في خراب الجماعات والمجتمعات

2019.09.12 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يحتاج الإنسان في حياته اليومية لآخرين يتشاطر معهم شؤونه ومعاملاته، ولا تحدّد كفاية الإنسان في حياته ومهنته، أياً كانت، ماهية الآخرين الذين يحتكّ معهم يومياً، لكنها من الممكن أن تكون مؤشراً بالغ الأهمية على جودة المجتمع برمته، لا سيما إذا كان كل فرد في المجتمع لا يعدّ نفسه حلقة من سلسلة مترابطة.

الحالة الطبيعية للمجتمعات والتي تدلّ على توازنها؛ أن يبذل كل فرد ما بوسعه ليثبت جدارته في الحياة والعمل وأن يكون إنساناً ليس فقط إرضاء لإنسانيته، بل كونه هو بحاجة أيضاً إلى آخرين يؤدون له أعمالاً مقابلة، فالطبيب في المجتمعات السليمة يسعى إلى أداء عمله على أحسن وجه ليس فقد إرضاءً لضميره وأخلاقيات المهنة، بل إنما لأنه يدرك أنها الطريقة الفُضلى ليُقابل بالمثل خلال تعاملاته اليومية مع مهندسين وخياطين ومدرسين لأبنائه وحتى بائعي خضار.

وإن كان هذا النهج في جوهره ماديا بحت بوصفه يقدّم المصالح على الضمير الذاتي والقيم، إلا أنه يُنتج في نهاية المطاف شبكة متكاملة من الصلاح تعود بالمنفعة على كل أفراد المجتمع. وفقاً لهذه الآلية تقدّمت المجتمعات الغربية ووصلت إلى ما وصلت له من رقي وكمال أخلاقي ومهني، وهي فلسفة إعلاء الفردي وتحويل المعنوي إلى مادي ملموس ينتج عنه تشكيل وعي جمعي خيّر.

اعتمدت الشعوب العربية في تنظيم الاجتماع على الضمير والوازع الأخلاقي المتأتي من الإيديولوجيا الدينية، وهي ما تزال تشكّل مرجعية رئيسة لتلك المجتمعات

اعتمدت الشعوب العربية في تنظيم الاجتماع على الضمير والوازع الأخلاقي المتأتي من الإيديولوجيا الدينية، وهي ما تزال تشكّل مرجعية رئيسة لتلك المجتمعات على الرغم من فشلها في كثير من المواضع، ولم تسمح الأنظمة القمعية للشعوب بالتحوّل إلى طرق أكثر عملية للنهوض. بالأحرى هي قمعت أي محاولة لإعادة فهم التقدم المجتمعي والتكافل بما يضمن المناصفة والعدالة على مستوى معاملات الحياة اليومية البسيطة.

في أعقاب ثورات الربيع العربي، تراجعت أفكار أخلاقية مصدرها الدين أو القيم الفردية/ العامة، وحلّ محلها حالة من التشويش وانعدام الدافع للنهوض بالمجتمع المفكّك، ولم يعد بالإمكان توحيد رؤاها، فما الذي يدفع الطبيب السوري في الوقت الراهن للقيام بعمله على أكمل وجه في حين أنه لا يُقابل بالمثل في كل شتى مناحي حياته ويعيش داخل سلسلة متماسكة يقسمها التشرذم وانعدام الوعي والأخلاق؟ الأمر مشابه بالنسبة للمعلمين والمهندسين وكثيرين ممّن يستطيعون محاكمة جدوى الإخلاص والتفاني في العمل، لكن احتمالات فشلهم ليست بضئيلة في ظل قوة التيار المعاكس، كثافته، وقدرته الضاغطة.

الموضوع لا يقتصر على تحلّل منظومة القيم وحسب، بل تجاوزها ليشمَل تغيّر في البنى التي تحكم المجتمع وتحدد الاستحقاقات بناء على معايير أصيلة ومنصفة، على سبيل المثال: معظم حاملي الشهادات العليا من السوريين في بلاد اللجوء غير مُعترف بهم، ويُضطّر بعضهم إلى العمل باختصاصهم بالخفاء، فيما يعمل قسم آخر بأشغال مهنية أبعد ما يكون عن تخصّصهم وما يترتب عليه من تراجع في المنزلة والمسؤولية الاجتماعية. وبالعودة إلى الأطباء كمثال فاقع يُقاس عليه باقي الحقول، كون فرع الطب في سوريا كان الأكثر تفرّدا، فإن الأطباء في بلدان اللجوء لا يُسمح لهم العمل بشكل قانوني ما يدفعهم للعمل بشكل غير مرخص وبالتالي تعرضهم للمساءلة أولاً، واضطرارهم تخفيض أجرهم لاستقطاب شرائح غير قادرة على الاستطباب في عيادات نظامية ثانياً.

وكذا الأمر بالنسبة لباقي المهن والمجالات كالصيادلة والحقوقيين وكثير من السوريين الذين يعيشون في بقاع جغرافية مختلفة إلا أنهم فقدوا مكانتهم، صلاحياتهم وأدواتهم، كنماذج سبّاقة في إشاعة الصحة الاجتماعية، إذ تغيرت التصنيفات تبعاً لمنظومات تراعي شروطاً جديدة منها لغة البلد المضيف واهتماماته، أو القدرة على التماهي مع أنماط مغايرة، فلم يعد بالإمكان توقع الأفضل من أي فئة سواء في أعلى الهرم أو أسفله، وهو أمر يتعلق أيضاً بانعدام الدافع والقدرة على التغيير في مناخ يسوده (الفساد الاجتماعي) إن صح التعبير، وبالتالي فإن صحوة أي ضمائر فردية لن تكون ذات أثر كبير أو مديد على المشهد.

لعل تصوير الواقع بهذه السوداوية أمر مجحف وغير منصف لمجموعات لا شكّ أنها تحاول تقديم ما بوسعها لتقويم الاجتماع البشري وتحسينه، وخاصة داخل البيئات التي تعيش حروباً متتابعة وأزمات مرتبطة باللجوء وكوارثه. لكن المجتمع كتلة موحدة لا يمكن أن يكون أقساماً متباينة السمات، والمحال الموجودة في ذات الشارع/ السوق لا شكّ أنها تقدم منتجات وخدمات متشابهة الجودة. المجتمعات العربية برمتها تعيش حالة تقهقر على مستوى التفكير الجامع، طبعاً هذه الأزمة لا تطال الشعوب العربية فقط فهي ممتدة إلى باقي دول العالم المتحضّرة لأسباب مرتبطة بتبدل ملامح النظم الاجتماعية المهيمنة، لكن فيما لو نظرنا إلى المنطقة نجد أننا بأمس الحاجة لإيجاد بدائل أخلاقية تحمل المجتمع بعيداً عن محاولات إحياء خطابات دينية أو التنظير.  

كلمات مفتاحية