل والروح في الشعر العربي يتمثل في التوازن بين الالتزام بالوزن التقليدي والبحث عن حرية التعبير، حيث يرى البعض أن الشعر الحقيقي يجب أن يكون موزونًا بينما يفضل آخرون التحرر من القيود.
- ظهور قصيدة النثر في القرن العشرين كتحول فلسفي وجمالي، يركز على الصورة والمجاز دون الالتزام بالوزن، مما أتاح لأصوات جديدة، خاصة الأنثوية، التعبير عن الذات بعيدًا عن الخطابية التقليدية.
- أزمة الشعر المعاصر تتعلق بجودة الكتابة وفهم المتلقي، حيث يفتقر الكثير من الشعراء والمتلقين إلى الأدوات اللازمة، مما يجعل النقاش حول جمال الشعر عقيمًا دون النظر إلى قدرته على الإدهاش وتحريك الداخل.

في اللحظة التي يتوهج فيها الحرف، لا يسأل الشاعر نفسه: هل ما كتبته موزون؟ هل التقطَ البحر نبضَ قلبي؟ أم أن الكلمات خرجت حافية، تركض بلا قيد، لأن الألم كان أسبق من القافية؟

الشعر في جوهره ليس سؤالًا عن الشكل. إنه انفعالٌ أول، برقٌ خاطف، انكشافٌ طارئ لحقيقةٍ يصعب قولها في اللغة العادية. ومع ذلك، لا يخلو الشعر من صراع. صراع بين الشكل والروح. بين ما توارثناه من قوالب، وما نحاول اليوم أن نخلقه من حريّة.

هذا الصراع، الممتد منذ مطلع القرن العشرين، حين تجرأ شعراء على كسر البيت العربي، لم يخفت، وإن تغيّرت ملامحه. لا يزال البعض يرى أن الشعر الحقيقي لا يكون إلا موزونًا، موقّعًا على دفاتر الخليل بن أحمد الفراهيدي. فيما يرى آخرون أن الشعر اليوم يجب أن يتنفس بحرية، دون أن يُقاس بمسطرة العروض.

لكن، هل الشعر هو الوزن؟ وهل النثر، حين يُسمّى شعرًا، هو انفلات من الشعر نفسه؟

بين هذين السؤالين، تتأرجح القصيدة، ككائنٍ حيّ يبحث عن ذاته في عالمٍ تغيّرت فيه كل المسافات، بما فيها المسافة بين الكلمة وصداها.

الشعر الموزون.. الأب الذي لا يُنسى

منذ الجاهلية، ارتبط الشعر العربي بالوزن، حتى غدا أحد عناصر تعريفه. فقد اعتبر القدماء أن القصيدة لا تكون شعرًا إن لم تنتظم في بحر من بحور الفراهيدي، وتلتزم بنظام الشطر والعجز.

هذا ليس مجرد تحكّم شكلي. بل هو جزء من هوية الشعر العربي، من مخزونه الثقافي، من إيقاعه الداخلي الذي ارتبط بالغناء والرواية والبطولة والحكمة.

لا تقف القصيدة عند باب الوزن، فالزمن الذي نعيش فيه لا يحتمل قصائد "منمقة" أكثر مما يحتمل قصائد "متسيبة". نحتاج إلى قصائد صادقة، متقنة، مكتوبة بشغف لا بادعاء، ومشحونة بمعنى لا بزخرفة

قصائد امرئ القيس والنابغة وزهير، ثم المتنبي وأبي تمام والبحتري، كلها تقوم على الوزن، لا كقيد، بل كرافعة.

البحر الشعري هنا لا يخنق المعنى، بل ينقله. يمنحه دقّات قلب. يصبح الجرس الداخلي جزءًا من المعنى لا ملحقًا به.

ولذلك، فإن المدافعين عن الوزن لا يبدون حنينًا فقط، بل يطرحون سؤالًا جماليًا:

هل يمكن للقصيدة أن تظل شعرًا إن فقدت إيقاعها الداخلي الخارجي؟ وهل الحرية تعني بالضرورة نثرًا؟ أم أن الحرية الحقيقية تأتي من السيطرة على الشكل والقدرة على الانزياح داخله دون أن نخلّ بنظامه؟

الشعر النثري.. ابنة القلق النبيل

في النصف الأول من القرن العشرين، بدأت قصيدة النثر تتشكّل، لا كتمرّد غاضب، بل كنتيجة لتحولات فلسفية وجمالية، واحتكاك بالحركات الأدبية الغربية.

جاءت قصيدة النثر على يد روّاد أمثال أنسي الحاج، أدونيس، محمد الماغوط، ثم لاحقًا وديع سعادة وسليم بركات، باعتبارها فضاءً شعريًا جديدًا، يُعلي من الصورة والمجاز والدهشة والعمق، دون أن يُلزم نفسه بالبحر والقافية.

إنها ليست نثرًا تقليديًا، بل نثر مشحون بالانفعال، محمّل بالشعرية، متوتر بين الرغبة في التبسيط والقدرة على الإدهاش.

