في صحبة الألم

2020.04.27 | 00:01 دمشق

dfb6744f-37b5-4c4c-859d-10516403a10f.jpg
+A
حجم الخط
-A

في صراعنا الجماعي بمواجهة هذا الفيروس الذي يجتاح حياتنا كعدوٍ خفيٍّ تصعب مواجهته، أجدني أمام كلمات "علي عزت بيكوفيتش" الرئيس البوسني الأسبق، في كتابه الغني "هروبي إلى الحرية" والذي دونه في فترة سجنه "1983-1988"، يتحدث عن الصحة والحرية: (عندما تكون في السجن، تكون لك أمنية واحدة: الحرية، وعندما تمرض في السجن، لا تفكر في الحرية، وإنما بالصحة، الصحة إذن تسبق الحرية).

وفي انعطافةٍ على الكثير من مشاهد حياتنا اليومية، سنجدها تتمحور في بعض جنباتها حول مستوياتٍ متباينة من الألم والمعاناة، والحرمان الذي يخلف قدراً من الآلام الجسدية والنفسية، التي تلازمنا لسنواتٍ طويلةٍ، وإن اختلفت أشكال تمظهرها في حياتنا.

جميعنا خَبِر الألم الجسدي، الذي يسببه التعذيب أو المرض عموماً، هو شكلٌ حادٌّ من أشكال التحذير، التي تطلقها الحواس، للتنبيه إلى حدوث خطرٍ، أو خللٍ يمس الجسد أو النفس. ويمكن النظر إلى الألم بصفته تجربة حسية أو وجدانية بغيضة، تضغط على الكينونة الإنسانية، وتدفعها للرضوخ أو التشوه، وهو إن لم يكن قتلاً مباشراً، فهو يشكل عملية دفعٍ مستمرٍ، إلى حالة الاحتضار، وهي حالة أسوأ بمرات من حالة الموت، وهذا يفسر في وجهٍ من وجوهه، مقدار الراحة التي تعترينا، حين يموت المحتضر، سواء بفعل التعذيب أو المرض الطويل.

في حالة المرض تصبح الكينونة البشرية متمركزةً في الموضع الجسدي الذي يشكل حصنها الأهم، بينما في حالة الألم تتمركز هذه الكينونة وجملة الأحاسيس في بؤرة توهج الألم، مما يجعلها أسيرة هذه البؤرة التي يصعب الانفكاك عنها.

وغالباً ما تكون تجربة الألم حادثاً عابراً (باستثناء الأمراض العضال) يقاومه الإنسان بالمسكنات التي باتت جزءاً مهماً في حياتنا اليومية، أو بالمعالجات النفسية التي تجدي في كثيرٍ من الحالات.

ويمكننا اعتبار الألم من أشد العوامل المشوهة للبنية الإنسانية، حيث يصحُّ القول، إن بعضاً من أنماط التعذيب المبالغ فيه، والذي يصل في معظم حالاته إلى ضفاف الموت أو يتعدّاها، يفتح في ذات الضحية فجوةً دائمة للرعب الوشيك، وهذا كفيل بتهشيم السكينة الإنسانية وجعلها في حالة ترقبٍ دائم لما هو أسوأ، خاصةً إذا كان هذا الألم ناتجاً عن تعذيبٍ منهجيٍّ بقصد الانتقام، هذا التعذيب يهدف بشكلٍ مباشرٍ إلى تحطيم البنية المدنية الحرة للإنسان، وتحويله إلى حيوانٍ خاضعٍ، جلّ همه النجاة من هذا التعذيب، والبقاء على قيد الحياة.

هكذا بالضبط كانت طبيعة التعذيب اليومي في سجن تدمر، وهو يختلف بشكلٍ كبيرٍ، عن التعذيب الذي يجري في أقبية التحقيق، حيث يعمد الجلاد هناك خلال التعذيب، إلى الحصول على إقرار أو اعتراف الضحية، وبالمقابل فالضحية تقاوم هذا التعذيب، من خلال تمسكها بقيمة الصمود، وحماية من ترفض الاعتراف عليهم، وبالحيلولة بين المحققين وما يرغبون بالوصول إليه، الأمر الذي يجعل المقاومة فعلاً معززاً في مواجهة الألم.

