في ذكرى ثورة الحريّة

2023.03.14 | 05:53 دمشق

althwrt_alswryt_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد أشهر من بدء الثورة السوريّة تفاجأت مثل كثير من السوريين بتحوّل المنطق المدني السوري إلى منطق آخر بطريقة مقحمة بشكل واضح بالنسبة للإنسان السوري العادي، حتّى أصبح "الأستاذ" - وهو اللقب المدني المستخدم عادة في حواراتنا كسوريّين - "شيخا" أو "حجّي" خلال فترة وجيزة!

في أثناء مقابلة عمر رحمون مع معاذ محارب - المقدم المميّز في قناة تلفزيون سوريا - تفاجأت من جديد بتحوّل "الشيخ عمر رحمون" إلى "الأستاذ عمر" فتساءلت عن فرق الدّلالة بين أن تكون "شيخاً" في ثورة حريّة و"أستاذاً" بعد المصالحة مع نظام الأسد!

لعلّ مجمل منجز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كان يدور حول البحث في موضوعة "الحقيقة" فعالج فوكو موضوعته من خلال نقد الخطاب، ليس ابتداء من الفعل بل من الحدث؛ فالخطاب جملة رسائل  ودلالات مرهونة بسياقه.

ولمعرفة الحقيقة نصح فوكو بـ"إعادة صبغة الحدث إلى الخطاب، ورفع سيادة الدّال"، فلا يمكن أن تكون الذقن الطويلة مثلاً دليلاً على الإيمان لدى تصوّر ما والإيمان خير؛ ودليلاً على الإرهاب لدى تصوّر مقابل والإرهاب شر؛ وكلا التصوّرين يستندان إلى الدليل ذاته في اللحظة ذاتها؛ فالذقن بذاتها ليست دليلا إلّا ضمن سياق!

أمّا المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد فيميّز بين مجالين للحقيقة:

  • - مجال سياسي  برغماتية: الحقيقة حقيقة لأنّها نافعة.
  • - مجال فكري: الحقيقة نافعة لأنّها الحقيقة وهي ثابتة.

في الشرق عموماً وسوريا على وجه الخصوص، ظل الوعي المدني والحداثي محط جذب بين تشكيك الاستشراق وبين سلطات أقامت شرعيّتها على التشكيك باستحقاق النّاس الطبيعي لحريّتهم المدنيّة ولعلّ شعار بشّار الأسد في "التطوير والتّحديث" يوم توليه السلطة وريثاً لأبيه، عام 2000، كان ينطوي ضمناً على مثل ذلك؛ إذ الحداثة ممارسة شعب لحقوقه المدنيّة لا برامج توعوية تمارسها السلطة!

في غفلة ما عن أعين النّظام تعرّض الجيل السوري الشّاب لـ"رياح العولمة" فلم يتمكّن ذلك الجيل من الصبر على الذل كسابقه؛ فخرج الشباب بثورة آذار 2011، معلناً "إسقاط النّظام" ومطالباً بـ"الحريّة والكرامة" وأعلن النظام الحرب على الشّعب السوري؛ وهدّد مؤيّدو النظام بـ"الأسد أو نحرق البلد"، فردّ متظاهرون الحريّة بـ"عاشت سوريا ويسقط بشّار الأسد"!

"تنبّأ" بشّار الأسد بالإرهاب وقدّمت وسائل إعلامه "الدليل تلو الدّليل" على وجود الإرهاب، عبر إجبار معتقلين لدى أجهزة النّظام الأمنيّة على الاعتراف أمام شاشة التلفزيون الرّسمي بأنّهم "إرهابيّون تعاطوا كبتاغون مع سندويشة فلافل وتقاضوا مبلغ 500 ليرة سوريّة؛ ليخرجوا بمظاهرة ويهتفوا للحريّة"!

بعد أشهر من بدء الثورة أعلن النّظام عن "عفو" أخرج بموجبه ثلّة من المساجين سيقودون – بعد أشهر قليلة أيضاَ - حراكاً مسلّحاً باسم الثّورة وسيضعون "الديمقراطيّة تحت أقدامهم"، ثمّ أعلن حلفاء النظام دعمه ضد (الثّورة- الإرهاب) وأعلنت دول أخرى دعمها لـ"الثّورة"!

ثورة الحريّة خطاب مغاير له سياقه ودلالاته؛ لكن أصبح من "يضع الدّيمقراطيّة تحت قدمه" ثورة" وفي حين لم يتمكّن "ثوّار الحريّة" من بناء مؤسّساتهم فقد أسهم الدعم الدولي لمعارضة خارجيّة وسلاح إلى الدّاخل في ترسيخ  ائتلاف بين المعارضة و"قادة الجيوش" ضمن مؤسّسات قيل إنّها ممثلة لقوى "الثّورة والمعارضة"؛ وكيف لا يكون أولئك ثوّاراً وقد خرج كثير منهم من سجون النّظام!

في الوقت الذي جرى تغييب ناشطي الثّورة السّلميّة باكراً كـ"رزان زيتونة ورفاقها مثلاً"، ظلّت الذقون الطويلة ولغة التكفير والشّعارات التي تتخطّى حدود الوطن والكثير من الأدلّة التي تثبت للخارج أنّ السوريين إرهابيّون، وللسوريين أنّ الاستبداد خير وأنّ الحريّة شر.

لعلّ السوريين سيظلّون إلى وقت طويل يشكّكون بحقيقة الإرهاب الذي لم يظهر طوال عقود طويلة من استبداد الأسد فيما ظهر بعد أشهر قليلة من ثورة الحريّة؛ فقتل الثّوار لأنّهم مرتدّون يتوجّب قتالهم قبل قتال النّظام "الكافر"..

