في غياب النموذج.. روسيا بين الماضي والحاضر

2022.03.07 | 06:14 دمشق

weeb_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

يواجه المتابع للحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا سيلا من الأخبار ومقاطع الفيديو التي تبث على مدار الساعة، وكلها تنقل صورا من صمود الأوكرانيين في مواجهة الغزو الروسي لأرضهم؛ الأمر الذي يحجب عن المشاهد رؤية الصورة بتفاصيلها كاملة، إذ يتوارى الطرف الروسي، وتختفي وجهة نظره للأحداث، ومع أن المنطق الإنساني يقتضي الوقوف في مواجهة العدوان، فإن الموضوعية تفترض الاستماع إلى ما يصدر عن الجانب الروسي من أجل تفنيد حججه على الأقل. وبسبب هذا الزخم الإعلامي الذي تؤطره القنوات المضادة لروسيا، لا تعبر الصور التي تنقلها وسائل الإعلام عن الحقائق العسكرية على أرض الواقع الذي تتقدم فيه روسيا عسكريا على نحو ثابت، وإن كان ذلك بخسائر عسكرية باهظة جدا للجانب الروسي.

هذا الزخم الإعلامي الكبير المساند لأوكرانيا يدفع الكثير من المراقبين إلى الاستنتاج بأن روسيا تخسر الحرب، وأنها تتجه نحو هزيمة تاريخية مشابهة لما حل بالاتحاد السوفيتي في أفغانستان، على الرغم من أنها قد تفوز في المعارك العسكرية، وقد تسيطر على أوكرانيا أو على أجزاء منها، إلا أن ذلك لن يحول دون وصول الأحداث إلى هذه النتيجة التي تترسخ في وعي المتلقي يوما بعد آخر بوصفها حقيقة ثابتة. فروسيا بحاجة في الحالة الأوكرانية إلى نصر غير دموي، وهذا ما يبدو مستبعد في ظل المقاومة التي يبديها الأوكرانيون، ما يعني أن الحلم بنصر سهل وسريع يتلاشى مع مرور الوقت، ولاسيما مع الكلفة الإنسانية الكبيرة التي تبدو في أعداد القتلى من الطرفين، وازدياد اللاجئين الأوكرانيين الذين يعبرون الحدود إلى دول الاتحاد الأوروبي، باستثناء بعض الأصوات اليسارية العتيقة التي ما عادت تجد من يصغي إليها إلا في أوساط المؤدلجين أو أولئك الذين تحركهم دوافع معاداة العالم الغربي، فإن صوت الإعلام الروسي يكاد يغيب تماما، وهو غياب نابع من تلاشي مصداقية هذا الإعلام الذي يعتمد على الكذب والدجل وتزوير الحقائق بوصفها معايير أساسية تحكم أسلوبه وطريقته في التعاطي مع الأحداث.

لا تملك روسيا، اليوم، على خلاف الاتحاد السوفيتي، النموذج الذي يمكن أن يرى فيه جزء من البشر الأفق الذي يريدونه لحياتهم

لكن لهذا الغياب عن ساحة الإعلام العالمي سبباً آخر، هو غياب القوة الناعمة وهو غياب يعود إلى افتقار روسيا إلى نموذج يمكن أن يجد له روادا أو مشاهدين أو معجبين في أنحاء مختلفة من العالم.

ما الذي يمكن أن يجذب الإنسان إلى روسيا التي تريد أن تصحح الخطأ التاريخي الذي نتج عنه تفكك الاتحاد السوفيتي؟ لا تملك روسيا، اليوم، على خلاف الاتحاد السوفيتي، النموذج الذي يمكن أن يرى فيه جزء من البشر الأفق الذي يريدونه لحياتهم، أو الصورة التي تتوافق مع المبادئ والقيم التي يعتنقونها أو يؤمنون بها. كان الاتحاد السوفيتي نموذجا للأمل الذي يراود المحرومين في تحقيق الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والمساواة، فيما ترمز روسيا لعالم الأمس، وخصوصا مع إصرار قيادتها على اتخاذ مسار معاكس لحركة التاريخ، مسار يقف في الجهة المناقضة لقيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ويركز على خطاب شوفيني يتطلع إلى استعادة روسيا القيصرية بكل ما تحمله أذهان البشر عنها من قمع وفقر وتسلط وعبودية، بمعنى ما فإن الصورة التي تقدمها روسيا عن نفسها هي صورة تقف ضد مفهوم ترسخ في الوعي الإنساني منذ العصر الفيكتوري، وهو مبدأ التقدم الذي يرى أن العالم يتجه نحو الأفضل والأحسن، وأن حياة البشر تسير نحو الكمال. وهذه الصورة يمثلها في أذهان الغالبية من البشر الغرب الرأسمالي، أو النموذج الغربي الذي يعد مرادفا للحداثة التي تقف روسيا في وجهها.

