في الحبّ والحب العذري

2020.02.10 | 23:17 دمشق

alhb_aldhry.png
+A
حجم الخط
-A

"الحبُّ -أعزّكَ الله- أوّلُهُ هزَلٌ وآخرِهُ جِدّ، دقّتْ معانيه لجلالته عن أنْ تُوصَف، فلا تُدرَكُ حقيقتُها إلا بالمعاناة". هذا تعريفُ ابن حزم الأندلسيّ للحبّ، ويظهر فيه عجزُ الإنسان عن إدراك ماهيّة الحبّ لما فيه من رفعةٍ وسُمُوّ. بينما جاء تعريفُ المفكّر صادق جلال العظم: "الحبُّ هو الشهوة والحاجة والنزوع والميل إلى امتلاك المحبوب بصورةٍ من الصور، والاتحاد به بغية إشباع هذا النَّهم، وتحقيق الشعور بالاكتفاء".

اتبعَ ابنُ حزم تفسيرَ أفلاطون لظاهرة الحبّ، وتلك الفكرة اليونانية القائلة إنّ النفوس البشرية قد قُسِمَتْ إلى نصفين عند بدء الخليقة، ووُزّعتْ بين الناس، ولهذا يظلُّ الإنسان يبحث طُول حياته عن نصفه الآخر. بينما اتّبع العظمُ تفسيرَ فرويد لظاهرة الحبّ، فاعتبرَ أنّ الجنس هو الأساس فيه، وكلّ ما عداهُ هو إما تصعيدٌ للغريزة أو انعكاسٌ أو إخفاء لها، يقول: "يرتبط الحبّ ارتباطاً مباشراً وأساسياً وعضوياً بالشهوة الجنسية، وبسعيه إلى إرضائها".

لكن العظم يتدارك نفسه بعد ذلك، ويوضّح في كتابه "في الحبّ والحبّ العذريّ" (1968)؛ إنّ الحبّ "ظاهرة أشدّ تعقيداً من أن يتمّ تبسيطها إلى موضوع جنسي يتطلّب تفريغ طاقة معينة أو إزالة توتّر عضويّ متراكم". والفارق الرئيس -في رأي العظم- هو أن الحبّ يقع على شخص معيّن يصطفيه العاشقُ من بين جميع البشر، ويركّز عليه عواطفه وأحاسيسه وغرامه. أما الجنس المحض فيمكن إشباعه مع أي شخص من الجنس الآخر.

يتحدث العظم عما سمّاه "مفارقة الحبّ"، فهو يرى أنّ عاطفة الحبّ تتّسمُ ببُعدين: 1) الامتداد في الزمان؛ 2) الاشتداد الذي يتجلّى في عنف الحالة العاطفية. ويضيفُ أنّه كلما طالتْ فترةُ الحبّ خفّتْ شدّته، ولذلك فهو يرى أنّ الزواج يفتُـرُ الحبَّ ويخمدُه ولا يُبقي على اشتداده ولا يذر. ومن هنا يمتدح العظمُ شخصية الدونجوان الذي لا يتزوّج أبداً، لكيلا يبرُدُ عشقه وشغفه، بل يظلُّ متنقلّاً من عشيقة إلى أُخرى طوال حياته، محقّقاً بذلك سِمة "اشتداد الحبّ" التي تتناسبُ عكسياً مع "امتداد الحبّ" حسبَ رأي العظم.

وبما أنّ العظم يميلُ إلى اعتبار الحبّ جنساً في الأساس، تمَّ تصعيدُه أو إخفاؤه أو كبتُه. وبما أنه يعتبر أنّ امتداد الحبّ زمنياً يؤدّي حتماً إلى خفوته وزواله، لا سيّما في مؤسسة الزواج "القاتلة للحبّ"؛ فهو يقدّم لظاهرة الحبّ العُذري في الأدب العربي تحليلاً جديداً. يرى العظم أنّ الشعراء العذريُّون (مثل مجنون ليلى وجميل بثينة) كانوا شهوانيّين في الأساس، ويحبُّون ذواتهم أكثر مما يحبّون حبيباتهم. وهُم لم يتزوّجوا من حبيباتهم عن قصد، لأنهم -مثل دونجوان- يعرفون أنّ الزواج يقضي على الحبّ، ولذلك تغزّلوا بمحبوباتهم في قصائدهم، لعلْمِهم أنّ العرب لا تزوّج بناتها ممّن يُشبّب بهنّ. ثم راحوا بعد ذلك يحاولون اللقاء بحبيباتهم بعدما تزوّجنَ من رجالٍ آخرين، سِرّاً وليلاً وبحثاً عن اللذة الحرام. والفارق بين الشعراء العُذريين ودونجوان -حسب العظم- هو أنهم أخلَصوا لامرأة واحدة، بينما أكثر دونجوان من معاشرة النساء. ويخلُصُ العظم بحثه بالقولِ إنّ "الحبّ العذريّ حالة مَرَضية أساسُها المعاناة والمكابدة والتلذُّذ بألم الذات وإيلام المحبوبة"، وإنّ العاشق العذريّ "مُولَعٌ بسَقَمه وهُزاله وحرمانه وتلذّذه بألمه وتعاسته". ويشخّصُ العظمُ هذه الحالة الـمَرَضية بأنها "سادومازوشيّة"، تتلذّذُ بتعذيب الذات وتعذيب الآخر. 

