في سردية العودة إلى حضن سوريا!

2022.04.09 | 06:42 دمشق

406761-1172579787.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقول صديق لي: في لحظة جنون، أو تعقل، أو ضعف، أو شوق أو يأس، أو انعدام الصبر، أو العزلة والوحدة، أو مخاصمة الحياة، قررتُ وأنا بكامل قواي العقلية وليس النفسية العودة إلى سوريا!

قلتُ لنفسي: سوريا ليست لبيت الأسد ومرتزقته، أو لإيران وميليشياتها أو روسيا ونموذجها المتوحش. سوريا بلدنا ونحن أولى بها، خرج كثيرون منها في لحظة خوف من السلاح الكيماوي أو سواه، ربما في لحظة خلاص فردي، أو في لحظة شعور بالعجز عن فعل التغيير، أو الاكتشاف المتأخر بكون النظام ليس معنياً بالإصلاح، خرجنا على أمل أن يكون الخروج مؤقتاً، وأن الانتصار القريب للثورة السورية قادم لا محالة، رمينا تاريخنا الفردي وسيرتنا التي بنيناها، وانطلقنا.

وبعيداً عن الأسباب والمآلات فإنَّ الانتصار العسكري للثورة لم يتحقق، على الرغم من انتصاراتها ذات الطبيعة الاستراتيجية، وبقي النظام السابق للثورة حاكماً على معظم سوريا، أو لنقل سوريا ببعدها الرمزي، التي تخصّ كثيرين منا، ألا وهي سوريا دمشق وحلب ومعظم المحافظات الرئيسية، بالتأكيد سألتُ نفسي بداية إلى أيّ سوريا من السوريات الأربع سأعود: سوريا قسد التي تقع تحت السيطرة الأميركية؟ أم سوريا السلفية من خلال حكم هيئة تحرير الشام بحكومة إنقاذها؟ أم سوريا الحكومة السورية المؤقتة الواقعة تحت السيطرة التركية؟ قلتُ لنفسي: إنَّ ذكرياتي وأهلي يقعون في المنطقة التي يحكمها النظام القاتل وإيران وروسيا، حيث سوريا الأهل والأقارب والدراسة والذكريات والعمل، والمدينة التي شكلتني.

يجب أن يطور الإنسان أدواته وأفكاره، تبعاً للظروف المحيطة به، ومادام المجتمع الدولي والإقليمي قد نفض يديه عن قضيتنا، فيمكننا البحث عن حلول ذاتية

حاولت إبان اتخاذي ذلك القرار الخطير أن أنحِّي موقفي الحاد، بجوانبه السياسية والفكرية والأخلاقية والقانونية، الذي كنت أتمترس خلفه عبر ما يقارب عقداً من الزمن جانباً، وقلتُ لنفسي: يجب أن يطور الإنسان أدواته وأفكاره، تبعاً للظروف المحيطة به، ومادام المجتمع الدولي والإقليمي قد نفض يديه عن قضيتنا، فيمكننا البحث عن حلول ذاتية، وبما أن تجربتنا حتى اللحظة في إنتاج مؤسسات عامة للعمل المشترك قد أجْهِضَت، أو باء كثير منها بالفشل؛ فيمكن للمرء في لحظة يأس ما أن ينسى كل ذلك!

بالـتأكيد القيم الأخلاقية ليست موضع مساومة، لكن من قال: إنَّ حلَّ خروج كل تلك الملايين من سوريا هو أفضل الحلول بعد عقد على بداية الثورة السورية؟ وإنْ كان هذا الحل صالحاً في مرحلة ما؛ فهل هو الحل العابر للأزمنة؟ وهل يبدو أنَّ هناك إمكانية إيجاد مخرج قانوني وأخلاقي وقيمي وسياسي لكل من خرج من سوريا؟ أما فكرة المحاسبة والعدالة الانتقالية التي ننتظرها وضرورتها أخلاقياً وقانونياً ووجودياً فيبدو أنه تم تنحيتها جانباً، لأنه ليس لدى السوريين القوة على القيام بها، والمجتمع الدولي صار ملفنا في الخزانة المغبَّرة والمهملة منه.

يتابع صديقي الذي يريد العودة إلى "سوريته"، سرديته بالقول: اتصلتُ بأحد أصدقائي المقربين جداً، ممن بقي في دمشق على عهد الوفاء، ولم يرَ في خروجي مشكلة، على الرغم من الاختلاف في الموقف من الوضع في سوريا وتفاصيله، وسألته عن الفكرة، قال لي: الأمر ممكن؛ لكنه صعب!

في حين أخذتُ أهيِّئُ أطفالي للموضوع، وكيف أن أباهم سيعود إلى "دمشقه" التي أحبّ! بل إنني انسجاماً مع الحالة أخذتْ تحضر في مخيلتي كل تفاصيلي الدمشقية، وبدا أن الذاكرة الاستعادية تستحضر كل لحظة وتفصيل عشته في تلك المدينة المجنونة. هكذا عدتُ إلى استذكار تفاصيل مكان عملي، وأخذت أتواصل نفسياً مع من بقي من معارفي هناك، ورحتُ أتخيَّل نفسي أجلس على شرفة البيت، الذي استعرته من أحد أصدقائي ممن سبقوني في اللجوء أو الهجرة، بل عدتُ إلى بيتي القديم، وشرعتُ أعيد ترميميه!

ما هي إلا أيام، حتى عاود صديقي المقيم في سوريا موضحاً أنَّ أمر عودتي ممكن، لكنه بحاجة إلى الأخذ بالأسباب، كما يقول صديقي، والأخذ بالأسباب في هذا السياق يعني تهيئة البيئة القانونية والاجتماعية والأمنية للعودة!

