في الحاجة إلى اندماج لم تتوفر شروطه بعد..

2021.10.15 | 06:04 دمشق

190308-little-syria-mc-11314.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يتساءل أتراك كثر.. لماذا لم يتمكن السوريون من الاندماج في تركيا، وهو سؤال يستدعي تساؤلا آخر عن شكل الاندماج الذي يريده أو يتوقعه الأتراك من السوريين؟.

لا يستطيع الإنسان العيش وحيدا بمعزل عن الجماعة البشرية لكونه كائنا اجتماعيا بطبعه، لذلك فهو يخضع نفسه للامتثال ليتمكن من التأقلم مع الجماعة، وليشعر أنه محل قبول من المجتمع.

والامتثال بطبيعة الحال لايقصد منه الإذعان والتسليم، وإنما هو الاستجابة ما أمكن لضغط الجماعة والبيئة المحيطة لاختيار موجبات التكيف معها .. وهذا الاختيار يستند إلى حاجة الفرد لقبول الآخرين له ورغبته في أن يترك أثرا إيجابيا لديهم، فالفرد يسعى دوما لتقييم سلوكياته والتأكد من مدى اتساقها وصحتها في المجتمع الذي يعيش فيه.

مسألة الاندماج الاجتماعي والذي يعني تضمين جميع الفئات والجماعات في المناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما أمكن ذلك في المجتمعات المضيفة لغرض تحسين أوضاع من نسعى لإدماجهم وإلغاء التفرقة والتمييز عنهم، لايمكن تناولها بمعزل عن مقاربة نقيض هذا الاندماج  وهو الإقصاء أو الاستبعاد عن حيز المشاركة الرسمية أو المجتمعية.

فهل اندمج السوريون كما يجب في المجتمع المضيف أو الملجىء؟ وهل توافرت لهم سبل التضمين والمشاركة؟ .. بل هل يمكن للسوريين حقيقة أن يستوفوا المعايير التي يتصور الأتراك وجوب وجودها وتوافرها لشكل ونمط الاندماج الذي يفترضونه ؟.

فالتركي يفترض بالسوري ابتداء أن يتعلم اللغة التركية ويتحدث بها بالطريقة والمستوى الذي يتقنه الأتراك أنفسهم فلا يتلعثم بالحديث ولا ينطق بعض الحروف أو الكلمات خلاف ماينطقها التركي (!) في حين أن الدولة لم توفر للاجئين السوريين سبل التعلم والمراكز التعليمية القادرة على إنجاز ذلك إلا اللهم بعض مراكز التعليم الشعبي التي تقدم دورات لغوية بطرق بدائية لاتحقق الغرض المأمول، فضلا عما يحتاجه ذلك من تفرغ لايملك ترفه السوريون الذين يحتاجون لكل ساعة من وقتهم للعمل وتحصيل سبل العيش بحده الأدنى باعتبار أنهم لايتلقون دعما ماليا يغنيهم عن العمل لمدة من الزمن يتعلمون فيها لغة القوم والبلاد.

ويفترض التركي أنك هنا يجب أن لا تنطق حرفا من لغتك الأم حتى لو كنت تتحدث لصديق من بني وطنك فطالما أنت تقيم على هذه الأرض عليك أن تتحدث بلغة قومها  (!) وعليك إن كان لديك عملا خاصا بك أن لا توشح لوحته التعريفية أو الإعلانية بأي حرف من لغتك إلى جانب اللغة التركية وإلا فأنت لا تحترم لغتهم  لكن لا مشكلة إن كتبت بعض الكلمات الإنكليزية إلى جانب التركية فحرف الضاد يتسبب بمغص فكري لدى أكثرهم  (!).

يفترض التركي أن لا يكون ثمة سوريا ثريا يقود سيارة ويحمل هاتفا متطورا أو يذهب للمطعم أو يسافر للسياحة بضعة أيام.. فهو مجرد لاجئ مشرد عن وطنه تعاب عليه كل تلك المظاهر الحياتية الطبيعية.

على السوري أن يعمل ويكف عن تلقي العون والمعونات رغم أنها معونات دولية وليست تركية،  لكن إن عمل السوري فهو متهم بسرقة أو اقتناص فرص عمل الأتراك ويسبب لهم البطالة، وهو يعمل دون إذن عمل دون الحصول عليه جبل من الصعوبات والتعقيدات (!) .. وعلى السوري أن يتعلم وأن يردم الفجوة الحضارية التي يفترضها بعض عتاة العنصريين بين الأتراك والسوريين، لكن السوري يستحوذ على فرص الشبان الأتراك ومقاعدهم في التعليم الجامعي (!) وعلى الأطفال السوريين أن يغادروا الشوارع ويلتحقوا بالمدارس لكن تضج كثير من المدارس بالسلوك والخطاب العنصري ضد الأطفال السوريين من أقرانهم وبعض معلميهم (!).

يفترض كثير من الأتراك أن السوري يملك خيار العودة لوطنه والعيش فيه فالحرب انتهت ولم يعد ثمة ما يبرر بقاءه لاجئا في بلدهم (!) وهو ما يشي بمستوى الضحالة في التفكير عن سبب وموجبات فرار نصف شعب دولة بكاملها من وطنه والتماس ملجأ آمنا لنفسه وأسرته في مختلف دول العالم .. بل هناك كثير من الأتراك لا يعرفون وغالبا لا يصدقون أن الحاكم نفسه هو من يقصف شعبه ويدمر المدن والحواضر فوق رؤوس ساكنيها ويرتكب الفظاعات في معتقلاته وسجونه (!).

لدولة لم توفر للاجئين السوريين سبل التعلم والمراكز التعليمية القادرة على إنجاز ذلك إلا اللهم بعض مراكز التعليم الشعبي التي تقدم دورات لغوية بطرق بدائية لا تحقق الغرض المأمول

لسان حال التركي يقول للاجىء السوري عليك أن تكون مثلنا تماما.. مستنسخ عنا.. تحب ما نحب وتكره ما نكره، وتأكل مثلما نأكل وتتحدث لغتنا كما نتحدثها .. لكننا في خلاصة الأمر لن نراك مثلنا  (!).

من المعروف عالميا أنه عندما تطول مدة اللجوء خارج الأوطان بسبب النزاعات المسلحة، فإن فرص وإمكانية عودة القسم الأعظم من هؤلاء اللاجئين تنخفض كثيرا ، لأن هؤلاء اللاجئين وبسبب من طول فترة النزاع والآثار الكارثية التي يخلفها على الممتلكات والبنى التحتية والخدمات والأوضاع الاقتصادية، لايحبذون العودة لبلدانهم ولا يجدون ما يغريهم بتلك العودة خصوصا أنهم وبسبب طول سنوات اللجوء أسسوا لحياة جديدة وأنشؤوا أعمالا ومصادر للرزق، وعاش أولادهم ودرسوا في تلك البلدان واكتسب بعضهم جنسيتها واندمج في المجتمع المضيف فتصبح فكرة العودة شيئا غير واقعي بالمطلق  ، لكن يجب الانتباه أن ذلك كله يحصل ضمن بيئة قانونية في المقام الأول ومجتمعية في المقام الثاني أتاحت له ذلك.

في تركيا يختلف الحال تماما، فلا بيئة قانونية ولا اجتماعية هيأت للاجئين لتعزيز فرص الاندماج على الرغم من التقارب الذي يصل حد التماثل تقريبا بين البيئات والقيم والمفاهيم والعادات الاجتماعية بين السوريين والأتراك (!)  فأول الشروط الموضوعية لتحقيق الاندماج توفير البيئة القانونية للجماعات والأفراد اللاجئة والتي تهيئ سبل تضمينهم في البيئات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع المضيف، وظل هؤلاء بسبب من توصيفهم لعدة سنوات كضيوف بلا أي مركز قانوني ومن ثم إخضاعهم لقانون الحماية المؤقتة الذي يعالج لهم أوضاعا قانونية مؤقتة لكنه يبقيهم على هامش المجتمع ولا يسعى لإدماجهم فيه وسبب ذلك باعتقادي هو التصور الخاطىء ابتداء أن وجود اللاجئين السوريين في تركيا مجرد حالة مؤقتة وعرضية لا أكثر  (!).

