ما معنى أن تكون فناناً في دولة البعث، حيث لا يحيد خطٌّ عن أوامرِ المُخطِّط، وحيث تُعلي الدولةُ الأخطبوطيةُ من تشاء، وتخسف الأرض بمن تشاء، بلا عدل، أو كفاءة، أو مساواة؟
هكذا كان حال المطرب السوري عصمت رشيد (1948-2024)، الذي رحل قبل أيام بعد معاناة ممتدة مع المرض العضال. رحل بصمت دون أية ضجة تُذكر، ودون أن تشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بخبر رحيله. كان رشيد في ثمانينيات القرن الماضي أسطورة حقيقية؛ مطرباً تتسابق الفتيات، ويتسابق الجميع للقاء به والسلام عليه.
كانت أغانيه ظواهر جماهيرية يتذكرها جيداً جيل الثمانينيات، حينما كانت صوره وإعلانات حفلاته تغزو شوارع المدن والمصايف السورية. أغانٍ مثل "ليه تشكي من الدنيا يا ورد" و"كفّك يا جميل" كانت تصدح في سيارات الأجرة، وتُشترى من أجلها الكاسيتات قبل انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. إنها أغاني جيل الثمانينيات، حيث كان عصمت رشيد واحداً من روادها المجدّدين (إن صح التعبير) في الأغنية السورية، برفقة مروان حسام الدين، فؤاد غازي، موفق بهجت، سمير سمرة، وغيرهم ممن يبتسم الكثيرون اليوم حين يسمعون أسماءهم، دون أن يدركوا أنهم كانوا نجوماً حقيقيين في بلد مغلقٍ على نفسه مثل رمّانة صلبة القشرة وطرية الجوف.
ذلك كان حال سوريا، حيث اللباس العسكري مفروض على الطلبة منذ الصف السابع، أي من سن الثانية عشرة وحتى الجامعة، وحيث قناة تلفزيونية واحدة، وإذاعة واحدة، وصحيفتان يتيمتان. صيغة أحادية في كل شيء، يتقاتل عليها المئات، بل الآلاف.
كلية الصحافة تخرّج مئات الصحفيين، دون وجود صحافة تحتاج لكل هذه الكوادر. الحال نفسه في الرياضة والموسيقى والمسرح والسينما وكل شيء. تلك البلاد التي عشناها وعشنا بها، كانت تعيش أصعب مراحلها؛ مرحلة العقوبات الاقتصادية التي أعقبت مغامرات أجهزة مخابراتها في ضرب "الإمبريالية والاستعمار"، على حد قولهم. النتيجة كانت سنوات عجاف على السوريين، ترافقت مع عمليات عسكرية ومجازر وإشاعات ترددها إذاعات الغرب الناطقة بالعربية، مثل بي بي سي ومونتي كارلو، بعد أن فقد المواطن ثقته بنشرات الأخبار المحلية.
وسط كل تلك الشعارات التي كانت تُسكب في رؤوس الناس، كانت هناك مجموعة من المغامرين المحليين الذين قرروا ألا تكون البلاد صحراء فنية. مصطفى نصري وعصمت رشيد كانا، في هذا السياق، محاولتين غير مكتملتين لصناعة النجم على الطريقة السورية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث يُفسح المجال للمطرب ليحتل مكانه في التلفزيون (الوطني) الذي كان يتبنى تلك المشاريع جميعها دون قدرة على تسويق المُنتَج الفني وترويجه.
كافح عصمت رشيد وموفق بهجت وفؤاد غازي وغيرهم، وقدموا أغاني سورية بامتياز، بألحان وكلمات سورية، وحتى تسجيل وتوزيع سوري.
كان رهان الفنان على الدعم الوطني فقط للفنون جميعها، واضعاً كل بيضه في سلة الدولة التي كانت تحتكر كل شيء، فلم يكن يقدر أن ينافس حتى نفسه. منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، غزت المحطات الفضائية البلاد العربية واشتعلت المنافسة، وعُقِدت المقارنات بين المطربين المحليين والنجوم الغربيين بلباسهم، وتسريحة شعرهم، وأغانيهم السريعة، وطرق الترويج لهم. بذلك، انبثق جيل لا يؤمن بالمطرب المتجمّد في منتصف الخشبة وهو يلقي أغنيته مثل خطاب قومي!
مع ذلك، كافح عصمت رشيد وموفق بهجت وفؤاد غازي وغيرهم، وقدموا أغاني سورية بامتياز، بألحان وكلمات سورية، وحتى تسجيل وتوزيع سوري. حققوا نجاحاً كبيراً داخل البلاد ولدى جيل يتجاوز أبناؤه اليوم العقد الخامس من أعمارهم. وحتى يومنا هذا، تشهد صالات السهر في أعياد رأس السنة والعطل الرسمية بنجومية عصمت، الذي لم يتوقف، حتى مرتقى الأنفاس، عن اكتشاف المواهب الفنية السورية الواعدة، ودعمها، وتصديرها للساحة الفنية المحلية والعربية، ومساعدتها في تجنب الأخطاء التي وقع بها هو وأبناء جيله، وجعلته يدور حول نفسه.
يطوي عصمت رشيد برحيله جيلاً من الفنانين الذين شغلوا ذات زمنٍ الناس وملؤوا الدنيا. جيلٌ آمن بسوريا، وبالفن السوري، واللهجة السورية، وقرر أن يصدّق أكذوبة المنبر الواحد والإذاعة الواحدة.
في هذا السياق، تبنّى رشيد المطرب جورج وسوف، وصدّره في غير مناسبة، وسانده خلال صعوده سلم النجومية، ما جعل وسّوف يردّ له الجميل ويغني بعض أغانيه في كثير من حفلاته وأمسياته. مروان حسام الدين دعم، بدوره، أصالة وقدّمها للجمهور وساندها. أمّا فؤاد غازي فقد كان أباً روحياً للعديد من المطربين الذين كبروا في جلبابه قبل أن يشقّوا طريقهم بأنفسهم.
يطوي عصمت رشيد برحيله جيلاً من الفنانين الذين شغلوا ذات زمنٍ الناس وملؤوا الدنيا. جيلٌ آمن بسوريا، وبالفن السوري، واللهجة السورية، وقرر أن يصدّق أكذوبة المنبر الواحد والإذاعة الواحدة. مطربون وملحّنون وشعراء وموزّعون سيظلّون في أذهان الناس وذاكرة التاريخ، مثل عبد الفتاح سكّر، وعدنان قريش، وفهد بلان، وسمير حلمي، وعصمت رشيد، ومروان حسام الدين، وفؤاد غازي، ومصطفى نصري، وغيرهم من المحاربين الدونكيشوتيين، الذين طاردوا الشهرة والنجومية في بلاد لا تؤمن إلا بالأيديولوجيا.