لعلّ السوريين سيظلّون إلى وقت طويل يشكّكون بحقيقة الإرهاب الذي لم يظهر طوال عقود طويلة من استبداد الأسد فيما ظهر بعد أشهر قليلة من ثورة الحريّة؛ فقتل الثّوار لأنّهم مرتدّون يتوجّب قتالهم قبل قتال النّظام "الكافر"!

ظل "الأسد" يقصف المدنيين السّوريين بوصفهم حاضنة "الثّورة-الإرهاب" ويكسبون المتشدّدون أنصاراً بالفعل من بين السوريين المكلومين الموتورين والسّاعين -لا للحريّة- بل للانتقام، حتى اختلطت السّياقات على السّوريين وأمست "ثورة الحريّة" تبدو لمن لا يعرفها كجماعات من أصحاب "الذقون" المتطرّفة فتنفّس النّظام المجرم الصعداء بعد نجاحه أخيراً من دمج حربه على ثورة الحريّة بحرب العالم على الإرهاب!

لكثرة ما تعرضت ثورة الحريّة للخلط بينها وبين سياقات أخرى، ربّما سيظلّ كلام من نجا من ثوّارها عن "الحقيقة" طابعا يميّزهم لأجيال قادمة خاصّة تلك الحقائق المقترنة بأدلّة كثيرة؛ أو بتنبّؤات!

على مشارف العام 2023 وكارثة الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا وجنوبي تركيا أبدى كثير من السّوريين حذرهم تجاه "التنبّؤات" عن الزلزال؛ وفي حين أنّ الطبيعة المادّية يمكن دراسة قوانينها وتوقّع مستقبلها بالفعل، فإنّ الإنسان –ذلك الكائن الحر بطبيعته- هو ما لا يمكن لجهة بشريّة التنبّؤ بأفعاله في المستقبل إلّا إن كانت تلك التنبّؤات مخطّطا سيدفع الإنسان دفعاً إلى فعل ما هو مخطط له!

على مشارف الزلزال والذكرى الثانية عشرة لإرادة الحريّة، يشهد الحراك السياسي الإقليمي نشاطاً متزايداً قد يدفع إلى السّوريين بحقائق جديدة من مثل: تحوّل النظام المجرم إلى نظامٍ وطنيٍّ يحمي وحدة بلاده؛ بما أنّ العلاقات المصريّة التركيّة تشهد تقاربا وأنّ تلك الحقيقة السّياسيّة الجديدة ستريح تركيا من "مشكلة اللاجئين"  وأنّ النظام سيضمن حماية الحدود الجنوبيّة لتركيا.

وقد تتغيّر حقيقة النظام المجرم على محور آخر ليصبح: النّظام العربي الذي دافع عن سيادة الجمهوريّة العربيّة السّوريّة وعن كرامة العرب كما قال أحد أعضاء وفد البرلمانيين العرب في أثناء زيارته إلى دمشق، فلا بد إذن من إعادة النّظام ليشغل مقعد سوريا في الجامعة العربيّة ويحضر القمّة القادمة في الرياض؛ بما أنّ العلاقات بين السّعوديّة وبين إيران تشهد تقاربا!

بل ربّما تغيّرت حقيقة النّظام المجرم لدى أمريكا ذاتها إنْ "غيّر من سلوكه" فابتعد عن محور إيران ليتحوّل من نظام مجرم قصف شعبه بأسلحة محرّمة دوليّا إلى شريك في الحرب على الإرهاب!

أمّا سوريّاً فإن حقيقة النّظام المجرم الذي استدعى الإرهاب وغذّاه لسحق إرادة السّوريين وتشويه ثورتهم، وقصف المدن والبلدات والقرى السّوريّة، وقتل وشرّد ملايين السّوريين، ومزّق سوريا دولة وشعباً وجغرافيا حتّى أنتج مشكلات سياسيّة وأمنيّة للدول المجاورة وللعالم ثمّ طرح نفسه كضرورة لا بدّ منها للمشاركة في حلّ تلك المشكلات - إنّ حقيقة ذلك النّظام المجرم  ليست مجرّد حقيقة سياسية براغماتيّة بالنسبة إلى السّوريين!

حرب النّظام على السّوريّين إنّما كانت حرباً على "الإرهاب" لا على الحريّة والديمقراطيّة؛ لأنّا كسوريين أصحاب قضيّة الحريّة متأكّدون من أنّ النظام هو من صنع الإرهاب وأنّ حرب النظام الحقيقيّة لم تكن إلّا على الحريّة والديمقراطيّة

للأسف لا يمكننا الاتفاق مع "الشّيخ عمر رحمون حتى عام 2015" و"الأستاذ عمر بعد مصالحة الأسد" من أنّ حرب النّظام على السّوريّين إنّما كانت حرباً على "الإرهاب" لا على الحريّة والديمقراطيّة؛ لأنّا كسوريين أصحاب قضيّة الحريّة متأكّدون من أنّ النظام هو من صنع الإرهاب وأنّ حرب النظام الحقيقيّة لم تكن إلّا على الحريّة والديمقراطيّة!

في المقابل وعلى مشارف الذكرى الثانية عشرة لثورة الحريّة لابد لنا -نحن السوريين- من إعادة قراءة جادّة للسياقات التي جرى إقحامها في ثورة الحريّة؛ ونسبة كل توجّه سوري إلى الحريّة إلى الثورة باعتبارها خطاباً متكاملا، وبالمقابل نسبة كلّ استبداد وقتل وإرهاب إلى النظام الذي لابدّ من إسقاطه لأنّه هو الذي حال بيننا وبين أن نكون أحرارا كأي شعب حُر آخر!