في المسألة الوطنية: التمثيل السياسي

2022.04.16 | 15:11 دمشق

0016.jpg
+A
حجم الخط
-A

مضى أكثر من عقد على أوّل صرخة مواطن سوري للحريّة ولا نزال - نحن السوريين- حتى حينه هائمين على وجوهنا لدى كل أزمة تصيبنا. نتجاوز المسمّيات التي تتحدّث باسمنا في المحافل الدوليّة، لنناشد منظمات وحكومات العالم كلّه لتنقذنا!

ليس من السهل أن نعثر على هفوة إداريّة أو سقطة قانونيّة وقعت بها القوى المهيمنة على السوريين، على الرغم من سهولة العثور على مشكلاتنا كلّها دون حل.

من المحزن أن يتحوّل الحلم بمستقبل حر إلى مجرّد الحلم في الوقوف على عتبة صفريّة للبناء عليها. حتّى لو كانت تلك العتبة تُعتبر حدثاً غابرا من تاريخ الشعوب الجارة للسوريين في دولهم الحديثة المستقرّة.

نشأت الدولة الحديثة جرّاء الفصل بين السلطتين: الروحيّة والمدنيّة، فتحوّل الإنسان، منذ ذلك الفصل، من حالة القبيلة إلى طور بناء المجتمع، وحاز منذ إقرار الفصل بين السلطتين على ما يسمّى "حقوق المواطنة".

صار الإنسان مواطناً يُعرفُ بصفته سيّدا، مستقلّا، يتمتّع بحقوق أساسيّة كحق: الحياة والحريّة والتملك.. أمّا مصدر تلك الحقوق فـ "الطبيعة". إذ "خُلِق الناس بطبعهم أحرارا، متساوين. ولم يحرم أحد من هذا الحق أو يخضع لسلطان سياسي دون رضاه".

المواطن مصدر السلطة المدنيّة. لذلك وُلِد العمل السياسي من ضرورة توفر إدارة عامّة تُغني كل مواطن عن ممارسة سلطته وسيادته بنفسه في المصلحة العامّة

أبرمت تلك المجموعة من السّادة المواطنين، بالتّراضي، عقداً فيما بينهم على حماية الحقوق الطبيعيّة، فأوجدوا القواعد العامّة، ثم القوانين الناظمة لحماية مكتسبات المواطنة. إذ "حريّة الفرد في المجتمع تعني عدم خضوعه لغير السلطة القانونيّة القائمة" ذلك أنّ القانون ليس إلّا إرادة واضعيه مكتوبة.

المواطن مصدر السلطة المدنيّة. لذلك وُلِد العمل السياسي من ضرورة توفر إدارة عامّة تُغني كل مواطن عن ممارسة سلطته وسيادته بنفسه في المصلحة العامّة. فدعت الحاجة إلى أن يمنح المواطن تفويضاً لنائب عنه للعمل في الميدان السياسي ضمن هيئات وأحزاب ونقابات المجتمع.

ورد في مسألة التفويض، على وجه الخصوص، مقولتان اثنتان:

-إحداهما تقترح أن يمنح المواطن تفويضاً كاملا "بيعة". فيتنازل بذلك عن كل حقوقه المدنيّة بحجّة "المصلحة العامّة"!.

- واعترض آخرون، إذ لا يتخلّى الإنسان الحر عن حريّته كاملة، إلا في حالة الموت. واقترح المعترضون، عوضاً عن ذلك، تفويضاً جزئيّاً يضع بموجبه المواطن قدرا كافياً من السلطة في يد النائب لممارستها نيابة عن المواطنين. فيما يُبقي هذا التفويض الجزئي للمواطن، في حال عدم الرضى عن نائبه، أنْ يغيّره في جولة انتخابيّة لاحقة.

من النموذج الأخير وُلِد التيار الليبرالي الذي يضع مهمّة الدفاع عن المصلحة العامّة في يد المواطن الحر المسؤول.

ربّما يجدر هنا بنا أن نقف عند نقطة مهمّة، وهي أنّ الفصل بين السلطتين "الروحية والمدنيّة" لم يكن احتيالا ليحارب المواطن دينه، ولا كان ذريعة لمحاربة معتقد الآخر، وإلّا لتحوّل إلى اعتداء على حريّة بدلا من الدفاع عنها. وليس أدلّ على وعينا هذا من أنّ أصول الدولة الحديثة، الليبراليّة بالضرورة، تعود إلى رجال دين ومصلحين اجتماعيين. اللهمّ إلا في النموذج الفرنسي الذي له مشكلاته ولا ننوي الخوض بها هنا.

مسألة أخرى: إن الفصل بين السلطتين ليس لمحاربة الدين، بل للحد من استخدامه في إيديولوجيا فوق مدنيّة، ولعلنا يمكننا أن نقول: إنّ كل إيديولوجيا يمكنها أن تفعل تلك "الفوقيّة" أيضا، أعني الأيديولوجيتين القوميّة أو الشيوعيّة أيضا.

على أيّة حال فإن استخدام تلك السلطة "المقدّسة" في الضغط لنيل مكاسب دنيويّة، يعتبر استبدادا لأنه ينفي من حيث المبدأ مسألة المساواة بين طرفين، إلا أنّ "الفصل بين السلطتين" لم يكن كافياً بمفرده لمنع ولادة نماذج استبداد أخرى، بل إنّ نماذج الاستبداد العلماني تكاد تكون قد طغت على أمثلة الاستبداد القديمة. فعاد نموذج الملك أو السلطان في صورة "الرئيس الأب القائد"، وحلّت "القضيّة التاريخيّة المصيريّة!" عوضاً عن الدّين، في حين وُكِّلت المهمّة التي كان يقوم بها رجل الدين، في العصر الوسيط، إلى المثقّف الشمولي في العصر الحديث!

