في النقاش حول ديمومة الثورة وذكراها

2023.03.20 | 05:30 دمشق

ذكرى الثورة السورية
+A
حجم الخط
-A

في مشهد لافت، وربما يكون جزءاً من ديناميكية روحها بوصفها فعل تغيير، طرحت مقالاتٌ مكرسة لذكرى الثورة السورية، أفكاراً حول واقعها الحالي، وآفاقها، وقد كان المشترك الغالب بينها، أن أصحابها لم يخفوا الأسئلة القاسية، عما بقي من النبض في عروقها.

نزعُ القداسة عن المكرس، قدرةٌ لا يمتلكها الجميع، لكنه توجّه حاضر لدى الأجيال الشابة، فإذا كان لابد من فعل ذلك من أجل النقاش حول المآلات التي انتهت إليها حالة الثورة، فإن جيل الشباب السوري يجد نفسه أمام مهمة مزدوجة، فهو مضطر للقيام بهذا، في الوقت ذاته الذي يحاول فيه أفراده صنع حيوات، أفضل مما شهدوه خلال العقد الماضي، وخاصة منهم أولئك الذين باغتت الثورة طفولتهم، فاضطروا إلى المضي مع أهاليهم في المسارات التي قادتهم إليها!

لو سألت أحداً من هؤلاء عن الثورة، لن يحدثك عن الشوارع الممتلئة بالحشود، بل سينتقل إلى المآسي، وأولها بقاء النظام يحكم البلاد بعد جرائم الإبادة التي ارتكبها، وثانيها حالة الشتات العامة.

ضمن هذا الإطار لن تعثر على صورة جميلة للثورة، وربما ستمضي قليلاً -إن تجرأت- صوب السؤال: هل ما زالت الثورة السورية على قيد الحياة؟

لن يستطيع أحد، حتى وإن استخدم أدوات تحليلية علمية، إثبات أن الثورة السورية التي انطلقت في شهر آذار عام 2011، ما زالت مستمرة، وأن عروقها تنبض!

لن يستطيع أحد، حتى وإن استخدم أدوات تحليلية علمية، إثبات أن الثورة السورية التي انطلقت في شهر آذار عام 2011، ما زالت مستمرة، وأن عروقها تنبض!

ليس كافياً أن نشير إلى وجود مناطق خارجة عن سيطرة النظام، ووجود ملايين اللاجئين الذي يجهرون بمعارضتهم له، وكذلك وجود كم هائل من الصفحات والقنوات الحرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً عشرات الوسائل الإعلامية المعارضة، من أجل إطلاق حكم يقيني بأن هتافات الشهور الأولى لتلك السنة البهية، ما تزال تعتمل في الصدور، وتعيش حقاً في العقول.

الوقفات الدورية التي يصنعها الثائرون في المناطق "المحررة" كالمظاهرات والاحتفالات، تحاول الإبقاء على طقوس التظاهر الجميلة، وفي الوقت نفسه نرى كيف أنها تهدف إلى مناكفة الفصائل المسلحة المسيطرة، والاحتجاج على ممارساتها، طالما أن التجارب كشفت مقدار تشابه جوهر سلطتها مع كينونة النظام القمعية!

أما تلك التي تقام في المدن الأوروبية والأميركية، فقلّت الأعداد المشاركة فيها، ولا غرابة في الأمر بعد مرور كل هذا الوقت، وبعد أن تحول قسم كبير من جمهور المنتفضين ضد الأسد بحكم ظروفهم المكانية، إلى التركيز على شكل آخر من أشكال النضال ضده، كما يصرحون، هو صناعة الحياة البديلة عن تلك التي تُركت في سوريا.

سيحتاج معارضو هذه الفكرة جهداً كبيراً لإثبات عكسها، دون استخدام الإنشاء اللغوي والشعاراتي، وطبعاً بعيداً عن مصادرة الرأي الآخر، واتهامه بوهن نفسية الأمة وإضعاف شعورها الثوري.

موت الثورة إذا كان حقيقياً فهو صادم، وإذا اعتبرناه مجرد فكرة، فإنها تستحق النقاش وفتح ملفاتها الرمزية، وتحليل خطاباتها، غير أنها للوهلة الأولى تبدو معادية للثائرين أنفسهم، أو لنقل لبعض الناجين منهم

موت الثورة إذا كان حقيقياً فهو صادم، وإذا اعتبرناه مجرد فكرة، فإنها تستحق النقاش وفتح ملفاتها الرمزية، وتحليل خطاباتها، غير أنها للوهلة الأولى تبدو معادية للثائرين أنفسهم، أو لنقل لبعض الناجين منهم، بعد أن انتهى الحال بالأغلبية، إما على قيد الحياة في الداخل مغلوبين على أمرهم وصامتين، أو سجناء ومفقودين مجهولي المصير، وإما تحت التراب، أو مهجرين ونازحين ولاجئين.

كثيرون ممن رهنوا حيواتهم للثورة السورية ضد نظام الأسد، انتابتهم خلال سنواتها التي تجاوزت الـ12 سنة أحاسيس التعب والقلق وأصابهم الشك وعدم اليقين، من مصيرها، فقاموا بمراجعة مسارها، وعادوا لقراءة الوقائع التي عاشوها، بغية معرفة الحقائق، والتأكد من أنهم لم يخدعوا أنفسهم حين انتموا لها، ولم يُخدعوا من قبل الآخرين الذين تولوا أمورها أو دعمها.

