icon
التغطية الحية

في ذكرى رحيلها.. مي سكاف من "سوريا العظيمة" لا سوريا الأسد

2021.07.23 | 14:57 دمشق

في ذكرى رحيلها.. مي سكاف من "سوريا العظيمة" لا سوريا الأسد
أحمد طلب الناصر - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

حين أدرك الشاعر والكاتب المسرحي الإسباني (فيديريكو لوركا) محاولة التغيير في بلاده، أصبح ينظر إلى الحياة من منظار الحقيقة الحيّة التي ترسمها إرادة الشعوب، وأطلق عبارته الشهيرة: "في هذا الزمن المأساوي في العالم، يجب على الفنان أن يُضحِك ويُبكي جمهوره، ويجب أن يترك الزنبق الأبيض مغموراً حتى وسطه بالوحل، وذلك لمساندة الذين يبحثون عنه".

لم يطل الزمن حتى أعدمته طغمة الطاغية (فرانكو) خلال الثورة الإسبانية وحربها الأهلية (1936) رمياً بالرصاص، فيضيع جثمان لوركا منذ ذلك الحين حتى اليوم؛ تماماً كما كتب في قصيدته التي رثى بها نفسه، وكأنه هو من اختار موته: "وعرفت أنني قتلت.. وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس.. فتحوا البراميل والخزائن.. سرقوا ثلاث جثثٍ.. ونزعوا أسنانها الذهبية.. ولكنهم لم يجدوني قط".

هكذا هو الرحيل، يباغتنا من دون مقدمات أو تمهيد أو تقدير لمشاعر الفراق. هكذا، بصورته الفجائعية ووجعه القاهر، سلب منّا -نحن السوريين- ميّ سكاف، وترك لنا صورةً، وموقفاً، وغصّة مزمنة.. تماماً كما ترك للإسبان بعد لوركا.

قبل ثلاث سنوات، رحلت ميّ في الغربة وهي التي كانت أكبر أمنياتها أن تموت في "سوريا العظيمة" التي أنشدتها، وأن يوارى ثراها فيها. كتبتْ حين شعرت بدنو ساعة رحيلها: "ما بدي موت برات سوريا.. بس".

هكذا كتبت، وهكذا تمنّت، وهكذا شاء القدر أن تموت بعد أشهر قليلة من كتابة تلك العبارة، بعيدةً آلاف الكيلومترات عن سوريا. كتبت تلك العبارة وكأنها تعلم مسبقاً أن أمنيتها لن تتحقق!

 

 

ميّ الثورة

منذ البداية اختارت ميّ أن تقف إلى جانب المنتفضين في مظاهراتهم واحتجاجاتهم، وأن تضع نفسها في مواجهة مباشرة مع نظام الأسد الذي اتّبع كل السبل والوسائل في محاولة السيطرة على فئة الفنانين بصورة خاصة، وإبقائهم تحت وصايته.

كما لم يُرضِ النظام وقوف الفنانين والمثقفين على الحياد والتزامهم الصمت، بل أجبرهم على الجهر بالولاء وتأييد ممارساته بصورٍ أسهمت في الحطّ من قيمتهم وتحقير ذواتهم. فصرنا نرى من يرتدي منهم الزيّ العسكري، أو يضع بسطار جنود الأسد في أعلى رأسه، ويقبّله أيضاً.

في خضمّ كل ذلك، اختارت ميّ أن تكون أول المعلنين عن رفضهم الانصياع للنظام ورئيسه وطغمته، من بين بقية الممثلين السوريين. فاحتلت بذلك حيزاً واسعاً من عاطفة ووجدان السوريين المطالبين بإسقاط الأسد.

وما زالت هتافات المتظاهرين في حماة عام 2011، والتي شارك فيها عشرات الآلاف من مختلف الأطياف والمكونات السورية، ترددها حناجر السوريين: "قل للشعب ما يخاف.. ويتعلم من مي سكاف".

عبّرت ميّ عن دافعها للثورة ضد النظام بعبارة: "أرفض أن يحكم ابن بشار الأسد ابني" التي قالتها للمحققين أثناء اعتقالها الثاني في الثورة، عام 2013. وسلكت طريق البحث عن خلاص شعب تحكمه عائلة واحدة منذ 5 عقود.

