icon
التغطية الحية

في عودتنا إلى الفلسفة لمواجهة الاستبداد

2022.08.27 | 22:19 دمشق

9876789
+A
حجم الخط
-A

ظهرت في السنوات الماضية مؤشرات على عودة الاهتمام بالفلسفة في العديد من البلدان العربية، تجسدت في إشادة بيوت وملتقيات لها في بعض مرابعنا، ومنحها مزيداً من الفسحات عبر دوريات متخصصة وإصدارات ومؤلفات جديدة، وفي برامج المدارس والجامعات، إضافة إلى تنظيم ندوات ومؤتمرات حول الحاجة إلى الفلسفة لمواجهة قضايا عصرنا الراهن، المستلب من طرف قوى وسلطات الاستبداد وأصحاب الدعاوى والنزعات المتطرفة.

وارتبطت العودة إليها في أذهان ووعي الشباب والشابات وسواهما بالتفكير النقدي للراهن والسائد في بلداننا، وبأهميتها التنويرية، وبكونها الأداة المعرفية الأرقى والضرورية للتفكير الإنساني، وبما تقدمه للإنسان، من حيث هو إنسان، من إضاءات وحجج عقلانية حول الكون والوجود، وذلك من أجل استيعاب العالم والواقع المعاش والأفكار المجرّدة معاً، كونها صانعة أقفال الكينونة، وكاشفة لماهية الوعي والحقيقة، ويكمن تميزها من تشكيلها منهجاً تفكرياً لرؤية شاملة، ومن عدم توقفها عن طرح الأسئلة، وإبداع المفاهيم، وتشييد المقامات، وأرضنة المتعالي.

وتأتي العودة إلى الفلسفة بعد أن ظلمت كثيراً وعلى مدى عقود عديدة، تسيّدت فيها النزعات والرؤى المتشدّدة، والأنساق والمفاهيم الأحادية الضيقة، التي سوقتها سلطات الأمر الواقع والمرجعيات والمذهبيات المنغلقة، من أجل إسكات صوت العقل، وإغلاق آفاق التفكير، الأمر الذي أفضى إلى إفساح المجال لنمو توجهات متعصّبة ومنطوية على ذاتها، عملت على إسكات أصوات الفلاسفة، وإخراج الفلسفة من ديارنا العربية، والحطّ من قدر الفلسفة ومقامها العالي، بل وقامت سلطات الاستبداد بمطاردتها وتحريمها، ووصل الأمر إلى حدّ تجريمها وتكفيرها، والحاصل هو أن بقاء الفلسفة بقيت طوال قرون عديدة منبوذة في مجتمعاتنا العربية.

 ولم يتغير الواقع كثيراً في عصرنا الراهن، حيث شيّدت جدران عازلة بين التفكير الفلسفي والواقع المعاش، وجرى حصر الفلسفة في سياقاتها النظرية وأطرها الجامدة، ووضعها في صيغ منمّطة مشدودة إلى الماضي والتراث، دون أن تكون على تماس مباشر مع مستجدات العصر، لذلك ظلت الفلسفة تعاني من تبعات إظهارها وكأنها مقولات جامدة قيلت في حقب التاريخ الغابر، ويتمّ استعادتها أو استدعائها بين حين وآخر، فيما الفلسفة تعشق الراهن وتلازمه، كونها مرتبطة على الدوام بحياة الناس وواقعهم المعاش، وبما يحمله واقعهم من مشكلات وأزمات وتناقضات وتحديات، فهي ليست أسيرة صفحات الكتب والثقافة المتعالية، لأن همّها ليس الإنسان المطلق والمجتمع المطلق والوجود المطلق والعقل المطلق خلال كافة محطات تاريخها، بل كانت، خلال تناولها لذلك، تنطلق دائماً من مشكلات وإشكاليات بعينها، من ناس معينين، من مشاكلهم الشخصية ومعاناتهم الخاصة وهواجسهم الفردية، فأداور الفلسفة متعددة، ومهمتها الجوهرية تتجسد في التصدي للخلل في علاقات البشر ببعضهم بعضاً، وعلاقات البشر بالطبيعة والكون، وخاصة حينما تتعرض تلك العلاقات إلى الاختلال والاضطراب والفساد، لذلك تمتلك الفلسفة دوراً نقدياً أساسياً، ولا ترضى أن توضع في خدمة السلطة، أي سلطة كانت، سواء كانت سلطة الدين أم الحكام أم الأيديولوجيا.

 في العصور التي توصف بالعصور الذهبية، راحت الفلسفة تستنير بالعقل مرشداً بوصفه المدبر لكل تفكير نظري يخص معارف الإنسان المجردة

لقد قامت الفلسفة منذ نشأتها بدكّ مداميك الخرافة والوهم على يد المعلمين الأوائل، من أمثال أفلاطون وأرسطو وسقراط، وراحت تضرب جذوراً مختلف العلوم الأساسية، في الطب والفلك والكيمياء والفيزياء وسواها على يد فلاسفة عرب ومسلمين كثر، وتأصلت في الأدب، وخاصة الشعر، فضلاً عن فنون التشكيل والموسيقا وسوى ذلك.

