في أرجوحة "اللجنة الدستورية"

2022.06.17 | 05:50 دمشق

1178977408.jpeg
+A
حجم الخط
-A

 كما كانت الأعياد موسم الأطفال لركوب الأراجيح والعبث بالكثير من الوقت مع الأصدقاء لاقتناص بعض المتعة والفرح في زمن لم تكن فيه بعد مدنٌ للملاهي، كانت تلك المتعة تقتصر على مناسبتين سنويتين فحسب هما عيدا الفطر والأضحى وهما المناسبتان اللتان لا سقف لإنفاق الليرات التي يتحصل عليها الطفل كعيديات من والديه والأقربين. 

 كذلك حال حوار الطرشان في اللقاءات الثمانية للجنة الدستورية في جنيف، هو أشبه بحال أولئك الأطفال - مع فارق البراءة بين الحالتين بطبيعة الحال – الذين يركب كل فريق منهم طرف الأرجوحة ويقوم المبعوث الدولي بمهمة تحريكها وأرجحتها وما يزال يفعل حتى يقهقه الجميع لفرط سرعة حركتها ومن ثم ثباتها بعد انتهاء الدور، والمحصلة هي لا شيء سوى مزيد من اللهو والعبث بالوقت والمسار بكليته.

يحق لنا نحن السوريين البسطاء المشردين أن نسأل طالما لا يتبرع ولا يتفضل علينا أعضاء "اللجنة الدستورية" بأية معلومة عما يحصل داخل أروقة قصر الأمم بجنيف.. وعن ماذا يتحدثون وما هي الموضوعات والقضايا محل نقاشاتهم طوال ثماني جولات انعقاد بدأت أولها في 30 \ 10 \ 2019 وانتهت ثامنها في 3 \ 6 \ 2022 من دون أن يصدر عن ممثلي المعارضة أو عمن يفترض أنهم ممثلو المجتمع المدني على ضفة معارضة سياسات النظام وجرائمه، أي تصريح أو بيان للجمهور الذي يبدو أنه خارج حسابات هؤلاء الأعضاء، ولم تعقد لقاءات جدّية مع الناس سواء في الداخل أو في المنافي القسرية لإحاطتهم بما يعملون وبما يتم طرحه والخلاصات النهائية لتلك الجولات.

وعلى الرغم من تخطئة قرار الانزلاق في مسار اللجنة الدستورية ابتداء، باعتباره تفكيكا وتمييعا لموجبات الحل السياسي الذي ارتسمت ملامحه في جنيف وبيانها وفي القرار 2254 الذي حدد خريطة طريق دولية للحل ارتضاها كافة الفرقاء، فإن معظم السوريين اختاروا بداية عدم رجم المعارضة وساندوا هذا الخيار تدعيما لموقف المعارضة المتهالك والمتهافت وتصليبا لعودها على أمل أن تتمكن من إحداث اختراق معقول يسمح بإنتاج حل مُرض يخرج بسوريا والسوريين من نفق هذا الصراع، لكن رغم ذلك لم يكن الأداء كما ينبغي ولم يحدث أي تقدم حتى الآن – ولا أتصور أنه سيحدث بالمطلق – رغم مضي ما يقارب ثلاث سنوات على أولى جولاتها، وكأن المعارضة ومن يفترض أنهم ممثلون عن المجتمع المدني اكتفوا بمجرد الركوب في الأرجوحة قبالة وفد النظام و(مجتمعه المدني) التي يتقن السيد بيدرسن كيف يحركها جيئة وذهابا ثم يطرّز لنا إحاطة موجزة لا تغني ولا تسمن من جوع  ولا نفهم منها إلا موعد ركوب الأرجوحة الدولية المقبل!.

المسار الذي يخوضونه لن يثمر عن ذلك الحل ولن يفضي لاستعادة سوريا مرة أخرى، لكنهم مع ذلك ما زالوا يمارسون عملية التكاذب