لهذا يجد المرء أن الصوت العالي لدى الثائرين، يحوم دائماً حول النقاء أو الطهرانية، كأساس للمسار الذي توجب على السوريين الخوض فيها للتخلص من سرطان الأسدية. ورغم ما يشوب هذا النبض العالي لدى البسطاء من رمي الاتهامات بكل الاتجاهات، يبقى أن العودة إلى تلمسه والإحاطة بتفاصيله، هي جزء من البوصلة العامة التي يجب ألا تنسى، وبالتأكيد لا يمكن لهؤلاء تقبل الأفكار الجدلية التي تدور حول الثورة.

الناجون يرون بأن الإقرار بانتهاء الثورة هو تصرف يستهدف وجودهم، لأنهم كما الآخرين، وربما أكثر من غيرهم يدفعون ثمن نتائج الحراك، فقد خسروا كل شيء ولم يبق لديهم سوى الإيمان بعدالة قضيتهم.

لكن إذا هدأ هؤلاء وانتظروا قليلاً، قبل أن يتحمسوا كثيراً في الرد على الفكرة، لأنها بذاتها لا تحمل أدوات مؤذية، فهي منطوق لفظي بخطاب مركز يخاطب العقل، أو بالأحرى طبقات مستقرة من اليقين، بأن الثورة مستمرة، وبأنها تنبض بالحياة! وبالتالي فإن النقاش إن تولد بعد هذا الطرح، يجب ألا يكون قطعياً، مبنياً على مسلمات غير قابلة للمراجعة.

يمكن للثورات أن تتكرر كسلسلة من الانتفاضات، لكنها لا يمكن أن تعيش على شكل واحد من خلال أدواتها الإجرائية ذاتها لزمن طويل، وإذا تعامل الجمعُ الثائر مع ثورته التي لم تنتصر، بقداسة، ونفخ في عمرها، فإنه سينتهي إلى منحها سلطة معنوية أولاً، ومادية ثانياً، بعد أن يبني لها مؤسسات طارئة، وربما في سياق تحولاتها، سيتمكن بعض من حمل السلاح من تشكيل سلطات قسرية أيضاً تحاسب الآخرين المختلفين، وتمنحهم صكوك البراءة، وكذلك عرائض الاتهام والإدانة.

كل الثورات التي طال زمنها انتهت إلى الهزيمة، ليس لأنها لم تنتصر، بل لأنها مع تقادمها أنتجت لوجودها شكلاً يشبه الأنظمة التي ثارت ضدها تماماً، وقائمة الأمثلة تطول.

لن يرى المعترضون على هذا الكلام أن الثورة التي يحملونها في رؤوسهم قد واجهت هذا المصير، وهم محقون في ذلك، لأن شعارات وأهداف انتفاضة سنة 2011، وخاصة تلك التي تستهدف إسقاط النظام، مازالت طازجة، وتستحق أن تبقى ماثلة وشاخصة أمام عيون الجميع، لكن السير على الأرض ربما يعطي قدرة أعلى على تلمس الواقع، والنظر في إمكانيات مختلفة، عن تلك التي مضى السوريون فيها طوال 12 سنة، لا سيما وأن كل المؤسسات السياسية التمثيلية الراهنة، تبدو بلا فائدة للثورة ذاتها، مع الانتباه إلى أن الفعاليات الأهم في حياة السوريين الثائرين في كل الأمكنة التي يعيشون فيها، تأتي منهم أنفسهم، ومن منظمات المجتمع المدني، بما فيها الروابط والاتحادات المهنية، وقبلها المنظمات الحقوقية التي تلاحق مجرمي الأسد، ومن يشبهونهم في ضفة الفصائل المعارضة.

وكما أن استخدام الأقدام في قطع المسافات يشعرنا كم هو متعب الانتقال من مكان إلى آخر، يمكن للتخفف من الأحمال أن يمنحَ من يحمل القدرةَ على المضي إلى حيث يريد بسرعة أكبر، وعليه، فإن إبقاء الثوابت بوصفها مرجعيات غير قابلة للنسيان إلا عبر تحققها، يجعل السوريين راسخين في المسار الذي يمضون صوبه، أي إسقاط الحكم الديكتاتوري الذي دمر البلاد وباعها لحلفائه، وهجر شعبها، لكن شكل النضال ضد هذا النظام، يجب أن ينتقل ليأخذ أشكالاً أخرى.

ثورة تموت، فيخلق من إرثها ثورات، أفضل من أن يتم النفخ فيها، فتعيش بالإجبار!

وكما بدأنا التفكير هنا بالحديث عن الشباب، الذي يبحث في آفاق مختلفة عما تفكر فيه الأجيال الأخرى، يمكن أن نطرح فرضية أن هؤلاء كأفراد، وربما مستقبلاً كجماعات، باتوا وبحكم المثاقفة مع البيئات الجديدة التي يعيشون فيها، يمتلكون أدواتٍ عصرية، يستطيعون من خلالها تلمس طرق مختلفة، في التعبير عن القضية الوطنية، وعن أنفسهم، وبهذا المعنى يمكن القول بأنهم يصنعون ثوراتهم الخاصة، تلك التي تحصنهم، في مواجهة الواقع أولاً، وتَخَلف الأدوات والوسائل ثانياً.

ثورة تموت، فيخلق من إرثها ثورات، أفضل من أن يتم النفخ فيها، فتعيش بالإجبار!