 وعاشت الفلسفة أفضل أيامها في عصور اتسمت بالإعلاء من قيمة العلم والعلماء والفلاسفة والمفكرين، وتُرجمت فيها كتب ومؤلفات فلاسفة اليونان القدماء وعلمائهم، ولعب فلاسفة ومترجمون عرب ومسلمون كثر دوراً بارزاً في ترجمة وشرح مختلف اتجاهات ومدارس الفلسفة، وحققوا إضافات كثيرة في جميع ميادين المعرفة الطبيعية والإنسانية المعروفة في عصرهم. وأسهم كل ذلك في تشكيل الملامح الرئيسة لشخصيات فلسفية، تميزت بنظرها العقلاني العميق، وثقافتها الموسوعية، وتفكيرها النقدي الذي لم يتوانوا عن استخدامه سلاحاً في وجه كافة أشكال السلطات الدنيوية والدينية.

 وفي تلك العصور، التي يصفها بعضهم بالعصور الذهبية، راحت الفلسفة تستنير بالعقل مرشداً، بوصفه المدبر لكل تفكير نظري يخص معارف الإنسان المجردة، حسبما اعتبره ابن باجة، الذي أعلى من قيمته إلى درجة أصبح فيها التعقل هو المدبر لكل تفكير عملي يخص أمور الإنسان الحياتية، التي تميزه في أسلوب حياته ونمط عيشه الذي يختاره بإرادته الحرّة.

وكذلك اتخذ كل من أبي حيان التوحيدي وأبي بكر الرازي وابن رشد وابن طفيل العقلانية مسلكاً في مواجهة قوى الظلام، عبر الإعلاء من مكانة العقل وشأنه، ولم يترددوا في الاعتزاز بقيم العقل الذي يدعو إلى العلم والعدل، بوصفه أنسب طريقة من أجل بلوغ السيرة الحسنة والحكمة والفضيلة، وذلك في إطار سعي هؤلاء الفلاسفة جميعاً إلى هدم المدينة الناقصة، وتشييد مدينة كاملة، باستخدام العقل في مواجهة الخراب والفساد في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وراحوا يجتهدون في تبيان الكيفية التي يتدبر بها الإنسان، لتحقيق ذاته وبلوغ السعادة التي سيسعى بشكل فعال إلى تحقيقها في مدينته الكاملة، وذلك من أجل إرسال رسالة سياسية، محملة بالنقد اللاذع للأوضاع السائدة على مختلف الأصعدة الاجتماعية والسياسية، التي أنتجت إنساناً بعيداً في سلوكياته عن الفضيلة، وتخلو أفكاره من الحكمة، نتيجة تعطيل عقله، فأصبح عدواً لنفسه وللآخرين. وهو ما يحدث في أكثر من بلد عربي في أيامنا هذه.

عربياً، وبعد كل ما جرى، وما يزال يجري فيها منذ اندلاع الثورات العربية، فإن مقولة تجرد الفلسفة وحيادها لم يعد جائزاً طرحها، فضلاً عن أن هذه المقولة لم تكن قائمة، ولا تملك وجاهة، في أي مرحلة من مراحل التاريخ، حيث كانت الفلسفة على الدوام مرتبطة بالدفاع عن البشر وحقهم في الحياة، واجترحت مبادئ وحقوق الإنسان، أياً كان، وأينما كان، وعن حقه في الحياة وحريته في التفكير والتعبير والرأي والاختلاف والوجود، لذلك نحن بأمس الحاجة إليها، بالنظر إلى ما حدث، وما يزال يحدث، في بلداننا العربية منذ انطلاق الثورات العربية من قتل للبشر، وخاصة السوريين، حيث أظهر نظام الاستبداد الأسدي وحشية لا مثيل لها في حربه ضدهم، ومن إِتلاف للحجر والشجر، وتدمير للمدن والبلدات والقرى، وتهجير قسري واعتقالات وتعذيب، وسوى ذلك من الفظائع والجرائم، وبما يجعل الإنسان يقف مدهوشاً من وحشية النظام ووحشية حلفائه في نظام الملالي الإيراني ونظام بوتين الروسي.

أما في سورياً، فقد وقف فلاسفتها إلى جانب ثورة آذار/ مارس 2011، حيث شارك طيب تيزيني في اعتصام وزارة الداخلية، وتعرض للضرب من طرف عناصر أجهزة استخبارات الأسد، ولم يتوان صادق جلال العظم في الدفاع عنها، وكذلك فعل أحمد برقاوي وآخرون.

لعل كل ذلك يؤكد أن العودة إلى الفلسفة تتجسد في مقاومة التوحش. توحش نظام الأسد، ودفاعاً عن السوريين كبشر، والدفاع عن حقهم في الحياة، وتحرير سوريا من سلطة الاستبداد، التي تمادت في قتلهم واستبعادهم، فالفلسفة هي مقاومة التسلط، وصراع ضد أنظمة وقوى الانحطاط والتفاهة والوضاعة على كافة المستويات، في الفكر وفي الوجود، ويشهد تاريخها على فلاسفة دافعوا عن العدل والفضيلة، وقاوموا الظلم والوصاية والأيديولوجيا وغير ذلك، في محاولاتهم تحصين الفكر والحياة، بغية بلوغ السعادة، وبالتالي تبرز الحاجة إليها في مجتمعاتنا العربية بغية خلخلة وتفكيك أبنية الديكتاتورية ونزعات التطرف والطائفية، والخلاص من براثن القمع والقهر، وسائر أركان الارتكاسات والارتدادات الفكرية والعلمية والجهل والتخلف والعبودية.