في ذكرى الثورة "نورٌ من كييف"

2022.03.10 | 05:21 دمشق

2aadd4unlfkrphy7vjtpagvhnq.jpg
+A
حجم الخط
-A

"كأن الأمم المتحدة باتت عرّاب تهجير". الكلام ليس دقيقاً هنا، فالجميعُ يعرف أنّ المؤسسة الدولية تغدو عاجزة حين يقرر العسكر الخراب. لكنّ سرعة مسؤولي المنظمة الدولية في طلب ممرات آمنة، ثم مساعدات إنسانية بعد الرصاصة الأولى يجعلنا نشعرُ أحياناً أنها شريكة في الأمر. شعوبٌ تقتلعُ من جذورها وتُرمى فتصبح بين ليلةٍ وضحاها كتلاً بشرية دخيلة على مجتمعات جديدة، وشيئا فشيئا ينسى الجميع أن هذي الكتل ضحايا، لينتقل ذات الجميع لبحث ملفات الاندماج وكلفة إقامة هؤلاء الدخلاء الأغراب. صور الأوكرانيين في الطريق إلى بولندا آلمَت كل من لديه ضمير، وأكثرُ ما يكونُ التأثّرُ في منطقتنا، عند أصحاب التجربة ذاتها من فلسطينيين وعراقيين، وبالدرجة الأولى يأتي السوريون بحكم أن جرحهم ما زال نازفاً. بالمقابل يبدو أن شيئاً آخر صدّرته أوكرانيا غير الألم. بضاعةٌ أكثر أهميةً من قمحها وحديدها. كييف أرسلتْ الأمل. ليست هذه لعبة تبادل حروف بين ألم وأمل، بل دمٌ جديدٌ حار، ضخّهُ الأوكرانيون حين صمدوا وقرروا الدفاع عن وطنهم بغض النظر عن النهاية الحتمية التي قد تفرضها القوة المفرطة لدى الغزاة الروس.

تزامن بدء الغزو الروسي لأوكرانيا مع اقتراب تاريخ الخامس عشر من آذار، التاريخ الذي يعني لكل السوريين يوماً استثنائياً. بعضهم ليجدد العهود، وبعض آخر ليجدد الطعن، وشطر ثالثٌ صار اسمه عُرفاً "جماعة الله يطفيها بنوره". في كل عام لم تكن تعدم الساحاتُ المتاحةُ داخل سوريا، خروج مظاهرات تؤكد استمرار انتفاضة الشعب ضد الظلم. وليس سراً أن أعداد المتفاعلين مع الذكرى كانت تقلُّ سنوياً لأسباب كثيرة، أهمها ضعف ذاك النور الذي يتحدث عنه المتفائلون في آخر النفق. هذا العام، حين بدأت تتوافدُ أخبار المعارك وحكايات صمود أوكرانيا، فإن شيئاً ما أعاد كثيراً من السوريين لاصطفافاتهم ومعركتهم بزخم مختلف. من خلال التواصل مع ناشطين في الداخل السوري ودول اللجوء تتوالى أخبار تثير بعض الاستغراب لكنها تطرحُ أسئلةً أكثر.

تزامن بدء الغزو الروسي لأوكرانيا مع اقتراب تاريخ الخامس عشر من آذار، التاريخ الذي يعني لكل السوريين يوماً استثنائياً. بعضهم ليجدد العهود، وبعض آخر ليجدد الطعن، وشطر ثالثٌ صار اسمه عُرفاً "جماعة الله يطفيها بنوره"

الحشدُ لذكرى الثورة سيكون مميزاً هذا العام، يؤكد كثيرون. الشارعُ عاد ليتحدث عن تحضيرات كبيرة وأعداد أكبر، وتنظيم يُذكِّر بالسنوات الأولى بل وبالشهور الأولى. فبعد أن كانت التجمعات تتم بأعداد متواضعة موزعة في أنحاء محافظة إدلب، فإن مظاهرةّ مركزية يخطَط لها في الخامس عشر من آذار. أبنية عالية سيغطي كل منها علماً للثورة بالقرب من ساحة السبع بحرات في المدينة، يخبرني أحد الأصدقاء. تجار القماش يشتكون نفاد القماش الأخضر والأبيض والأسود، نتيجة الطلب من قبل المشاغل التي تقوم بخياطة الأعلام. تاجر قماش في سوق مدينة سرمدا يجيب زبائنه: "لا أبيض ولا أسود، أقسمُ أنهم أخذوا قماش الأكفان". بينما ينشر السوريون أخبار سقوط الطائرات الروسية، وهي الطائرات ذاتها التي هدمت أحياءهم وقراهم، فإنهم يستمرون على مجموعات التواصل في التنسيق للاحتفاء بالذكرى. أكد ناشطون، أن مشاركة النساء ستكون حاشدة في إدلب هذا العام! حين تعود النساء لتشارك بزخم مع جموع المتظاهرين، في مدينة يحكمها التشدد الديني، فهذا يعني أن الموج هذه المرة أعلى. "هيئة تحرير الشام" لم تبدِ اعتراضاً كما هو متوقع، بل أرسلت عبر وسطائها استعدادها لدعم الناشطين والمنظمين "حاوِلوا جلبَ وكالات إعلام غربية، وسيكونون آمنين بحمايتنا" هكذا طلب أحد أمراء الهيئة من بعض الناشطين.

