icon
التغطية الحية

في أربعين زياد الرحباني.. بعيداً عن المراثي ونبش القبور (1 من 2)

2025.09.08 | 16:50 دمشق

68777
فادي جومر
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- زياد الرحباني كان شخصية مثيرة للجدل بسبب مواقفه السياسية والفنية، حيث انقسمت الآراء حوله بين تقديسه ورفضه، مما صعّب النقاش العقلاني حوله.
- نشأ زياد في ظل والده عاصي الرحباني وسعى لإثبات ذاته بعيدًا عن الرؤية الرحبانية التقليدية، مما أدى إلى صراع أوديبي بينهما تجلى في أعماله الموسيقية والمسرحية.
- أثر زياد بشكل كبير على الموسيقى الشرقية بمزجه بين الطابع العربي والغربي، رغم محدودية انتشاره الجغرافي، واستخدم السخرية والنقد للتعبير عن الأزمات الاجتماعية والسياسية.

بعد انقشاع الغبار

بدأت بحثي بمراجعة ما قيل وكتب عند وفاة زياد الرحباني عسى أن أجد علاقة "معتدلة" مع الرجل الراحل، وعدتُ خائباً.

لم تنقسم الآراء حول المؤلف الموسيقي والمسرحي الشامل زياد الرحباني بوفاته قبل أسابيع، فقد عاش الرجل إشكالياً، أو على الأقل، موقع خلاف في الرأي، وبعد إعلان مواقفه من الربيع العربي وما تلاه من مجازر طائفيّة الصبغة خاصة في سوريا، وانحيازه التام لما يعرف بـ "محور المقاومة" ازدادت الإشكالية حدّة، وصار الانقسام حول زياد حدّياً عصيّاً على النقاش العاقل. فدخل الرجل "كلّه" في دائرة المقدّس بكل تبعات هذا الدخول: يجده مريدوه معصوماً عن النقد، ويجده منكروه هراءً مطلقاً. وهذا مكان يُقيّد فيه العقل وتتعطل فيه أدوات المنطق.

إن ضخامة الإنتاج وتنوعه تجعل قراءته كلّه منتجاً واحداً بعيدةً عن القراءة الجادة، وكان مما أربكني في بحثي هو سيطرة "المشايلة" فيما كُتبَ عن زياد وأعماله ومواقفه وتاريخه وأثره بمادة بحجم 500 أو 600 كلمة، اختزال عجيب لنتاج فيه أكثر من 600 عمل بين لحن وأغنية وحلقة إذاعية ومسرحية! اختزال لم أجد له تفسيراً سوى الهرب مما سيظهره البحث الجاد.. وربما كنتُ مخطئاً في تفسيري هذا. والأغرب كان بالنسبة لي هو تكرار الجمل ذاتها، مدحاً أو قدحاً، والتكرار المرهق للمعلومات نفسها دون أي تحليل: متى ولد ومتى بدأ إنتاجه وما هي أشهر أعماله وأين عاش وبالطبع: أعماله مع فيروز. ولم يكلف أحدهم نفسه بعناء الحديث عن أعماله المغمورة على سبيل تقديم إضافة ما.
وقبل محاولتي البحث في نتاج زياد وحياته، أجد من الضروري أن أقول: لم يكن نتاج زياد، خالص "الزياديّة" إن صح التعبير، عابراً بالنسبة لي، بل إنه أبكاني في كل مرة سمعت فيها "معلومات مش أكيدة" و "أمّنلي بيت" وحلّق بي بعيداً في "كيفك أنت؟".. وأضحكني حتى الهستيريا في "مربى الدلال"..  حتى أني حلمتُ لسنوات بإعادة تقديم العمل الخالد: " بالنسبة لبكرا شو؟" قبل الثورة، وتركت الحلم، لا لمواقف زياد، بل لأنّ الإنسان السوري حين ثار خرج من هزيمته وعاد ليحاول.

 ومن يحاول: ليس مهزوماً.

