في السؤال عن الـ"سوريلي" فوبيا.. المشكلة والآثار

2021.08.15 | 06:12 دمشق

4832112576.jpg
+A
حجم الخط
-A

في إحدى محاضراتي الصباحيّة من عام 2019 في جامعة تراكيا ألقى أحدُ الطلبة سؤالاً فجّر القاعةَ جدَلًا، ويمكن لأيّ متابعٍ لموقف الأتراك من السوريّيّن في تركيّا أن يخمّن ذلك السؤال فهو يقع على رأس هرم (المُسبَقات) التي تستقرّ في أذهان رافضي الوجود السوريّ في تركيا!

"لماذا يهرب السوريّون من بلدهم ولا يحاربون"؟

جرّ هذا السؤال أسئلةً كثيرةً من العديد من الطلّاب الجامعيين الذين يُفتَرَض بهم الإحاطة بإجاباتها بشكل بدهيّ، إلا أنّ هذا لم يكُن مما يثير استغرابي، فقد اعتدتُّ مثل هذه الأسئلة، وإنما المثير فيها ما تُخفيه تلك الأسئلة من دلالات ثاويةٍ في عقول السائلين، وظاهرةٍ غريبةٍ عن عدم إلمام غالبيّة الشعب التركيّ بحقيقة ما يجري في سوريّا، خاصة بعد مضيّ سنوات مديدة على انطلاق الثورة فيها، وما تلا ذلك من حملات إبادة جماعيّة تكفّلت بتغطيتها وسائل الإعلام العالميّة والمحلّيّة في مختلف دول العالم!

بؤس التحريض

تتعدّد الأساطير التي تؤسّس للتحريض على وجود السوريين في تركيّا، ليس أقلّها اتهامهم بالجُبنِ والهرب من استحقاق الحرب، وتجوّل شبابهم في الأزقة والشوارع وسواحل المدن بينما يقدّم الجيش التركيّ دماء مقاتليهِ لحمايتهم! وقد انتشر هذا الادعاء مع إطلاق العمليّة الأولى للجيش التركيّ في الشمال السوريّ –التي كان قوامها الأساسي مشاركةُ مقاتلي فصائل المعارضة- إلى جانب حزمةٍ أخرى من الأكاذيب حولَ الأموال الطائلة التي تقدمها الحكومة من أموال ضرائب المواطنين لتجد طريقها إلى جيوب السوريين دونما عناء أو تعب، أو القدرة على دخول الجامعات والحصول على الوظائف دون الخضوع للامتحانات.

لا أحسب أن اثنين يمكن أن يختلفا على أن للموضوع أبعادًا سياسيّة، فرموز المعارضة تنفخ في كيرِ التحريضِ بلا توقّف، فشخصٌ من نمطِ كمال كليجدار أوغلو –رئيس حزب الشعب الجمهوريّ المعارض- يتعهّد بإرسال جميع اللاجئين السوريين من تركيا إلى بلدهم في مدة زمنية لن تتجاوز سنتين من وصول حزبه إلى الحكم، بينما يطلّ تانجو أوزجان -المنتمي لحزب الشعب الجمهوري ذاته- نجمًا جديدًا في ساحة التحريض، حاصدًا تفاعلاً كبيرًا وإثارةً للّغط بقراره -وهو رئيس بلدية مدينة بولو- بسعيه فرض رسوم تزيد بنسبة 10 أضعاف على فواتير المياه الخاصة بالأجانب من اللاجئين في المدينة –وهو ما رفض مجلس التخطيط في البلدية إقراره-.

يضاف إلى ذلك أن تصاعدَ "وسوم التفاعل" على فضاءات مواقع التواصل يزيد من الأمر تعقيدًا ويجعل العنصريّة ضد السوريّين أكثر تحفّزًا، وإن كان هذا الشيء ليس غريبًا على نسبةٍ –لا بأس بها- من الأتراك الرافضين لأيّ وجود عربيٍّ في الأساس في أرض الجمهوريّة التركيّة، خاصّة مع عمل بعض الأطراف على ترسيخِ صفة الخيانة على العرب الذين دعوا للانفصال عن الدولة العثمانية في حقبة الحكم القومي على يد حزب الاتحاد والترقّي، رغم أنّ العرب كانت آخر القوميّات التي تنفصل عن الدولة، فقد سبقهم اليونان والصرب والألبان والبلغار والبوسنيون.

وهنا يتبادر لنا سؤال مهم: هل ترتبط هذه الظاهرة من التحريض والشعبويّة بما يحصل في العالم من تصاعدٍ لليمين المتطرّف؟ كما يتبادر للذهن البحث عن مدى تشابه معاناة السوريين النفسية من حملات التحريض والعنصرية ضدهم مع ما يحدث للمهاجر التركي نفسه –والمسلم عمومًا- في بلاد المهجر –كألمانيا أو فرنسا- من شعبويّة وتحريضٍ متعدّد الأشكال ضدهم.

التعبير بالعنف

شهدت الأيام الأخيرة حادثة قتل شاب تركيّ على يد شاب سوريّ في منطقة ألتن داغ في أنقرة، -وقد وقعت قبل ذلك عدة جرائم قتل ضد سوريين في صقاريا وأضنة وسامسون- وقد اندفع إثر هذه الحادثة عشرات المواطنين الأتراك يهاجمون بالحجارة والعصيّ منازل ومتاجر وسيّارات السوريين في المنطقة، وهو ما وثقته العديد من التسجيلات المصورة.