الاعتقال الأول تعرضت له ميّ في صيف 2011 مع عدد من الممثلين والفنانين الذين كانوا يستعدون للخروج في مظاهرة. أما الثاني (2013) فقد اضطرت على إثره إلى مغادرة سوريا عقب إخلاء سبيلها وبعد إحالة أجهزة الأمن ضبطها الأمني إلى "محكمة الإرهاب".

المواطنة والفنانة

الصدق الذي رافق ميّ في حياتها العامة كمواطنة سورية تبحث عن الحرية لا يضاهي الصدق الذي قدمت به فنها وأدوارها عبر أعوام امتدت من 1991 حتى رحيلها. لم تترك نوعًا من التمثيل من دون تجربته، فتألقت على خشبة المسرح وفي السينما والتلفزيون.

اشتهرت ميّ بالأدوار المركبة والصعبة منذ بدايتها، لكن نجمها لمع بعد تقديمها لدور "تيما" في مسلسل "العبابيد"، الذي أخرجه بسام الملا. وتناول المسلسل قصة مملكة "تدمر" الشهيرة، وتقاليدها وخاصة ما يتعلق بالمرأة منها.

ومثّلت أول أفلامها السينمائية، "صهيل الجهات" للمخرج ماهر كدّو 1991، عندما كانت ما تزال طالبة في كلية الآداب (اللغة الفرنسية) بجامعة دمشق. وبعد أن حققت نجاحاً استثنائياً وأظهرت موهبة متفردة، اختارها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد لتلعب دورًا في فيلمه الشهير "صعود المطر".

ومثلت في العديد من الأعمال الدرامية التي أدّت فيها أدواراً مميزة تتناسب مع شخصيتها المتزنة والصلبة. أسست في عام 2014 معهد "تياترو" لفنون الأداء المسرحي بدمشق، حيث تدرّب فيه العديد من النجوم الفنية الشابة.

ومنذ اندلاع الثورة السورية توقفت ميّ عن العمل الفنّي، ثم عادت في عام2017  إلى عالم السينما من خلال فيلم قصير صُوِّر في العاصمة الفرنسية باريس بعنوان "سراب" للمخرج السوري ملهم أبو الخير، قامت بدور سيدة سورية هاجرت إلى فرنسا خلال سنوات الثورة، وكانت تحلم أن تكون أول امرأة تحكم بلداً عربياً.

 

 

بطاقة تعريفية لـ ميّ

ولدت مي سكاف في دمشق، نيسان 1969. وترعرت في بيئة أسهمت بتكوين شخصيتها الفنية والسياسية، فزوج خالتها الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس الذي يعتبر من رواد المسرح في سوريا والعالم العربي. وخالتها الممثلة السابقة فايزة شاويش.

وعن سيرتها الشخصية، ننقل ما أوردته ميّ في حوار لها مع الشاعر السوري نوري الجراح عام 2013، حيث قالت: "أبي عدنان سكاف الحلبي المسلم، توفي بسبب مرض عضال وكنت ما أزال في سنتي الأولى. رباني جدي يوسف شاويش الذي أنجب من جدتي هيلانة بنتًا وابنًا، تربينا كلنا في منزله.

هذه الابنة أحبت مؤلفًا مسرحيًا بحكم مهنتها كممثلة يدعى سعد الله ونوس، عاشا في بيت جدي سبع سنوات، عشنا جميعًا في هذا البيت الفقير، الغني بالحب والثقافة والإبداع والوطنية التي لا تعرف ما هو الاستبداد. أنا مي سكاف.. لا أعرف أنا ماذا؟ وسأظل لا أعرف إلا معنى واحداً ووحيداً: يسقط الاستبداد".

رحيل مي

رحلت ميّ سكاف في الساعات الأولى من صباح الإثنين 23 من تموز 2018 عن عمر 49 عامًا إثر نوبة قلبية أصابتها في باريس، وبكاها مختلف السوريين الذين ما زالوا يرددون ما كتبته قبل يومين من وفاتها على صفحتها الشخصية: "لن أفقد الأمل.. لن أفقد الأمل.. إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد".