في التدين النيوليبرالي

2021.08.29 | 07:22 دمشق

hqdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

يلاحظ المتتبع للخطاب الإسلامي بتياراته المتنوعة أنه ينعى عادة على الحضارة الغربية ماديتها واستهلاكيتها، وانحرافها عن جادة الطريق القويم، لا قياسا بالقيم والمرجعيات الإسلامية، بل قياسا بالقيم المسيحية التقليدية التي يصر الخطاب الإسلامي على أنها تتفق مع القيم الإسلامية، نظرا للمرجعية السماوية الواحدة لكلتا المنظومتين. في مقابل هذا الحديث عن مادية الحضارة الغربية، يشيد هذا الخطاب عادة بالقيم الإسلامية التي يصر دعاته ومنظروه على اعتبارها قيما متعالية، لا تخضع لشروط الواقع وإكراهاته. ولكن قراءة عجولا لآليات اشتغال الخطاب الإسلامي وبيئاته السورية تكشف أنه خطاب غير معني بالكشف عن عيوبه؛ إذ يتجاهل التغير الذي أصاب التدين الإسلامي في العقود السابقة، لا بفعل التأثير الكبير للحضارة الغربية وقيمها التي ظلت تمثل "الآخر" الذي يجب الشك فيه دائما، وإنما بفعل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي استطاعت بأدواتها المتعددة اختراق الجدار الصلب للكثير من المسلمات والقيم الإسلامية.

عادة ما يجري تحميل النظام مسؤولية ما آلت إليه المؤسسة الدينية في سوريا من انهيار، وإذعان لمشيئته، وهو خضوع يهز في كثير من الأحيان صلب العقيدة الدينية لطبقة رجال الدين أنفسهم. إلقاء المسؤولية على عاتق النظام وحده يتعامى عن التغير الذي أصاب الخطاب الديني لدى الشرائح البرجوازية، وهو تغير لم يأت من الخضوع للنظام وحده، فاحتفاء النظام برجال الدين، وخصوصا التدين الشامي والحلبي، جاء ثمرة التحولات العميقة التي طرأت على هذا التدين، والتي تبتعد عن الطروحات الكلاسيكية للإسلام السياسي، وتحويل الشأن الديني إلى مسألة شخصية خاصة، تبتعد عن التنظيمات الجماعية التي تسم الحركات الإسلامية التقليدية. وهو ما يتفق تماما مع هوى النظام الذي لا يعنيه مطلقا تدين الفرد إلا بمقدار تأثيره في سلوكه داخل المجال العام، ولاسيما في بعده السياسي.

الأسس الفلسفية للاقتصاد الإسلامي ليست على خلاف مع المبادئ الرأسمالية، ولاسيما نسختها النيوليبرالية التي بشر بها الأسد الابن

ومع أنه لا ينبغي أن نهمل أن التعاطي العنيف للأنظمة اليسارية مع الظاهرة الدينية، والذي مثله في سوريا الخط المتشدد لصلاح جديد ورفاقه، قد أسهم في دفع طبقة رجال الدين للترحيب بقدوم الأسد الأب، فإن الأمر يتعدى ذلك الصدام الإيديولوجي المباشر، فالأسس الفلسفية للاقتصاد الإسلامي ليست على خلاف مع المبادئ الرأسمالية، ولاسيما نسختها النيوليبرالية التي بشر بها الأسد الابن، والقائمة على النزعة الفردانية، وتقليص دور الدولة...إلخ.

لقد رحبت طبقة رجال الدين بسياسة الانفتاح الاقتصادي في عهد الأسد الابن، والتي أفادت منها الشرائح الثرية في دمشق وحلب، على الرغم من أنها أدت إلى ظهور طبقة ثرية جديدة -يمكن تسميتها "الأرستقراطية الجديدة"- زادت من الاستقطاب الاجتماعي الموجود أصلا. ولم يكن لهذه الأرستقراطية الجديدة إلا أن تعيد صياغة الفضاء العام بما يتناسب مع ميولها وأذواقها ونزعتها الاستهلاكية.

في هذا السياق الاجتماعي، ولد تدين يتماهى مع القيم النيوليبرالية، قوامه البحث عن الخلاص الفردي، تدين نهض على أنقاض التدين التقليدي الذي كان ينحو باتجاه العمل التنظيمي، والانشغال بالقضايا الكبرى التي يطرحها عادة الإسلام السياسي.

ومع الثورة الإعلامية، والانفتاح المتزايد على الاقتصاد العالمي، أي في هذا السياق المعولم، بدأ هذا التدين يميل نحو الاندماج مع الفضاء العالمي، والتفاعل معه، والانغماس في مشروعاته، وتبني أطروحاته في كثير من القضايا. وقد شكل هذا التحول قطيعة مع الطروحات التقليدية، ومن هنا جاءت واحدة من أهم الاختلافات بين التدين التقليدي والتدين النيوليبرالي، والتي رأينا تجليها واضحا في الثورة السورية، وذلك ببقاء التدين الريفي وفيا للطروحات الكلاسيكية، كتحكيم الشريعة، والتعاطف مع قضايا المسلمين، والنزعة النضالية العالمية.

ترك هذا الشكل النيوليبرالي من التدين أثرا في الخطاب الديني الذي اتجه نحو الفئة الثرية التي يعمل في وسطها الاجتماعي، وذلك عبر إضفاء طابع ديني على النزعة الاستهلاكية لها، والتوكيد على عدم التعارض بين الثروة ومبادئ الدين الإسلامي، لا بل تأكيد أهمية الثروة، استنادا إلى أحاديث نبوية تتكلم على المال وأهميته في الإنفاق ووجوه الإحسان الأخرى. ولكن الدور الأخطر الذي قام به التدين النيوليبرالي هو الجزء المتعلق بإفراغ الدين من جوانبه الروحية، وسحبه ليماشي منطق الحياة المعاصرة، ولاسيما في الشق الاقتصادي، فقد بات خطاب رجل الدين المتبرجز يتجه نحو دغدغة الغرائز والرغبات، موسعا من دائرة المباح التي لا يكف عن الإعلان أنها سمة أصيلة في الدين الإسلامي.

لم يجد النظام خطرا في هذا الشكل من التدين، ولهذا سعى إلى تشجيعه وإعطاء مساحة لتمظهراته الإعلامية والدعوية، لأنه يتناغم مع توجهاته القائمة على ضرورة انكفاء الدين عن المشاركة في الحياة العامة؛ وكان برنامج البوطي "دراسات قرآنية" عنوانا لذاك التوجه، فهو لا يتطرق إلى القضايا الشائكة فحسب، وإنما يتناول قضايا تبدو منبتة الصلة بالواقع الاجتماعي وبأفهام عامة الناس. لقد كان خطابا منفصلا عن آلام الناس ومعاناتهم، خطابا برجوازيا بامتياز.

وسيلاحظ المدقق هذا التغير من خلال متابعة الاختلافات بين الإسلاميين "البرجوازيين" أنفسهم، فعلى خلاف جيل الآباء، جيل السبعينيات المنشغل بالحاكمية، أو تحكيم الشريعة، والمنضوي تحت لواء جماعة الإخوان المسلمين، أو يتبنى طروحاتها على الأقل، فإن جيل بداية الألفية كان جيلا مختلفا، جيل البحث عن الذات وتكوينها، والخروج من عباءة التيارات والمقولات الكبرى، فالصورة النمطية لهذا الجيل هي صورة الشاب ذي اللحية المشذبة، الذي يواظب على الصلوات في المساجد، وحضور الدروس الدينية، ويتبادل مع الأصدقاء الأقراص المدمجة التي تحتوي مناظرات مع أتباع الديانات الأخرى، وخطبا لدعاة آخرين، ليس من بينهم الشيخ الكشك الذي كان الاستماع إليه طقسا ملازما لجيل أقدم. كل هذا يأتي من دون أوهام سياسية، بعد أن أُغلِق المجال السياسي بفعل الأبد الأسدي. وغاية طموح هذا الصنف في الحياة عملٌ مريحٌ يوفر له دخلا مرتفعا، وبيتٌ في حي راق، وزوجةٌ متدينة جميلة، وأسرةٌ صغيرة العدد نسبيا، فقد أصبح تحديد النسل مقبولا في الأوساط الإسلامية، بعد عهود من الجدل الفقهي حول إباحة تحديد النسل من عدمها. أما الفتاة فتلبس، بدلا من الجلباب "الشعبي" الأسود الدال على منبت اجتماعي متواضع، بنطالا فوقه قميص يصل إلى حدود الركبتين، وحجابا تحرص على ارتدائه بطريقة ملفتة، وتهتم بالاستماع إلى دعاة جدد كعمرو خالد. ولا ينبغي نسيان الموقع الطبقي الذي عبرت عنه حركة القبيسيات، بوصفها تنظيما نسويا برجوازي النشأة، سرعان ما كشف عن حجم ارتباطاته بالنظام حين وقف معه في حربه على الشعب السوري.

في اللحظة التي كان ينبغي أن تقف فيها طبقة رجال الدين إلى جانب الثورة على الظلم، اختار أعضاؤها أغلبهم موقعا كهنوتيا، يشبه ما كان يقوم به نظراؤهم في أوروبا العصور الوسطى

هذا الشكل النيوليبرالي غاب عن الريف السوري الذي ظل التدين فيه أكثر التصاقا بالمقولات والطروحات الكلاسيكية للحركات الإسلامية. وظهر الاختلاف واضحا في الثورة، فقد نظرت الطبقة البرجوازية الحلبية إليها على أنها ثورة أرياف فقيرة ضد المدينة الغنية، أما في دمشق فقد وقف ثوار الغوطة على أبوابها التي أغلقت في وجوههم.

في اللحظة التي كان ينبغي أن تقف فيها طبقة رجال الدين إلى جانب الثورة على الظلم، اختار أعضاؤها أغلبهم موقعا كهنوتيا، يشبه ما كان يقوم به نظراؤهم في أوروبا العصور الوسطى: الوقوف مع الجانب المعادي لحرية الإنسان وكرامته.