لا يوجد في القانون الدولي تعريف متَّفق عليه للإرهاب، وليس من مصلحة الأنظمة الحاكمة وجود تعريف كهذا، فهي تستخدم تُهمة الإرهاب الفضفاضة ضدّ خصومها المحليين والخارجيين كيفما تشاء، وحسب مصالح نُخبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكنّ محاولات الأمم المتحدة لتعريف الإرهاب تبدأ من وصفه بـ"أي عمل يهدف"، أي أنّ الإرهاب صفة لفعلٍ وقعَ حقاً، لا صفة لنيّة أو فكرة أو أيديولوجيا، وهو فعلٌ يهدفُ إلى إيذاء المدنيين وترويعهم.
كانت صفة الإرهاب تُطلَق على منظماتٍ يسارية معادية للاستعمار والهيمنة الأمريكية، حينما كان مقاتلو القاعدة يُوصَفون من قبل أمريكا وبريطانيا بـ"الثوار من أجل الحرية". لكنّ المتغيّرات الدولية في العقود الأخيرة؛ كالثورة الإسلامية في إيران وظهور المقاومة الإسلامية في فلسطين، وانهيار الاتحاد السوفييتي وحاجة الولايات المتحدة كقوّةٍ عظمى إلى عدوّ يملأُ الفراغ الشيوعيّ؛ أوجدَ الارتباط بين الإرهاب والحركات الإسلامية، ثم عقدتْ أحداثُ 11 أيلول الزواج بين الإرهاب والإسلام.
وبما أن كثيراً من تصوّراتنا عن ذاتنا مستمدّة من الآخر، من الغربيّ الأقوى إعلامياً وثقافياً، فقد باتَ معظمُنا يرُدُّ أسبابَ الإرهاب إلى الأديان، و"الإرهاب الإسلامي" إلى النصوص الدينية من قرآن وحديث وفتاوى. وبالطبع، هذا هو التفسيرُ الأسهل الذي لا يحتاج إلى إعمال العقل، لكنه -أيضاً- التفسيرُ الأبعدُ عن البحث العلمي ومقاربة حقيقة الظواهر.
الإرهاب -كما يبدو لي- عبارةٌ عن أفعال جُرمية تستهدف مدنيّين أبرياء، وظاهرة كهذه ينبغي أنْ تُدرَس في ضوء علم الإجرام وعلم النفس الجنائي وعلم الجريمة الاجتماعي الحيوي، كغيرها من الظواهر الجُرمية، لا أنْ نرمي العلومَ جانباً، ثم نفسّر الظاهرة بعوامل من خارج طبيعتها والحقول العلمية المختصّة بها. وكذلك فإنّ ظاهرة مثل العمليات الانتحارية؛ ينبغي أن تُدرَس في ضوء علم النفس، والأسباب التي تجعل الإنسان يكره نفسَه إلى درجة قتلها. وكذلك في ضوء علم الاجتماع، والأسباب السياسية والاقتصادية التي تجعل الحياةَ مساويةً للموت في نظر شريحة من المجتمع. لا أنْ نُفسّرَ ذلك كلّه -بخفّة وخسّة- على أنه بحثٌ عن الملذّات الجنسيّة في الآخرة!
إن انتشار الإرهاب والجريمة في بلد مثل سوريا أو العراق؛ مرتبطٌ بالظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرَّ فيها كلُّ بلدٍ خلال عقودٍ من السنوات، أكثرَ من ارتباطه بأديان البشر المقيمين فيه ومذاهبهم
إن انتشار الإرهاب والجريمة في بلد مثل سوريا أو العراق؛ مرتبطٌ بالظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرَّ فيها كلُّ بلدٍ خلال عقودٍ من السنوات، أكثرَ من ارتباطه بأديان البشر المقيمين فيه ومذاهبهم. وإنّ النبشَ في تاريخ الإسلام لا يفسّر لنا إلّا جزءاً بسيطاً من الصراعات والمشكلات القائمة في كل بلد منها. بل إني أرى أنّ الصوابَ هو في نقيض ذلك؛ أي أنّ دراسة تاريخ البلد وصراعاته ومشكلاته في ضوء علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع؛ هو الكفيل بأن يفسّر لنا "إسلام" هذا البلد تفسيراً معقولاً، ويعلّل لنا أسباب تطرّفه أو اعتداله، طائفيّته أو تسامحه.
لفهم ظاهرة الإرهاب ينبغي فهم الطبيعة البشرية أولاً، بدلاً من النبش في نصوص العقائد والأيديولوجيات. ولكي أدخل في صلب الموضوع؛ أقول إنّ عمر الإنسان العاقل على الأرض يقارب 300 ألف سنة، وقد قضى الغالبية الساحقة من تلك السنوات في مرحلة التوحّش، حين كان الإنسان يأكل لحم الإنسان، ويستلذّ بالقتل وسفك الدماء، وبالنهبِ والاغتصاب وانفلات الغرائز. ثم بدأ عصر الحضارة في الألفية العاشرة قبل الميلاد، إبّانَ اكتشاف الزراعة في بلاد الرافدين. لكنْ هل يعني ذلك أن الإنسان قد تخلّى عن حالة التوحش وانفلات الغرائز التي تشكّل الغالبية الساحقة من تاريخ وجوده على الأرض؟ طبعاً لا، فما زالت تلك النَّـزَعات البدائية الهمجية موجودة في داخل الإنسان، وما زالت -رغمَ تهذيب الحضارة لها- تحاول الوثوبَ من حيّز المكبوت إلى حيّز الظهور والتحقيق.