أبوّة عاصي.. حين تصنع قاتِلَك

لو قدّر لفرويد أن يقدّم نموذجاً مثالياً معاصراً لنظريته الشهيرة في "قتل الأب" لما وجد حبكةً أكثر كمالاً من قصة زياد الرحباني مع عاصي الرحباني وفيروز. فالأوديبيّة البدائية التي قدمها فرويد في دوافعها الجنسية تعود لتتكثف معاصرةً في الرغبة الأشد سطوة والأصعب إرضاءاً والأعنف تطلباً والأكثر تعقيداً في النفس البشرية: إثبات الذات وفق مثلث ماسلو للحاجات الإنسانية.
كان عاصي ملكاً في مملكة شيدها بنفسه، ملكاً حكم الجميع حتى مليكته "فيروز" بقبضة فولاذيّة مخمليّة القفاز قبل كل رعيته. ملك ديكتاتور اكتسب محبّة جمهوره بطريقة سحريّة رغم سطوته الهائلة في "بلاطه" الخاص، وكيف لا تكون ملكاً حين يكون بلاطك يضم أسماء مثل منصور الرحباني ونصري شمس الدين وهدى حداد وفيلمون وهبة وأنطوان كرباج، جوزيف حرب وميشيل طراد وحتى سعيد عقل، بل إن ضيوف البلاط لا يخرجون عن "رعايتك" حتى لو كانوا محمد عبد الوهاب أو وديع الصافي أو قادمين من ألف عام كأبي نواس وعنترة.. وتقف في ذات البلاط القامة الأعلى: فيروز، مليكة متوجة لكنها خاضعة حتى رمشة العين لطريقة الرمش التي تقررها أنت وحدك.

في هذه المملكة، وفي قلب البلاط ومركزه بالتحديد نشأ زياد الرحباني، وشاء القدر أن يكون الفتى العبقري موسيقياً ومسرحياً وكاتب أغنية، ابن المليكة البكر ولا إخوة ينازعونه الملك: وليّ عهد نموذجي في مملكة عاصي، وفي الوقت عينه نموذج صارخ لكلّ الحكاية الأوديبيّة بداوفعها الملحّة حتى الهوس ليقتل أباه ويحكم/ يتزوج أمه على طريقة أبيه الملك: عاصي الرحباني.
في بلاط عاصي قدّم زياد نفسه وفنّه مبكراً ضمن شروط هذا البلاط، مثبتاً بنوته وأحقيته في العرش، غير أن هذا التعريف ما كان ليرضي مزيج المتمرّد والإيغو العملاق في داخله.

تزامن بدء صنعُ زياد لمملكته الخاصة مع مرض أبيه، وتراجعِ حضوره الطاغي الذي لا مجال لمنافسته في حكمه، حيّاً على الأقل، وخاصة في درّة تاجه: فيروز. فظلّ يدور في فلك أبيه وَملكِه في أعماله معها، حلّق في أعماله خارج السرب الرحباني، ليبدأ رحلته في "قتل الأب" بتقديم وجه آخر للواقع، وجه ينسف كل الرؤية الرحبانية للحياة: موسيقى من عالم آخر، أغنيات تنبش الواقع بحثاً عن اللاجمال، مفردات صادمة لم تعرفها الأغنية الرحبانية، ومسرح يقدم ثورات عدمية المآلات، نساء خائنات أو بائعات هوى، رجال مهزومون حتى النخاع، ومستقبل محكوم بالبؤس. حتى قال كلمته الحاسمة في وجه الملك الرحباني: "اذهب أنت ومسرحك وهراؤك إلى الجحيم" في عمله اللاذع: شيء فاشل. حين جمع زياد بعبقرية نادرة كلّ ما صنعه عاصي في مسرحه لينسفه دون رحمة، ساخراً من كل ما فيه رمزاً وتصريحاً، حتى أن فيروز " بوصفها ملكة العرش الرحباني تحديداً" لم تنج من هذه المطحنة القاسية حين وضع كل شخصياتها في المسرح على محك الواقع ساخراً من لاعقلانية الملائكية الرحبانية: "صبية مندورة للحرية ما فيها تعمل سيكس".

