في ابتذال حقوق المرأة

2023.03.12 | 06:09 دمشق

في ابتذال حقوق المرأة
+A
حجم الخط
-A

في تسوية طلاق نهائية، أصدرت محكمة إسبانية قبل أيام حكما ألزمت به الزوج بدفع مبلغ مقداره 204 آلاف يورو كأجر للزوجة عن عملها لمدة 25 عاما في عملها في منزلها ورعاية أولادها بعد أن احتسبت هذا المبلغ على أساس الحد الأدنى لأجر مهني شهري طوال ربع قرن، كما ألزمته أن يدفع لطليقته معاشا تقاعديا مقداره خمسمئة يورو شهريا ونفقة لابنتيه مقدارها ألف يورو شهريا، وتصادف أن هذا الحكم صدر قبل يوم واحد من اليوم العالمي للمرأة.

اللافت أن كل المعلقين من الرجال على الخبر تقريبا بعد نشره وتداوله على وسائل التواصل الاجتماعي كتبوا تعليقات ساخرة على ما ورد فيه رغم أن كثيرا منهم نشر ربما في اليوم ذاته أو بعده بيوم منشورات تفيض بمشاعر الود والاحترام للمرأة في يومها العالمي، ما يؤشر لحجم المتاجرة والفصام بين السلوك المرتجى والواقع المريع للحقوق العامة ابتداء، ولحقوق المرأة على نحو خاص.

الحقيقة أن واقع المرأة العربية عموما يؤشر إلى مشكلة مستحكمة لم تجد لها علاجا أو مسعى جدّي لفعل ذلك لا من المؤسسات التشريعية ولا الدينية على اختلاف مذاهبها ومشاربها ولا حتى من معظم هيئات وجمعيات حقوق الإنسان التي يبدو وكأن بعضها رضخ للواقع المغرق في مفاهيم وعادات جائرة لا صلة لها بقيم العدل والإنصاف ومبادئ المساواة الإنسانية، ولا حتى بجوهر الدين الذي لا ينفصم ولا يجب أن ينفصل عن تلك المفاهيم والقيم، ولعل إنجاز دراسات جادة ورصينة عن مستويات الطلاق في عالمنا العربي وعن طرد الزوجات من بيوت الزوجية بعد سنوات طويلة من الكدّ والبذل لبنائها، أو عن حالات سلب النساء حقوقهن الإرثية أو عوائد كدهن في العمل سنوات طوال لرفد أسرهن بمدخول إضافي يرفع من مستويات عيشها، لأدركنا أننا في قعر عميق ومريع للمستوى القيمي والأخلاقي لمجتمعاتنا التي تستبيح النساء وحقوقهن وتمنح الفاعل من أدوات القوة ما يغريه بالتمادي أكثر في فعل ذلك. فهل نحن حقا شعوبا مؤمنة برسالة السماء التي ترفض الظلم والإكراه والتفرد والكبر وتقدس الحقوق وقيم العدل والحرية والمساواة في الحقوق الإنسانية أم أننا نكتفي من إيماننا بإقامة شعائر التعبد فحسب (!).

في بلادنا تكد المرأة وتعمل وتنفق عائد عملها في بيتها وتنهض بشؤون عائلتها على أكمل وجه ومع ذلك نقرأ أو نسمع عن قصص مشينة عن حرمان الأب لبناته من الإرث

في العودة إلى خبرنا الذي افتتحنا به هذا الهمس، أجزم أن كل من كتب تعليقا ساخرا أو واجفا لم يكلف نفسه عناء قراءة مضمون القضية حتى.. لأنه لو فعل لربما الضمير القيمي يجعله متقبلا له ومتقبلا لفكرة أن العائلة السليمة لا تبنى على الظلم والقهر الذي يرفضه لو حاق بأمه أو أخته لكنه يقبله ويمارسه على بنات الآخرين(!) فالقصة تخبرنا أن هذا الزوج العتيد وفيما زوجته متفرغة لرعاية بيته وشؤونه وتربية بناته ورعايتهن طوال سني زواجهما،  كان هو فيها يعمل ويكسب حتى جنى ملايين اشترى ببعضها مزرعة بأربعة ملايين يورو وسيارتي بورش ورانج روفر ودراجة ناريةBMW  فيما رفض الدفع لابنته لمواصلة تعليمها وكان يرفض إطلاع زوجته على شؤونه المالية فانفصلت عنه ولم تحصل إلا على نصف بيت الزوجية.