القماش الأصفر والأزرق أيضاً مطلوب؟ نعم، هي أوكرانيا. الرئيس الذي طلب ذخيرةً بدلاً من طائرة لجوء صار حديث الشارع في شمال غربي سوريا. رأوا فيه نموذجاً يشبه قادة كانوا بينهم سابقاً، قبل أن تغيبهم آلة قتل النظام وحليفه الروسي، ويتسيّد الفاسدون المشهد. في مدينة الباب السورية شمالي حلب، لا يختلف المشهدُ عن إدلب إطلاقاً. عادت أغاني الثورة تُسمع من السيارات في الطرقات. "عبثاً تحاول لا فناء لثائرِ" بصوت شاب عراقي غناها يوماً حين ثار العراقيون على الظلم والفساد تنطلق من سيارة. العلم لأوكرانيا والمغني عراقي والسيارة في شوارع اعزاز شمالي حلب. هنا لا عيون زرقاء ولا قوميات ولا أديان. يبدو الأمر وكأنه اعتراف فطري بالإنسانية الرافضة للظلم والقهر لأي إنسان.

هنا لا عيون زرقاء ولا قوميات ولا أديان. يبدو الأمر وكأنه اعتراف فطري بالإنسانية الرافضة للظلم والقهر لأي إنسان.

موجة غلاء الأسعار تضرب شمال سوريا بشدة، بعض هذا الغلاء كان نتيجة معارك أوكرانيا، وبعضه الآخر استثمار تجار الحروب كعادتهم عبر القرون. التجار هذه المرة معظمهم ممن تقلدوا مناصب عسكرية وسياسية على أكتاف الثورة والثوار. أي منصف لن يلوم السوريين لو أنهم كفروا بثورتهم، فتحتَ عباءتها تسلط عليهم هؤلاء الفاسدون. لكن الأخبار الواردة من هناك تؤكد هزيمة المنطق أمام نبل الحلم السوري الأول. في الخارج، يخطط السوريون لمظاهرة في العشرين من آذار في باريس، ويعتقدون أيضاً أنها ستكون مختلفة عن الأعوام السابقة. والتنسيق يجري لمظاهرة في برلين أيضاً ستكون مركزية لعموم السوريين في المدن الألمانية. وهناك حديث عن مظاهرات في لوكسمبورغ وڤيينا. من خلال هذه المتابعة لمجموعات الناشطين في الداخل والخارج، يستشعرُ المرء دون عناء أن هناك روحاً جديدة تتشكل بعد وهن ويأس السنوات السابقة.

على الجانب الآخر من سوريا، والتصنيف هنا ليس جغرافياً إنما هو سياسي، يعلنُ المؤيدون لنظام الأسد عن أفراحهم المتتالية بعد كل متر يقطعه الجيش الروسي داخل أوكرانيا. يطالبون مرة أخرى بأن "تُزرع أوديسا وخاركيف بطاطا"، هي العبارة ذاتها التي رددوها يوماً لجيش الأسد مطالبين إياه أن يسوي أحياء حمص وحلب والدير ودرعا بالأرض. هُجّر الفلاحون فيبست الأراضي، ليصرخ المؤيدون جوعاً متهمين أميركا والصهاينة وحلف المتآمرين على الدولة السورية. أراضٍ لم تُزرع بطاطا، بل تطاول الشوك فوق آلاف الهكتارات بها، وكلّ ذلك لم يغير في مواقفهم. بل حتى أولئك الذين هجروا الاصطفافات خلال السنوات الأخيرة، عادوا اليوم لسيرة الانتصار الإلهي، وللتغني بأن الباصات الخضر ذاتها التي أقلّت مئات آلاف الأسر السورية الإرهابية، ستتولى حمل ملايين الأسر الأوكرانية النازية، حسب وصف حليفهم بوتين. ولا عجب، أن مشايخ الأموي يطالبون بنقلهم إلى موسكو ليشاركوا في الجهاد، وربما لمساعدة بطرك موسكو في مباركة طائرات الجيش الروسي الفاتح. فهم كسيّدهم الأسد يرون أن جيش بوتين يعيد تصحيح الاختلال في العالم.

هل ننتقل من عصر الانتماء الوطني إلى عصر آخر، لا شكل واضحا له حتى الآن؟ تايوان تتمنى النصر لأوكرانيا أكثر من بعض سكان "دونباس" الحاملين للجنسية الأوكرانية. بعض الشيوعيين العرب يصفقون لرؤية مجاهدي قاديروف مؤتمين به في ركعتين على نية النصر، وكثيرٌ من السوريين ينظرون اليوم باتجاه أوكرانيا ليسمعوا خبراً جديداً عن أسر طيار روسي قتل أطفالهم ذات يوم. السوريون الذين لم يقتنعوا يوماً أن أي شمس سوف تشرق من موسكو، يستشعرون اليوم، وكأن نوراً في آخر النفق، يأتي من كييف. هل أبدو متفائلاً؟ للأسف ما زلت كما أنا. ومن المؤسف القول ختاماً، أن كل تلك التحركات المحمولة على الحماس، والأمل الذي يتراءى اليوم لدى الناشطين السوريين، لن توصل إلى أي هدف على الأرجح. السوريون كانوا دائماً، وما زالوا، بحاجة إلى حامل تنظيمي سياسي يواكب تلك التحركات ويوظفها، من خلال خطاب يستطيع أن يصل إلى المجتمع الدولي، يتقاطع معه ولا يكون بالتضاد منه، كما فعل خطاب المعارضة والقوى الإسلامية على نحو خاص، خلال العقد المنصرم. طبعاً أعلم مثلكم، أن هذا الحامل لن يستطيع فعل شيء دون إرادة دولية. لكن بدلاً من انتظار حدوث تلك المعجزة الدولية، التي على الأغلب لن تحدث راهناً، فعلى هؤلاء الشباب أن يقرروا بأنهم هم الأجدر بتشكيل هذا الحامل، ليقابل الإرادة الدولية حين تتغير. بهؤلاء الشباب بدأت الثورة، وإليهم يجب أن تعود.