ولعلّ مسألة التفويض "الكلّي" أو "الجزئي" تكون علامة فارقة ودالّة على طبيعة العلاقة بين المواطن وبين السلطة، وما يُجسّد تلك السلطة من مؤسّسات وقوانين.

إنّ كلمة (فوق) يدرك أغلب السوريين معناها جيّدا، إذ غالبا ما كانت تشير إلى سلطة فوق "مواطنيّة" أصدرت قرارا لا سبيل إلى مناقشته.

إذن لا يمكن لعاقل منصف إلّا أن يقول: إن القوانين التي يخضع لها الشعب السوري في مناطق سيطرة النظام، لم تكن من قبلُ، كما هي ليست الآن، منبثقة من سلطة المواطن بل من "فوق". و"فوق" هذه تشير إلى مصدر أمني بطبيعة الحال. في حين قد يستخدم النظام المثقّفين أو رجال الدين، أو كليهما معا، في التسويق لتلك القوانين. أمّا مسألة التفويض فهي منعدمة حتّى لو تم تزويرها بنسبة 99% عبر "انتخابات" شكليّة.

في مناطق أخرى لا تخضع لسلطة النظام، مثل "إدلب"، فإنّ مسألة التفويض الأرضي غير مطروحة أساساً، بل لعلّنا لا نفشي سرّا إذا قلنا إنّ سلطة الأمر الواقع هناك تواظب على الربط بين "الديمقراطية" وبين الكفر لدى كلّ مناسبة.

أمّا شرق الفرات فإن إيديولوجيا السيد القائد تكفي وحدها كتفويضٍ عُلويّ لا يمكن لأعتى القوميين الكرد أنفسهم تجاوزها، فضلاً عن مواطن ليس كرديّا ويمكن اتهامه من قبل سلطة الأمر الواقع، بسهوله، بالانتماء إلى تنظيمات إرهابيّة عالميّة إذا لم يرضخ للأمر الواقع!.

"الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة" يعلن سلطته على ما تبقى من الجغرافيا السوريّة. إلّا أنّ عشر سنوات لم تكن كافية ليتجاوز الائتلاف لا الـ "فوق" التي تُمارس عليه من قبل الدول التي تدير سيادات مواطنيها بديمقراطيّة نحسدهم عليها، ولا الـ "فوق" التي يمارسها الائتلاف ذاته على المواطنين السوريين.

بالنظر إلى الهيكليّة العامة للائتلاف فإنها تبدو منضبطة بنسبة 99%، حيث تتشكّل هيئة رئاسيّة، وهيئة سياسيّة، وهيئة عامة. تتكوّن الهيئة العامّة من مكونات يفترض أن تمثّل الشعب السوري:

مستقلون لا يحتاجون بطبيعة الحال إلى تفويض!.

مكونات اثنيّة (تركماني، عشائر عربية، مجلس كردي، آثوري، سرياني: تنتمي بطبيعتها إلى ما قبل المدنيّة!.)

الكتلة العسكريّة: وهي لا تنتمي إلى المدنية مرتين: مرة لدى الفصل بين السلطتين، والثانية لدى التمييز بين العسكري والسياسي والمدني!

الإخوان المسلمون: تيار سياسي، يمثّل أعضاءه، وليس معروفا عدد أعضائه من السوريين.

حراك ثوري: تم الاستغناء عنه والاستعاضة بالمجالس المحلّية ربّما، والحقيقة يمكن البدء بعمليّة ديمقراطيّة من تلك المجالس.

على أيّة حال فإنّ للسلطة توجّهين: أحدهما منبثق من القاعدة إلى أعلى الهرم، والآخر من أعلى الهرم باتجاه ضرورة "تجانس" القاعدة حتّى تتناسب مع القيادة الحكيمة!.

كما أنّ التفويض الكامل من جهة المواطن قد يولّد استبدادا، فإنّ وصاية سلطة الـ (فوق) تفصل بين المواطن وبين مشاركته في السلطة التي تنتج القانون

إلّا أن الحكم على مدنيّة أيّه مؤسّسة ذات صفة تمثيليّة فمرهون بأمرين:

الأوّل قبلي إجرائي: ويتعلّق بنزاهة عمليّة التفويض، أي بالديمقراطيّة.

أما الثاني فبعدي: إذ يتعلّق بسلوك المؤسّسة السياسي والتزامها بالدفاع عن الحقوق المدنيّة للمواطنين المشمولين بالتمثيل.

وكما أنّ التفويض الكامل من جهة المواطن قد يولّد استبدادا، فإنّ وصاية سلطة الـ (فوق) تفصل بين المواطن وبين مشاركته في السلطة التي تنتج القانون، فيفقد القانون الهدف من جعله ميداناً لممارسة الحريّة، ليغدو مجموعة كوابح لها؛ فتنفجر الثورة. ذلك أنّ الإنسان حرّ بطبعه، وأنّ الفوقيّة استبداد سواء أكانت باسم الثورة، أو الوطن، أو الإيديولوجيا.