في بلادنا تكد المرأة وتعمل وتنفق عائد عملها في بيتها وتنهض بشؤون عائلتها على أكمل وجه ومع ذلك نقرأ أو نسمع عن قصص مشينة عن حرمان الأب لبناته من الإرث وتخصيص الثروة للذكور وحدهم أو حرمان الأشقاء لشقيقاتهن من حقوقهن الإرثية لأنه لايجوز أن تذهب الثروة لزوجها الغريب(!!!) وكم قرأنا وسمعنا عن طلاق وانفصال ترمى فيه المرأة في الشارع لأن زوجها العتيد كان يسجل كل مايتملكانه باسمه فهو يشعر بالعار إن شارك زوجته تلك الملكية ويعتقد جازما أن عملها في بيتها واجب مقدس عليها وحدها لاتؤجر عليه إلا رضا الله وزوجها فحسب، أما إن طلبت العون والتعاون فهي الطامّة الكبرى لأنها تطلب المساواة فيه وهو مالا يجوز قبوله لأنه قوّام عليها وسيد البيت والأسرة !!.

المرأة المقهورة الراضخة لا يمكن بحال أن تنتج وترعى وتربي أطفالا أسوياء، والرجل المستلب لا يمكنه أن يدير شؤون أسرته إلا بالقسر والقهر

هذا الواقع المرير للنساء والذي تبدت سوأته خلال السنوات العشر الأخيرة المأزومة يكشف حقيقة عن بنية مجتمعية معوّقة فكريا ودينيا وقيميا وسلوكيا، وتحتاج من الجهد والعمل الدؤوب الكثير حتى تنجز عملية إعادة التأهيل لتصبح لديها قيما عليا تحترمها ولا تقبل المساس بها ولتكون لديها من الأدوات الدستورية والقانونية والفكرية مايجعلها محمية من التجاوز والتجاهل والاختراق.. قيم الحرية والعدالة والمساواة في الحقوق للجميع.. هذا الواقع المرير يحتاج لجهود كل أطياف المجتمع وقواه السياسية وأدواته المدنية ومؤسسات السلطة فيه لمباشرة ورشة واسعة النطاق لإعادة بناء منظومة القيم وفق رؤى وأفكار جديدة والتأسيس لمنظومة تشريعية تعلي من شأن حقوق الإنسان وتنصف المرأة وترفع الحيف عنها فالمرأة المقهورة الراضخة لايمكن بحال أن تنتج وترعى وتربي أطفالا أسوياء، والرجل المستلب لا يمكنه أن يدير شؤون أسرته إلا بالقسر والقهر، والفقه الذي يجعل الرجل ظلا للإله لا يمكن أن يسائله كبشر، والقانون الذي تعزف عليه الألحان للغانيات والسكارى لا يصلح أن يكون قانونا لتنظيم وإدارة وضبط شؤون المجتمع..

عندما ننجز قانونا للكد والسعاية يحمي حقوق النساء، وقانونا يكرس سيادة المرأة على نفسها وقرارها ومالها، وقانونا منصفا ومتوازنا للزواج والأسرة وقبل ذلك وبعده دستورا يحصّن الحقوق والحريات عندها يحق لنا أن نحتفل باليوم العالمي للمرأة، أما أن نفعل ذلك ونحن مانزال جلاوزة في فنون الإخضاع المادي والمعنوي فذلك ليس أكثر من متاجرة رخيصة ورياء مقيت.. وعندما ندرك ونؤمن أن العبودية لاتنتج إلا مجتمعا قطيعيا خانعا ومستباحا.. وأن الحرية وحدها هي المناعة الحقيقية لأجساد المجتمعات وعقولها عندها نكون قد قطعنا نصف الشوط نحو ضفة الحرية.