هي تتوسل الموسيقى الداخلية، لا الإيقاع الخارجي. وتبني معناها عبر الصورة والانزياح والتركيب والتكثيف، لا عبر انتظام التفعيلات.

والأهم، أنها سمحت لصوت أنثوي بأن يظهر بقوة، بعيدًا عن "الخطابية" الذكورية التي طغت طويلًا على الشعر العمودي. فكم من شاعرات وجدن في قصيدة النثر مساحة للتعبير عن الذات، عن الجسد، عن الهامش، عن الأشياء الصغيرة التي كانت تُهمَّش باسم "البلاغة".

أزمة القصيدة أم أزمة التلقي؟

في عصرٍ يشهد طوفانًا من "الكتابة السريعة"، بات الشعر، نثريًا كان أو موزونًا، يعاني من أزمة مزدوجة؛ أزمة جودة في الكتابة، حيث الكثير من "الشعراء" لا يتقنون أدوات الشكل الموزون، فيقعون في ركاكة عروضية، أو يسقطون في نثرية فوضوية تحت اسم "قصيدة النثر".

وأزمة فهم لدى المتلقي، الذي ما عاد يملك أدوات التذوق، ولا صبر التأمل، في زمن السرعة والاستهلاك.

وهنا يصبح النقاش حول "أيّ الشعرين أجمل؟" نقاشًا عقيمًا، إذا لم يُطرح ضمن سؤال أكبر:

هل ما نكتبه ونقرؤه اليوم لا يزال يملك القدرة على الإدهاش؟ على تحريك الداخل؟ على إعادة تعريف العالم؟

ما الذي يصنع الشعر؟

الشعر في النهاية، هو معنى قبل أن يكون شكلًا. وهو دهشة قبل أن يكون تقنية. هو القدرة على أن تقول ما لا يُقال، أن تُضيء ما يُنسى، أن تكتب كما لو أن الحياة تُكتَب لأول مرة.

شخصيًا، لا أجد تعارضًا بين القصيدتين. لقد قرأت نصوصًا نثرية زلزلتني، كأنها تنبض تحت جلدي. ووقفتُ مشدوهة أمام بيت موزون قديم، كأنما كُتب لي في زمنٍ آخر.

المسألة ليست في الأداة، بل في اليد التي تمسك بها. وليست في القالب، بل فيما نملأ به القالب.

في الشعر الموزون مثلًا، نقرأ هذا البيت للمتنبي:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ   فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

بيت لا يخلو من التحدي الفلسفي والنبض الشعري الموزون. البحر هنا لا يفرض سطوته، بل ينقل طموحًا داخليًا.

ولنزار قباني:

حينَ تكونينَ معي، لا أحتاجُ لشيء  

لا نجمَ في السماء، ولا شمسًا في المساء

إيقاع ناعم، يذوب في رهافة المعنى، دون أن يخرج عن الوزن المدروس.

ومحمود درويش:

ونحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلًا  

ونرقصُ بين شهيدينِ نرفعُ مئذنةً للغزالِ

درويش يقدّم القصيدة السياسية بلغة جمالية عالية، لا تنفصل فيها الموسيقى عن المعنى.

في النثر

أنسي الحاج:

أَشهَقُ دونَ صوت

أَصرُخُ في الظلّ

أَكتبُ الشعرَ لأنَّ أحدًا لا يَسمع

قصيدة نثرية بامتياز، مشحونة بالتوتر الداخلي، والهمس المؤلم.

محمد الماغوط:

أيّها الليل، لا تأتِ...

لا حاجة لي بك

فأنا ظلمةٌ تمشي على قدمين

لغة بسيطة، لكنها مرعبة، تؤكد أن الشعر النثري لا يحتاج زخرفة، بل صِدقًا.

وديع سعادة:

كنتُ أظنُّ أنني سأعود

لأجدَ البابَ في مكانه

لكنَّ البيتَ رحل

وبقي البابُ وحيدًا

مجاز مدهش، يحمل عمقًا وجوديًا عميقًا في نثرٍ يبدو عاديًا لكنه مصقول بالحسّ الشعري.

في النهاية لا تقف القصيدة عند باب الوزن، فالزمن الذي نعيش فيه لا يحتمل قصائد "منمقة" أكثر مما يحتمل قصائد "متسيبة". نحتاج إلى قصائد صادقة، متقنة، مكتوبة بشغف لا بادعاء، ومشحونة بمعنى لا بزخرفة.

القصيدة الموزونة العظيمة لا تُنسى، وقصيدة النثر العميقة تبقى كوشم في القلب.

فلنكتب إذن، كما لو أن اللغة آخر ما نملك. ولنمنح الشعر حقه في أن يكون حيًّا، لا موضوعًا في متحف الأشكال. فالشعر الصادق لا يحتاج وزنًا ليثقل، ولا حريةً ليتحرر. هو حرٌ بطبعه، خفيفٌ كالماء، عميقٌ كالألم، وأبديّ كالصمت الذي يسبق الانفجار.