الاندماج أيضا يستلزم فهما مختلفا من المجتمع المضيف لمسألة اللجوء واللاجئين بعيدا عن خطاب المشاعر والعواطف الإنسانية التي تستحضر الانتماء لدين واحد جعل اللاجئين مهاجرين والمجتمع المضيف أنصارا يوجب عليهم دينهم وخلقهم استضافة إخوتهم بالدين وتقديم العون لهم ... فالمسألة أعقد من استنهاض المشاعر الدينية التي تتآكل مع تقادم الزمن.. فموجبات توفير سبل الاندماج  تفترض وجود ثقافة مجتمعية لقبول الآخر كآخر مختلف عني ولن يكون مثلي وعلي أن أقبله يتميزه أو تمايزه عني ، مع العمل والدفع باتجاه الاستجابة لقضية الامتثال والتكيف المجتمعي والقيمي والسلوكي، وهذا ما ليس متوفرا لدى معظم المجتمع التركي الذي يعتقد بعضه بتفوق أصله العرقي على الشعوب الأخرى، وبعضه تنخر العنصرية عقله وتتملك وجدانه، وذلك مرده باعتقادي إلى الانغلاق المديد ورفض التواصل والاطلاع على ثقافة ومعارف الشعوب الأخرى أو حتى وسائل إعلامها.. فالعنصرية تتناسب عكسا مع انفتاح الشعوب والمجتمعات وحتى الأفراد على تجارب ومعارف الشعوب الأخرى وثقافاتها ويثبت ذلك أنك قلّما تجد تركيا ذي مستوى علمي عال أو مثقف مطلع ومنفتح أو حتى رجل أعمال يخالط شعوبا ومجتمعات أخرى، قلّما تجده عنصريا.

وبالمقابل وعلى الوجه الآخر للمسألة لايمكننا إنكار أن كثيرا أيضا من السوريين لم يكلفوا أنفسهم عناء الاستجابة لموجبات الامتثال والتكيف ومراقبة السلوك العام ومدى اتساقه مع معايير المجتمع المضيف مما استنهض مشاعر الرفض والإقصاء أكثر، وعمّق من الفجوة المجتمعية التي دفعت على السطح ذاك الخطاب العنصري المقيت ووجد له متسعا من مساحات القبول في المجتمع المضيف  أعتقد أن إعادة صياغة الأوضاع القانونية للاجئين السوريين في سوريا على قاعدة أن هؤلاء اللاجئين ليسوا حالة طارئة وأن كثيرين منهم لن يعودوا لوطنهم على الأقل في المدى المتوسط، وبعضهم لن يعود أبدا، وإخراج هذا الملف من حلبة الاستثمار ولتجاذبات السياسية والتعاطي معه على أنه حالة قانونية وإنسانية يجب التعاطي معها على هذا الأساس، فضلا عن مواجهة الخطاب العنصري والتحريض على اللاجئين بحزم وتوفير استجابة أوسع لموجبات الدمج المجتمعي وخاصة في المجالات التعليمية والاقتصادية وتيسير الإجراءات القانونية لتوفير سبل العيش.. تمثل العناصر الأساسية لتحضير بيئة الاندماج المطلوب وأزعم أن اللقاء الأخير لبعض الفعاليات والشخصيات السورية مع أحد أحزاب المعارضة وتوسيع نطاق هذا التواصل ليشمل مختلف الأحزاب والتيارات والقوى المجتمعية والمدنية الفاعلة يمثل خطوة إيجابية بالاتجاه الصحيح لصالح الشعبين.