في مسرحية زياد "شيء فاشل" اكتملت عناصر قتل الأب لكن الثمرة المحرّمة ظلّت بعيدة المنال، فعاصي مازال حيّأً، وأغنية "ع هدير البوسطة" الزياديّة الخالصة، ليست متمردةً كفاية، فهي أقرب لحوارات مسرح الرحابنة الساخرة، أما مناوشات عابرة مثل "وحدن بيبقوا" وإن كانت تمرداً موسيقيّاً لكنها ظلت خاضعة لسطوة الكلمة الرحبانية فهي من كلمات طلال حيدر، من بلاط الملك الأعظم الذي لما يُقتل كفاية بعد.

عام 1986 مات عاصي الرحباني، في لحظة ما عاد فيها زياد بحاجة لمملكة أبيه بعد أن عمل فيها هدماً حتى تركها – بالنسبة لمن آمن برؤيته على الأقل – رمزاً لحياة تخيلية لا تمت للواقع بصلة، بل وشكلاً من المخدّر الذي يجتر الماضي هرباً من مواجهة الواقع، لكنّ مملكة زياد لم تكتمل بعد في نظره، وهوسه بقتل الأب لمّا يصبح ناجزاً بعد: فيروز التي لم تغنّ زياديّةً خالصةً دون ظلال عاصي، حتى إطلاق ألبوم "معرفتي فيك" 1987 وفيه اكتمل نصر زياد على الأب والملك الراحل فاستولى على الأم والملكة ودرة التاج: فيروز الأسطورة. ليقدم بعدها "كيفك انت؟" و" مش كاين هيك تكون" و"ولّا كيف" والأخير: "إيه في أمل".

وخلال هذه المرحلة قدم زياد عملين مسرحيين، منهما عمل مسرحيّ رفع فيه سقف المواجهة مع عاصي الراحل إلى ما فوق المواجهة الفنية، معيداً تعريف لبنان.. كلّ لبنان، الذي عرفه الرحابنة: لبنان الكرامة والشعب العنيد، ليعيد زياد تعريفه: بخصوص الكرامة.. والشعب العنيد. مكملاً رحلته في مواجهته مع عاصي، المواجهة التي ما حسمت إلا بموت العبقري الخالد، واستفراد زياد بالملكة تاركاً المملكة برمتها مترهلةً ليرثها منصور الرحباني الذي حاول سدّ فراغ غياب عاصي، ولكن هيهات..

***

في نتاج زياد

نتاج زياد بمجمله ليس نتاجاً عابراً في ذاكرة شعوب شرق المتوسط العربيّة، وأيّاً كان الرأي في هذا النتاج فإن إنكار انتشاره وجمهوره وأثره ضرب من الفصام عن الواقع. وفهم العلاقة بين نتاجه ومواقفه يحتاج قبل كل شيء إلى إعادة دراسة هذا النتاج، بعد أخذ مسافة موضوعيّة منه، ووضعه ضمن سياقه الزمني التاريخي، وفهم بعده النفسي أيضاً.

أحاول فيما يلي قراءة النتاج على شكل قطاعات فنيّة واسعة، فالتفصيل بحاجة لكتاب كامل، بقدر ما استطعت، مرتكزاً على نوعية المنتج، وعلى أداء زياد فيه، حيث أنه كنتاج كلّ مبدع متنوع الإبداع بما يقارب الشموليّة، لم يكن بطبيعة الحال بسويّة واحدة: جودةً أو أثراً أوانتشاراً.

