في الحديث عن الحَيْــوَنة

2018.12.21 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تثير التصريحات الأمريكية التي وردت على لسان مبعوث الخارجية ( جيمس جفري )، العديد من ردود الأفعال في الأوساط السياسية والإعلامية، ونعني بتلك التصريحات ما يتعلق منها بالموقف الأمريكي من بقاء نظام الأسد في السلطة في المرحلة الراهنة، علماً أن الموقف الأمريكي لم يكن جديداً، إذ أكدت الإدارة الأمريكية منذ آذار عام 2011 ، أن تغيير النظام في سوريا ليس من أولوياتها الراهنة، ثم تأكد هذا الموقف بطريقة عملية ملموسة في عام 2013 ، إبان صفقة الكيماوي بين ( بوتين وأوباما)، في أعقاب الهجوم الكيمياوي الذي شنه نظام الأسد على الغوطة الشرقية في آب 2013 وما زالت هذه التأكيدات تتكرر بين فترة وأخرى، كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

غياب الرغبة الأمريكية بتغيير النظام في سوريا لا يعني أبداً، أن واشنطن ستذرف الدموع على زوال نظام الأسد، ولعلّ هذا ما يبرر وجود موقفين متوازيين للإدارة الأمريكية، الأول استراتيجي ينضوي ضمن الرؤية الأمريكية للقضية السورية، ويقضي بعدم التدخل المباشر لإسقاط النظام، والثاني إعلامي، يراد منه التبرؤ الأخلاقي مما يفعله الأسد في سوريا من جهة، كما يراد منه إيصال رسائل سياسية للروس من جهة أخرى.

غياب الرغبة الأمريكية بتغيير النظام في سوريا لا يعني أبداً، أن واشنطن ستذرف الدموع على زوال نظام الأسد

 

ووفقاً لتوازي هذين الموقفين تحرص واشنطن بين الحين والآخر، على تصدير مواقف إعلامية لاذعة للنظام، تناوب عليها تباعاً باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وصفت نظام الأسد بالمجرم والقاتل الذي لا يصلح أن يكون حاكماً لسوريا.

ولم تكن المواقف الإعلامية لإدارة ( دونالد ترامب) بأقل حدّة من سابقتها حيال نظام الأسد، بل إن نعتَ الرئيس ترامب لبشار الأسد ب ( الحيوان) في نيسان 2017 ، غدا من أكثر الهاشتاغات تداولاً على وسائل التواصل الاجتماعي.

ثمة فرقٌ جوهري – إذاً – بين المواقف الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة في سوريا، والتي تنبثق من مصالحها في سوريا والشرق الأوسط عموماً، وبين المواقف الإعلامية التي تؤدي دوراً وظيفياً يخدم الاستراتيجية الأم.

وتأسيساً على ما سبق لن تكون ( حيْونة) بشار الأسد مشكلة بالنسبة إلى الأمريكان، طالما أن ارتدادات هذه ( الحيْوَنة) لن تطال سوى السوريين الذين لا ترى الإدارة الأمريكية في مأساتهم سوى أنها مصدر إعتياش وانتعاش معاً لمصالحها الراهنة والمستقبلية، بل لعلّ معظم السوريين باتوا يدركون أن جزءاً كبيراً من معاناتهم لم يكن محصوراً بسبب ارتدادات الحَيْونة الأسدية – وفقاً لترامب –  فحسب، بل بسبب حَيْونة دولية بات يمليها منطق المصالح الاقتصادية على حساب منطق الحق والعدالة والقيم الإنسانية.

إدانة واشنطن للحيونة الأسدية بحق السوريين لم تمنعها من ممارستها بتجلياتها الأكثر سوءًا، منذ أن غضّت الطرف عن عدوان الأسد الكيماوي على الغوطة الشرقية في آب 2013 ، ما يعني إعطاء الضوء الأخضر لبشار الأسد بتكرار استخدام هذا السلاح باستمرار، لقناعته بغياب الرادع أو العقاب، وكذلك بغض الطرف عن البراميل المتفجرة التي لم تكن أقلّ فتكاً من السلاح الكيماوي، وصولاً إلى المفصل الأهم  في عمر الثورة السورية، وأعني إتاحة المجال، بل تفويض الروس بالاستفراد عسكرياً في سورية منذ أيلول 2015 ،ووالذي مكّن بوتين من الإجهاز على معظم المكوّنات العسكرية المناهضة لنظام الأسد، وكذلك الإجهاز على الحواضن الشعبية للثورة، من خلال حملات التهجير القسري بحق العديد من المدن والبلدات السورية( حلب – ريف دمشق – درعا )، فضلاً عن تمكين قوات النظام وميليشياته الطائفية من استعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من الجغرافية السورية.