بغياب النموذج الجاذب، تفقد روسيا القوة الناعمة التي تسوغ لها أفكارها في العالم. كان للاتحاد السوفيتي السابق أنصار في كل أرجاء الكرة الأرضية، من أميركا الجنوبية بأحزابها اليسارية، إلى حركات التحرر في أفريقيا وآسيا التي اتخذت مسارا يساريا، وصولا إلى الحزب الشيوعي الإندونيسي الذي كان يضم أكثر من 10 ملايين شخص على أقل تقدير، هذا إن لم نذكر مطبوعات دار التقدم التي كانت توزع المنشورات الماركسية، والأدب الروسي، وهي منشورات ربما كانت موجودة في كل قرية من قرى العالم الثالث، وكذلك مئات الآلاف من الطلبة الذين درسوا في جامعات الاتحاد السوفيتي ومعاهده. يضاف إلى ذلك مصادر قوة ناعمة أخرى، كغزو الفضاء، والإنفاق على الفنون والباليه والموسيقا الكلاسيكية. عناصر القوة الناعمة السابقة أسهمت بدرجة أو بأخرى في التغطية على مثالب القوة الصلبة للنظام السوفيتي، ولا سيما في غزو المجر عام 1956م، والقضاء على ربيع براغ عام 1968م، وقمع الانتفاضة العمالية في بولندا عام 1981م. أما حين دخل الاتحاد السوفيتي الحرب إلى جانب الحكومة الشيوعية في أفغانستان، فإنه وجد في قوته الناعمة داعما له في حربه على "الرجعية الدينية المتخلفة" في مواجهة نظام تقدمي.

وليس لدى روسيا اليوم من عناصر القوة الناعمة آنفة الذكر أي شيء، فالصورة التي تظهر فيها روسيا هي صورة نمطية عن القوة الاستعمارية التقليدية التي تذهب بجيوشها لتحتل بلدا آخر وتسرق ثرواته، وهي محط استهجان في عالم اليوم، فقد غدا الاستعمار التقليدي صنوا لعالم العبودية الآفل، وكما لا يرضى البشر اليوم ولا يقبلون بعودة العبودية، فإنهم أيضا لا يقبلون الاستعمار التقليدي. وهو ما يدفعهم إلى مقاومته ومحاربته، الأمر الذي يجعل كلفته المادية أكبر بكثير من العوائد الاقتصادية التي يمكن أن يجلبها.

ما يعنينا من كل هذا -نحن السوريين والعرب-أن نتكلم مع العالم اللغة التي يفهمها، وأن ندخل قضايانا في سياق المفاهيم الإنسانية العامة: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان

لا يمكن الحديث عن قوة ناعمة من دون نموذج أو رابطة ما، قد تكون الرابطة دينية كما في تعلق المسلمين من غير العرب بالعربية وبالإنتاج الثقافي العربي، وخصوصا ما يتصل منه بالدين والفقه وقضايا الفكر الإسلامي. وفي حالة النموذج الرأسمالي الراهن فإنه يعرض الرفاه الاقتصادي والتطور التقني والحريات الفردية والاجتماعية. أما روسيا فبتركيزها على قيم قومية، واستعانتها برموز وشخصيات موغلة في محليتها وخصوصيتها، وربما في تعصبها القومي، لا تجد جمهورا يمكن أن يتقبل قضايا لا يفهمها، وحتى إن عرفها فإنها لا تثير فيه أدنى درجات التعاطف. وحركة اللاجئين الأوكرانيين اليوم مقياس لا يكذب، فاللاجئ الأوكراني اليوم مثل اللاجئ السوري يتجه إلى الدول التي تمثل النموذج الذي يريد العيش فيه.

ما يعنينا من كل هذا -نحن السوريين والعرب-أن نتكلم مع العالم اللغة التي يفهمها، وأن ندخل قضايانا في سياق المفاهيم الإنسانية العامة: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، بدل الانغلاق في أوهام الماضي الذي لا يعني للآخرين شيئا.