إذاً؛ من هم الإرهابيّون؟ هم الذين قرّروا التخلّي عن شرطهم الإنساني -بكامل إرادتهم- والعودة إلى حالة التوحش والهمجية الأولى، بما تحتويه من لذة سفك الدماء والاغتصاب والتدمير. طبعاً هنالك عوامل عدّة تُسهّل عودة الإنسان إلى حالة الهمجية البدائية، ذكرتُها في مقالي الأسبق "عن تفاهة الشر"، ومن أهمّها الأنظمة الشمولية الممتدة من المحيط إلى الخليج، والتي تحوّل الإنسان إلى آلةٍ مسيّرة وكائن غير قادر على التفكير. ولأن انتشار العنف مرتبطٌ بانعدام السياسة؛ يكون ربيبُ النظام الشمولي قريباً جداً من العنف، ولا يحتاج أكثرَ من قرارٍ ذاتيّ لكي يتخلّى عن شرطه الإنساني ويتحوّل إلى مجرم إرهابي. دون أن ننسى الظروف الخارجية المساعدة على التوحُّش والانفلات الغريزي، كالتفقير والتجويع والظلم والإذلال، والتجهيل المدروس عِبرَ تعليمٍ وإعلامٍ سُلطويين، والحروب طويلة الأمد التي لا تُبقي لشريحةٍ واسعة من الشباب مهنةً سوى الحرب. وجميع هذه الظروف توفّرت في العراق وسوريا، وساهم المجتمع الدولي في إذكائها.
ومن أجل تشجيع الشبّان على الانتساب إلى منظمات إرهابية، ولتبرير الجرائم وتصويرها كأفعال حميدة، لا بُدّ من راية يمارس الإرهابيّون نشاطهم تحتها، لا بدّ من مبرّر سياسي أو أيديولوجي أو ديني لتلك الأفعال الشنيعة، وبهذا يُعلن التنظيمُ عن هويته الوطنية أو القومية أو الأيديولوجية أو الدينية أو الطائفية، أو يتحجّج بكذبة "مكافحة الإرهاب" مع أنه تنظيمٌ إرهابي أيضاً. ولدينا في العالم العربي ترسانة من الفضائيات ومشايخ الفضائيات، ممَّن يُهيّئون الشبابَ عقائدياً لإرسالهم إلى الموت تحت راية الإسلام، تنفيذاً لسياساتِ أنظمة عربية تابعة لأنظمة أجنبية.
إنّ مَن يرُدّ أسبابَ الإرهاب إلى العقيدة الإسلامية؛ يُريحُ عقلَه من التفكير والبحث، فيأخذُ بالسبب الظاهري الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى
إنّ مَن يرُدّ أسبابَ الإرهاب إلى العقيدة الإسلامية؛ يُريحُ عقلَه من التفكير والبحث، فيأخذُ بالسبب الظاهري الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى. لكنّه لا يخبرنا عن أسباب الجرائم الإرهابية التي ارتكبتْها جماعات غير إسلامية، مثل العصابات الصهيونية ومرتكبي مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وسربرنيتشا وراوندة؟ طبعاً، سيقول -بخفّة واستسهال- إنّ الأسباب تعود إلى اليهودية والمسيحية! طيّب ماذا عن الملايين الذين قتلهم رجالُ ستالين وماو وهتلر؟ سيقول إنّ الجواب يكمُن في الأيديولوجيا الشيوعية والنازية. وهذه التفسيرات ليست سطحية وخاطئة فحسب، بل هي تغطي الحقائق وتعرقلُ الوصول إليها. فلو كانت الأفعال الجرمية نابعة من الاعتقاد الراسخ بعقيدة ما، لتحوّلَ جميعُ معتنقي تلك العقيدة إلى مجرمين.
إنّ من يمارسون جرائم الاغتصاب والتعذيب حتى الموت في المعتقلات السورية؛ ليسُوا من دينٍ واحد أو طائفة واحدة حتى نرُدّ سلوكهم إليها. وليسُوا من أتباع أيديولوجيا معينة، إذا افترضنا أنّ لديهم رأياً سياسياً أصلاً. لكنّ المشتَرَك بينهم هو تخلّيهم عن شرطهم الإنساني، وارتدادهم إلى حالة التوحش وانفلات الغرائز الهمجية، بعدما هيّـأ نظامُ الاستبداد البيئة المناسبة لذلك.
كان الأدبُ سبّاقاً في فهم هذه الظاهرة وتفسيرها، فعرفنا من "مكبث" كيف يمكن لبطلٍ وطنيّ نبيل؛ أن يتحوّل إلى طاغية دمويّ سفّاح، بعدما أفلتَ العنانَ للجانب الغريزيّ المتوحشّ من نفسه. وعرفنا من "الدكتور جيكل" كيف يمكن لطبيب محترم أن يتحوّل إلى قاتل ومغتصب، بعدما غلَّب الجانب الغريزي الشهوانيّ في نفسه على الجانب الأخلاقي والحضاري. أما فصلُ المقال فهو عند دوستويفسكي، فالأَخَوان إيفان وبافل كارامازوف يعتنقان العقيدة ذاتها (الإلحاد)، ويتبنّيان أفكاراً متطابقة تماماً. لكنّ الأوّل ظلَّ إنساناً نبيلاً مُخلصاً لعائلته، بينما تجرّد الثاني من إنسانيّته وقتلَ أباه لكي يرثه، ثم برّر فعلته الشنيعة بالعقيدة (الإلحاد)، وهذا ما تفعله الجماعات الإرهابية بالضبط والتحديد.