أذكر صديقي "أبو النجا" في حديثه عن معاناته ومقاومته للمحققين، وهم يحرقون له باطن قدميه وأصابعه، واحدة تلو الأخرى، وهو يرفض الاعتراف، بذكر أسماء يطلبها المحققون، ومع هول الألم الحارق، كان يشعر أنَّه يضغط بجميع أسنانه، على عنق المحقق المتميز غيظاً من صموده، هي حالة نادرة للمقاومة، مقاومة الألم ورفض الانكسار.

لكنَّ فكرةً عظيمةً، كانت تحول بينه وبين الانهيار، جوهرها أنَّه لن يكون سبباً في جلب المزيد من الأبرياء إلى هذا الجحيم.

في البدء يكون التعذيب فردياً، أي أن الضحية تواجه الجلاد أو الجلادين بصفتها الفردية، وبهذا تكون الضحية منفردةً، بمواجهة نظامٍ قمعيٍ كلِّيّ القدرة، وهنا يكون أثر التعذيب في أقصى درجاته، الأمر الذي ينجم عنه ألمٌ مديدٌ، غالباً لا تزول آثاره لسنوات طويلة، بينما يكون التعذيب الجماعي، أخف وطأه مهما بلغ مداه، حيث تشعر الضحية بقوة وطاقة المشاركة التي يمنحها حضور المجموع، حتى في ساحات التعذيب، وهذا ينطبق على البون الشاسع، بين حجم المعاناة التي يعيشها السجين في زنزانة منفردةٍ، وتلك التي يعيشها في زنزانة جماعية، ليس فقط في المؤازرة النفسية، التي تعزز بقاء السجين ومقاومته، من خلال وجوده ضمن مجموعة، إنما بفضل الساعات المشتركة وتبادل الأحاديث، ومقارنة المصاب الشخصي، بمصائب الآخرين، وصولاً إلى السخرية التي يشترك بها المجموع، من وقع حادثةٍ بعينها، ربما تحصل مراراً في ساحات التعذيب، تعبِّر عن تفوقنا كسجناء، على هذا المسخ البغيض، الذي شاءت الأقدار أن يكون جلادنا وآلة تعذيبنا.

يبقى المعنى أمراً محورياً يكتسي أهميةً جوهريةً، في التجاوب مع هذه المعاناة، فوجود قيمةٍ تبرر أو تفسر هذا الألم أو العذاب، يرفع من قدرة المقاومة، وحدود التكيف، وهو يشبه إلى حدٍ كبيرٍ، رضى المؤمنين بقبول البلاء الإلهي، باعتباره شكلاً مسلماً به، من أشكال تجلّي العلاقة بين الرب والمربوب، وصفةً لصيقةً بالمؤمنين الذين هم عرضةً للبلاء، كذلك المعنى النبيل الذي يحمله الثائرون والمقاومون وحتى المعارضون، من تحملٍ لتبعات هذه المواقف، وربما قبول الموت في سبيلها، تلك المواقف التي اختاروها عن وعيٍ متوقِّدٍ بمقتضياتها "السجن والتعذيب"، من خلال خروجهم على السلطة المستبدة.

لكن كل ما سبق تناوله، يتعاوره الضعف والهشاشة بطول الأمد، ومع مرور الأشهر الطويلة والسنوات، تفقد المعاني قدرتها تدريجياً على التعليل، ومنح أسباب الثبات، وتتنخَّر المبررات والتفسيرات، وتصبح محض هراءٍ لا تقبل به الروح المعذبة، وأبعد من هذا فإن استمرار الألم والمعاناة بشكلها المفرط، يهدم معنى الحياة، ويُفقد المرء القدرة على التمسك بها، وهنا يصبح الكثيرون أعداء أو خصوماً للفكرة التي حملوها أصلاً، وهذا يفسر في جانبٍ من جنباته، الهشاشة المفرطة التي تعتري التنظيمات والجماعات السياسية في المنفى، حيث لا يبقى لها إلّا ذلك الهيكل الافتراضي المتماسك شكلياً حول سردية أو مظلومية بعينها، لكنه سرعان ما تفتضح هشاشته عند أول تجربةٍ عملية.

كلمات مفتاحية