تأسيساً على ما سبق لن تكون ( حيْونة) بشار الأسد مشكلة بالنسبة إلى الأمريكان، طالما أن ارتدادات هذه ( الحيْوَنة) لن تطال سوى السوريين

يعود – اليوم – من جديد الزخم الإعلامي الأمريكي عن الشأن السوري، متزامناً مع جولة مبعوث الخارجية ( جيمس جفري) الذي حطّ رحاله في أنقرة في السابع من الشهر الجاري، في محاولة منه لمعالجة الخلاف التركي الأمريكي حول تواجد ( قسد) في منبج وشرق الفرات، إلّا أن ذلك تزامن أيضاً مع حالة الاستعصاء التي وصلت إليها الدول الضامنة لمسار أستانا في تشكيل اللجنة الدستورية، واللافت للانتباه هو الحضّ الأمريكي نحو الاستعجال بتشكيل اللجنة، بل التحذير حيناً، والتهديد حيناً آخر بنسف شرعية أستانا، والعودة إلى إحياء مسار جنيف في حال فشل الروس وشركاؤهم في تشكيل اللجنة الدستورية قبل نهاية هذا العام.

بكل تأكيد، لا يعني الاستعجال الأمريكي بتشكيل اللجنة الدستورية، رغبة إدارة ترامب بإنهاء الصراع في سوريا، وكذلك لا يرمي إلى وضع حدّ لمعاناة السوريين، بقدر ما يهدف إلى بداية جولة جديدة للصراع الروسي الأمريكي، تكون واشنطن فيها هي صاحبة المبادرة، وتبدأ بحصار الروس، بدءاً من إحراج بوتين بعدم قدرته على إرضاخ حليفه بالموافقة على تشكيل اللجنة الدستورية، علماً أن الأمريكان على يقين من أن تشكيل اللجنة سيعقبه إستعصاءات أخرى، لعلّ أبرزها وجود رؤيتين لعمل اللجنة الدستورية المفترضة، رؤية روسية تتمثل بمخرجات سوتشي، ورؤية أمريكية تتمثل بالوثيقة الصادرة عن المجموعة المصغرة ( 5 + 2 )، والتي تتضمن عدة شروط، يمكن الجزم مسبقاً بأنه لا روسيا ولا نظام الأسد سيقبلان بها. ولعلّ الأوراق الأكثر قوّة بيد الأمريكان، والتي باتت تقلق بوتين حيال استثمار عدوانه على الشعب السوري، تتجسّد في أمرين: إمتناع الولايات المتحدة ومن خلفها الموقف الأوربي، عن المشاركة بإعادة الإعمار التي تبلغ كلفتها بحسب التقديرات الأولية بين ( 300 – 400 ) مليار دولار، ما لم تكن مصحوبة بحل سياسي يحظى بقبول واشنطن. الثاني يتمثل بسيطرة القوات الأمريكية على ثلث الجغرافية السورية، تحت شعار محاربة داعش، ومقاومة النفوذ الإيراني في سورية.

لا شك أن استراتيجية واشنطن في سورية ستجعل بوتين أمام خيارين:

بكل تأكيد، لا يعني الاستعجال الأمريكي بتشكيل اللجنة الدستورية، رغبة إدارة ترامب بإنهاء الصراع في سوريا،

الأول: الاستمرار في الدفاع عن نظام الأسد، وإصراره على فرض حل سياسي غير متوافق عليه دولياً، ما يعني استمرار الصراع إلى مدى غير محدد، وهذا لن يزعج الأمريكان كثيراً، طالما روسيا في حالة استنزاف من جهة، وطالما أن الذين يموتون ويتشردون هم سوريون وليسوا أمريكيين أو أوربيين.

الثاني: رضوخ الروس، وقبولهم بالمساومة على رأس النظام، وهذا لا يعني – بالنسبة إلى بوتين – تنازلاً عن إحدى مصالحه الاستراتيجية في سوريا أو منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل انكساراً للطموح الروسي الحالم بالعودة إلى الهيمنة العالمية أيضاً. وما هو مؤكد أيضاً، أن هزيمة الروس في سوريا لا تعني – بالنسبة إلى واشنطن – إنتصاراً لحقوق السوريين أو إنقاذهم من آلة القتل الروسية، بقدر ما تعني لهم تعزيز القناعة لدى الروس وسواهم، أن اليد الأمريكية ما زالت فوق الجميع.

لم يعد نظام الأسد هو الممارس الوحيد لفعل ( الحيْوَنة) التي بات يمارسها الدائن لها والمدان بها في سوريا، ولكنه بلا أدنى شك، هو المؤسس الرئيس لها، والسبب في استمرارها.