يدرك جميع الأطراف أن الصراع في سوريا ومفرزاته، وما آلت إليه أوضاع الناس على ضفتي الصراع وحتى على من هم بالمنافي يحتاج إلى بلورة حل حقيقي يمكن إنجازه ضمن سقف زمني واضح لا وقت ولا مكان فيه للعبث، ويدرك هؤلاء أيضا.. بل هم على يقين تام أن المسار الذي يخوضونه لن يثمر عن ذلك الحل ولن يفضي لاستعادة سوريا مرة أخرى، لكنهم مع ذلك ما زالوا يمارسون عملية التكاذب، فلا النظام الذي يعتقد أنه انتصر على شعب سوريا وأبقى قبضته على خناق السلطة فيها، قادر أو في وارد تقديم أية تنازلات يمكن أن تفضي لارتخاء تلك القبضة أو لمشاركة أحد في صياغة واتخاذ القرار الذي يعتقد أنه يجب أن يكون بكليّته بيده وحده وحكرا عليه، وهو إذ يقبل بالانخراط في (العملية السياسية) فلأنه مجبر على ذلك لا أكثر وهو مضطر بالتالي للخروج من تلك العملية بمخرجات ترسّخ (نصره) وتعيد بناء (شرعيته) المفقودة بما يساعد على إعادة تأهيله وإدماجه مجددا داخل المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي، والمعارضة التي أهدرت أوراقها وأدواتها في الفعل والتأثير وبقيت مجرد شراذم سياسية وعسكرية ما عاد بإمكانها أن تخلع ما تبقى مما تستر به عورتها، هي بدورها مجبرة على الخوض في هذا المسار الذي جعلت نفسها رهينة له ولصانعيه دون أي ضمانات حقيقية بأن يفضي إلى نتيجة مقبولة ضمن سياق زمني واضح ومحدد، فكلا الفريقين لم يعد قراره ملكا له، بل ملكٌ للداعمين والفاعلين على الخريطة السورية.. وبالتالي سيبقى هذا المسار مستمرا طالما لم تتوافق الإرادات والمصالح الإقليمية والدولية على تصور نهائي لحل يعيد بناء الدولة والسلطة فيها بما يستجيب لخريطة مصالح تلك القوى قبل مصالح السوريين أنفسهم، واستطرادا ستبقى لعبة الأرجوحة الدستورية هي السبيل الوحيد للمراوحة في المكان ريثما تحين لحظة التوافق الإقليمي والدولي المنتظرة، وسيبقى المبعوث الدولي يقوم بوظيفة دفع الأرجوحة وتحريكها ليعيش الفريقان لحظات اللهو والعبث بالوقت الضائع.

هل من خطوة أو موقف يمكن أن يكسر رتابة وهشاشة وعبثية هذا المشهد؟ وهل التعقيدات الحالية للمشهدين الإقليمي والدولي تتيحان لنا هامشا لأي خطوة مفترضة؟

أعتقد أن بعض الحراك والتواصل الديبلوماسي تقوم به لجنة مشتركة من هيئة التفاوض واللجنة الدستورية وممثلين عن بعض مؤسسات المجتمع المدني الوازنة مع عواصم أساسية في صناعة القرار وإبلاغهم أنه ما لم يتم وضع جدول زمني قصير وواضح لعمل اللجنة الدستورية، وأنه ما لم يطلق مسار المفاوضات على نسق تشكيل سلطة انتقالية موقتة أيضا ضمن مظلة القرارات الأممية فإن المعارضة ليست في وارد المتابعة في مسار لا نهاية له من العبث بوقت ومستقبل السوريين، أو فليصنعوا هم الحل الذي يشاؤون لكن على الأقل لن نكون شهود زور على حل يعيد إنتاج نفس السلطة ولا يلبي مصالح السوريين كافة.

لا أعتقد أنه يمكن أصلا إعادة إجبار المجتمع الدولي على إيلاء الملف السوري بعضا من اهتمامه إلا عبر وضعه أمام خيارات كارثية على الجميع

سيئ هذا الخيار وكارثي.. هكذا سيراه الائتلاف وهيئة المفاوضات واللجنة الدستورية، بل وربما كل الفاعلين والعاملين الإقليميين والدوليين بالملف السوري لكونه خيارا (انتحاريا) يحرم الكثير من القوى بعض أدوات وأوراق فاعليتها في هذا الملف.. ربما، ولكن لا أعتقد أن أوضاع السوريين المزمنة أقل كارثية منه.. ولا أعتقد أنه يمكن أصلا إعادة إجبار المجتمع الدولي على إيلاء الملف السوري بعضا من اهتمامه إلا عبر وضعه أمام خيارات كارثية على الجميع.

المجتمع الدولي صنع لنا الأرجوحة.. وألزم الفرقاء على ركوبها.. وكلف مبعوثا أمميا مهمة تحريكها جيئة وذهابا بانتظار لحظة - ربما لا تأتي - لصياغة حل يلبي مصالح كل الفرقاء الدوليين، إلا مصالح السوريين فمن الواضح أنها خارج أي حسابات، أمام ذلك ربما لا نملك سوى خيار مغادرة الأرجوحة لكسر رتابة المشهد ومحاولة فرض مقاربة وآلية مختلفة للحل، وذلك أضعف الإيمان.