إنّ الإنسان الذي يُعاني من الكبت والحرمان الجنسي الطويل؛ عاجزٌ في الحقيقة عن التمييز بين الانجذاب الشعوري والانجذاب الجنسي

وبما أنّ إكرامَ الفكرِ نقدُه، خصوصاً إذا ما تناول ظاهرةً قد لا يتّفق على ماهيّتها اثنان مثل ظاهرة الحبّ؛ أبدأُ من الفرضية التي بنى عليها أستاذنا العظمُ كتابه، وهي "مفارقة الحبّ" بين الامتداد والاشتداد، أي خفوتُ الحبّ وضعف شدّته مع مرور الزمن. أشيرُ قبل ذلك إلى فكرة طرحها العظمُ في كتابه المذكور نفسه، تقول إنّ الإنسان الذي يُعاني من الكبت والحرمان الجنسي الطويل؛ عاجزٌ في الحقيقة عن التمييز بين الانجذاب الشعوري والانجذاب الجنسي. ويُضيف أنّ الحبّ حالةٌ تتخطّى الانجذاب الجنسي، وهي تزدهر بعد المرور به إلى ما هو أرفعُ وأكثر تعقيداً. وبناءً على طرح العظم هذا؛ فإنّ ما يخفتُ ويضعفُ مع امتداد الزمن، وخصوصاً في مؤسسة الزواج؛ هو الانجذاب الجنسي وليس الحبّ، وذلك لأن الرغبة قد أُشبعتْ مراراً وتكراراً، وباتَ إشباعُها متاحاً في متناول اليد. أما الحبّ فلا يخفت إنْ كان موجوداً في الأصل، وقد يزداد أو يأخذ شكلاً جديداً كالاهتمام والتشاركيّة. ولهذا فإن شخصية الدونجوان -في رأيي- لا تمثّل حالة اشتداد الحبّ الناجمة عن تعدُّد العلاقات وعدم الاستمرار في علاقة واحدة؛ بل تمثّل جوع صاحبها إلى الحبّ، وعدم قدرته على إيجاد حبّ يرضي نفسه ويسكّن غليلها، أو ربما تمثّل عدم قدرة العاشق الدونجواني على الحبّ بحُكم أنانيّته ونرجسيته.

أما بخصوص الفصل الأخير الذي خصصه العظمُ للشعراء العذريين، وخلُص فيه إلى أنهم شهوانيُّون ومرضى "سادومازوشيّون". أقول أولاً إن النماذج الأدبية التي اختارها العظمُ لكي يثبت وجهة نظره حول "مفارقة الحبّ" الذي يخبو مع مرور الزمن؛ كانت انتقائيّة إلى حدّ ما، إذ يمكننا أنْ نجد في الأدب شخصيّات أدبية وواقعية لم يخفتْ حبّها مع مرور الزمن أو بعد الزواج، خُذْ قصائد أراغون ونيرودا عن إلزا وماتيلده على سبيل المثال. وأقول ثانياً إن سِيَر الشعراء العذريين وأخبارهم يختلط فيها التاريخي بالأسطوري بالحكاية الشعبية بنسبٍ كبيرة، وإنّ مصادر معرفتنا بهم وبأشعارهم تعودُ إلى كتب وُضعتْ بعد أكثر من ثلاثة قرون من الزمن الـمُفترَض لحياتهم، مثل كتاب الأغاني، ولهذا نجد ذاك التشابه في سِيَرهم، كما نجد أن القصيدة الواحدة قد تُنسَب إلى ثلاثة أو أربعة شعراء منهم. ولذلك فإنّ خبراً يقول إن والد بثينة قد منعَ جميلاً من الزواج بها لأنه تغزّل بها في شعره، وخبراً آخرَ يقول إن جميلاً كان يزورها سرّاً؛ هما خبران لا يحملان من الموثوقية التاريخية ما يكفي لكي نبني عليهما تفسيراً يساعد في فهم ظاهرة الحبّ، أو يبيّن لنا ما وراء الشعر العذري. وأقول ثالثاً إن المنظور الفرويدي قد غلّف رؤية العظم للحب العذري، فأراد أنْ يثبت أنه ظاهرة ثقافية ناجمة عن كبتٍ جنسي وحرمان شديد، من مُنطَلَق أنّ الحبّ والإبداع هما دافع جنسي تمَّ تصعيده. وأنا لا أعتقد أن البيئة العربية في القرن السابع كانت تعاني من الكبت والحرمان الجنسيين، إذ كان العربُ كثيري الزواج والطلاق، وكانت الجواري والإماء متوفّراتٍ بكثرة، وتمتلئُ المصادر التاريخية التي اعتمدها العظمُ بشواهد عن ذلك الانفتاح في العلاقات والاختلاط بين الجنسين. بينما كان عصرُ فرويد في القرن التاسع عشر هو العصرَ الموسوم بالمحافظَة والكبت الجنسي (العصر الفيكتوري)، وهو ما يمكن أن يُنتج ظاهرة ثقافية تعبّر عن تلك الحال، مثل نظرية فرويد التي بالغتْ في تقدير أهمية الجنس.

وفي النهاية، يبقى كتاب "الحبّ والحبّ العذري" بعد خمسين سنة من صدوره، محلَّ نقاشٍ وأخذٍ وردّ ونقد، وهذا خير دليلٍ على ما فيه من جدّةٍ وجرأة في الطرح. وكلَّ عام وأهلُ الغرام بألف خير.

كلمات مفتاحية