بكلّ تأكيد فإن هذا الهجوم الجماعي ليس أولها–ونرجو على يأسٍ أن يكون آخرها- فقد سبق ذلك العديد من الهجمات على محال السوريين ومناطقهم على مدار السنوات الماضية، ففي يوليو/ تموز من 2019 هاجم العشرات من الشبان الأتراك الغاضبين مناطق انتشار السوريين في حي "إكي تلّي" في إسطنبول، وسبقت ذلك هجمات أخرى في ولاية هاتاي، وقونيا، وغازي عنتاب، ومرعش، وأضنة.  

إن أخطر ما في نزعة التحريض المحيطة بالسوريين نزوع أصحابها إلى التعبير عن آرائهم بالعنف، في مشهد يُظهِر أجهزة الدولة عاجزة عن مواجهة هذه الظاهرة أو مراقبةً لها –في أحسن الأحوال- وهذا -بدوره- ينذرُ بألّا ننتظرَ خفوت هذه النزعة أو تراجعها على نحو واضح، وأنها ستغدو في يوم من الأيام نذير شؤمٍ يهدّد السلم المحلّي وبنية المجتمع التركيّ نفسه، فمن يحرّض الدهماء ويستقوي بالغوغاء للضغط على الحكومة التي يعارضها ويقودهم لافتئات العنف بهدف إيذاء السوريين وإخضاعهم، فإنه –على الأغلب- لن يجدَ مندوحةً في أن يستخدم الأسلوب ذاته لمواجهة خصومه السياسيين في يوم من الأيام، وهذا أخطر ما تنطوي عليه هذه المرحلة الجديدة من التحريض.

نصوص واضحة ودوافعُ متعدّدة

تنص المادة العاشرة من الدستور التركي على أن جميع القاطنين في أراضي الجمهورية التركية سواسية أمام القانون، من دون أي تمييز على أساس اللغة أو العرق أو اللون أو الجنس، أو الفكر أو المعتقد أو الدين أو المذهب أو أسباب مماثلة.

وحسب المادة "216" من قانون العقوبات التركي، يُعاقب بالسجن من سنة إلى 3 سنوات من حرّض علانية شريحة من السكان ذات خصائص مختلفة على الكراهية والعداوة ضد شريحة أخرى من السكان، ما يتسبب بوجود خطر واضح ووشيك على السلامة العامة.

هذا ما تؤكده نصوص القانون والدستور، إلا أن الواقع يوحي بأنّ العنصريّة لا تضبطها النصوص ولا توقفها العبارات المنمّقة، فهي كالفطريات، لا تحتاج إلى أكثر من بيئةٍ رطبةٍ لتمتدّ فيها على نحو يفوق التوقّع. 

تكاد تجمِع عدة أوراق بحثية مهمة لمركز الحوار السوري وغيره على دوافع عديدة تؤجج حالة التحريض وتصاعد حملات العنصرية ضد السوريين في تركيا، ولعل أهمّها حالة الاستقطاب السياسيّة، حيث تعمد بعض أحزاب المعارضة التركية إلى توظيف ورقة اللاجئين السوريين ضد سياسات الحزب الحاكم بهدف إنقاص نسبه في الانتخابات وكسب المزيد من الأصوات الانتخابية، خاصة مع تصاعد ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية وزيادة نسبة التضخم والبطالة على نحو مطّردٍ.

إلى جانب ذلك فقد تصاعدت نزعة الخوف من "تغيير التركيبة الديموغرافية" في البلاد، خاصة مع وجود قرابة ستة ملايين عربي –أغلبيتهم من السوريين- بالتوازي مع تصاعد حملات اللجوء الأفغانية، ولا يخفى أن للإعلام التركي دوراً سلبياً –في سياق الاستقطاب واستثمار حالة الاحتقان- بتضخيمه من الصورة النمطية المسيئة للسوريين خصوصًا والعرب عمومًا.

يضاف إلى ذلك أنه لا يوجد خطوات عمليّة أو واضحة لمواجهة حملات التحريض، سواء على مستوى الجذور أو النتائج، وهذا ما يدعو لمزيدٍ من التحريض وهكذا دواليك.

هل من مبادرةٍ في الأفق؟

على الرغم من وجود مئات منظمات المجتمع المدني السوريّة والعديد من شركات الإنتاج الإعلاميّ والتلفزيوني والعشرات من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة في مختلف القطاعات الصناعيّة والتجارية في تركيا، إلا أنّ هذه الفعاليّات لم تنجح بعدُ في أن تكون ذراعًا أو حاملاً ينتشر في مختلف مؤسسات صنع القرار ليدفع عن السوريين غوائل العنصرية والاستغلال.

كما أن هذه الجهات –على ما تملكه من قدرات ومقدرات- لم تتقدّم –قيد أنملة- تجاه مخاطبة الشعب التركيّ بلغته لتعرض له بلغات الأرقام والعاطفة والمقوّمات المشتركة بين الشعبين ما يرفع عن عينيه الصورة النمطيّة ويُظهِر له واقع الحال، ومخاطر تصاعد خطاب معاداة السوريين والعنصرية تجاههم، فعودة السوريين إلى أرضهم لا تتحقق بدفعهم للخوف أو "الطرد" وإنما بوجود الاستقرار، وإنّه ما من نور في الأفق يظهِر قرب تحقق ذلك!