قاطعتُه بالنسبة للبيئة الاجتماعية أمرها محلول، لدي من العواطف الكثير، ولدي شبكة علاقات قوية، يمكن تنشيطها خلال فترة قصيرة، غير أن صديقي قاطعني بثقة: لا تنسَ أن كثيرين سيخافون من الجلوس معك، وهناك شريحة أخرى لا تريد التواصل معك وترى أنك من الشريحة التي تركت البلد في الوقت كان من الضروري أن تبقى فيه، وهناك فئة ترى أنكم اعتبرتم الوطن فندقاً أو مطعماً وأنَّكم أفدتم في سفركم، وعشتم حياة آمنة، وحصلتم على جنسيات أوروبية، فيما هم كانوا يتضورون جوعاً وخوفاً! أما الأصعب فهي الفئة التي ترى أنك جزء من شريحة اسمكم (خونة وإرهابيون) ولا أحد يمكن أن يتنبأ بردة فعلها تجاهك!

وبعد لحظة صمت قال: المشكلة الكبرى هي في الجانب القانوني والأمني!

لقد ورد اسمك في نشرتين هما: النشرة الشرطية والنشرة الأمنية مع عشرات الآلاف من السوريين بضرورة اعتقاله أول وصوله إلى أحد المعابر السورية.

 وتابع "كفُّ البحث" عمن ورد اسمه في النشرة الأمنية يمكن حله عبر طريقتين رئيسيتين هما:

  • دفع النقود وهذا لا ينطبق على حالتك.
  • أو الاعتقال والتحقيق والتعذيب ليكون في نهايته الندم على الفعل والاستثمار الإعلامي، وقبل الوصول إلى تلك الخطوة النهائية، عليك أن تذكر كل من قابلتَ أو رأيتَ خلال سنوات غيابك عن الوطن، وسيكون ذلك مرفقاً بعمليات تحقيق لا أحد يعرف عنها شيئاً، ولا أحد يستطيع أن يعدك بشيء في هذا الجانب مهما علا موقعه السلطوي! خاصة أنه بناء على معلومات إقامتك قبل السفر، ومعلومات العمل، وعنوان أهلك قد تبيَّن أن لك عدداً من الملفات الأمنية اختلط فيها الخيال بالواقع، وبصراحة يتطلب حلّها التحقيق معك لعدة شهور في أكثر من جهة أمنية، ومن يعرف، هذا مكان لا يعود منه الداخلون إليه، كما الموت عند بدر شاكر السياب حين نعى أمه في قصيدته الشهيرة "الباب تقرعه الرياح"!

أما ما يخص ورود اسمك في قوائم النشرة الشرطية، فقد زودني ذلك الصديق العتيد برقم محام مهم في دمشق يمكنني أن أتواصل معه، وهذا ما حصل.

غاب المحامي أياماً ليعود ويقول: من وجهة قانونية أنتَ كنت موظفاً لدى الدولة بوظيفة عالية، وقد خرجتَ خروجاً مؤقتاً من سوريا، لكنك لم تتقدم بأي طلب للحصول على تمديد للإجازة، وعقوبة جرم ترك العمل وفقاً لقانون العقوبات السوري هو الحبس من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات مع غرامات مالية. سألته: ألا ينطبق على حالتي "سقوط الجرم بالتقادم، كونه من جرائم الجنحة وهو ما يتسم بأنه مؤقت"؟

ستسلم نفسك في الأمن العسكري الذي سيحقق معك ويدوِّن اعترافاتك، ثم سيحولك إلى المحكمة، بعد وقت مفتوح من التحقيق، التي ستحكم عليك من "السجن ثلاث سنوات إلى الإعدام"!

قال: هذا في الأحوال الطبيعية وإن كان الأشخاص طبيعيين، لكن في الظروف الحالية فإنَّ كل من خرج من سوريا يعامل قضائياً بخلفية سياسية، وفي سوريا يختلط القضائي مع السياسي مع موقف الدولة من الشخص، بل إن الإفادة من قوانين العفو محكومة بشروط معينة!

وتابع: هناك جانب آخر يقع بين النشرتيْن الشرطية والأمنية وهو جانب محكمة الإرهاب، حيث ستسلم نفسك في الأمن العسكري الذي سيحقق معك ويدوِّن اعترافاتك، ثم سيحولك إلى المحكمة، بعد وقت مفتوح من التحقيق، التي ستحكم عليك من "السجن ثلاث سنوات إلى الإعدام"!

وفيما كنتُ أتنقَّل من فرع أمني إلى فرع آخر، ومن سجن إلى سجن بصفتي مجرماً، خائناً للوطن، في دمشق الياسمين والورد والذكريات والحنين، أيقظتني ابنتي بابتسامتها الجميلة، طالبة مني أن أوصلها إلى مدرستها لأن الجو ماطر جداً! قلتُ لها: هذا الشتاء؛ المطر كثير في الشام، ابتسمتْ: بابا نحن في أمستردام!

لم أصدقها، ونظرتُ إلى شاشة الموبايل للـتأكد من مكان إقامتي في هذه اللحظة، وإذ برسالة عبر الواتسأب من ذلك الصديق الذي كان يسعى بأمر العودة يقول فيها: أخي الغالي نصيحتي القلبية لا تعد إلى هذا البلد مطلقاً، في ظل هذا النظام القاتل، هذا بلدٌ يخلو من الأمان، أجمل شيء أن تعيش هذا البلد بصفته ذكرى!