أولاً- االموسيقى: الملعب اللامحدود

انطلق زياد مكبّلاً بالرحبانيّة، هو ابن مدرستهم الهائلة، وموسيقاهم الفريدة الطابع، ولم يكن تماهيه في بداياته مع مدرسة بالغة الاتقان والعبقرية، وهو ابنها بكل المعاني، خارج السياق الطبيعي، من لحنه الأول الشهير "سألوني الناس" والذي كان فيه جزءاً ذائباً في المدرسة الرحبانية، واستمراره في تلك الروح منوّعاً كما فعل الرحابنة بين الرومانسية المفرطة في " قديش كان في ناس" و"نطرونا كتير" إلى أغنيات الدبكة في "يا جبل الشيخ". حتى نسخته المسرحيّة الغنائية الأولى والأخيرة في "سهريّة". وبدأ يتحرر شيئاً فشيئاً باحثاً عن فرادته في أعمال خلعت عباءة الرحابنة بهدوء، ولكنها احتفظت بقصب العباءة في صوت فيروز في "وحدن بيبقوا" ليصير مطلق زياد الرحباني في ألبوماته الخاصة في "أنا مش كافر" وما تلاها حتى في ألحانه الفيروزيّة التي كانت زياديّة خالصة انطلاقاً من ألبوم "معرفتي فيك" عام 1987 بعد عام واحد من وفاة عاصي الرحباني، ولهذا دلالات تستحق البحث، بعيداً عن الموسيقى الصرفة.

موسيقا بدايات زياد الرحباني كانت متأثرة بوضوح بموسيقا أبيه وعمه وأدواتهما، فكانت أغانيه وألحانه رحبانية الطابع من خلال استخدام الآلات الموسيقية الشرقية كالبزق والعود والقانون وغيرها من آلات التخت الشرقي

في تحولات زياد الموسيقيّة، تقنياً وتاريخيّاً، سألت الموسيقي وسيم مقداد، عازف العود والمؤلف، عن رحلة زياد في التأليف الموسيقي، وأطوار هذه الرحلة، ودلالات التغيرات فيها:

  •  في الانتقال من التأليف الموسيقي من البزق إلى البيانو، ما الذي اختلف في موسيقى زياد؟ وأدوات هذه الموسيقى وتعبيراتها؟

موسيقا بدايات زياد الرحباني كانت متأثرة بوضوح بموسيقا أبيه وعمه وأدواتهما، فكانت أغانيه وألحانه رحبانية الطابع من خلال استخدام الآلات الموسيقية الشرقية كالبزق والعود والقانون وغيرها من آلات التخت الشرقي، وصياغاته الإيقاعية واللحنية المقامية التي تذكرنا بأغاني فيروز في الخمسينيات والستيينات.
فأغنيته الأولى لفيروز سألوني الناس التي لحنها بعمر 17 سنة ألفها على مقام البياتي المغرق في شرقيته، وعلى إيقاع المقسوم الراقص وكلها عناصر موسيقية منتشرة بشكل كبير في الموسيقا العربية عموماً وموسيقا الرحابنة بشكل خاص.
بعد نتاجاته المبكرة وبالخصوص بعد مسرحية سهرية بدأ خط زياد الرحباني بالتغير وظهر تأثّره بموسيقا الجاز وتغيّر أسلوبه التلحيني وتوزيع الأغاني من خلال استخدام الهارموني (تعدد الأصوات) والاعتماد أكثر على آلات غربية الطابع كالبيانو والغيتار الكهربائي والدرامز وأغنية وحدن بيبقوا مثال ممتاز لهذا التوجّه. ففي هذه الأغنية نلاحظ وجود خطوط لحنية مختلفة متوازية فالوتريات كالكمان والتشيلو تؤدي اللحن وآلات النفخيات كالفلوت والساكسوفون يعزفون لحناً مضاداً والبيانو والغيتار الكهربائي والباص يرافقون اللحن الأساسي والغناء بشكل معتمد على الارتجال المبني على الهارموني بينما يعزف الدرامز الإيقاع بلون غربي الطابع بالكامل.

  •  كموسيقي كيف ترى أثر زياد في الموسيقا الشرقية؟ وما هو تفسير محلّية انتشاره بين سوريا ولبنان وفلسطين والأردن؟

إن المزيج الذي أسس له وأتقنه زياد الرحباني بين موسيقا ذات طابع عربي واضح مع استخدام عناصر موسيقية غربية أوربية وأمريكية وأصوت المغنين الذين عملوا معه وخصوصاً فيروز بحضورها الطاغي في الوعي والوجدان العربي عامة والمشرقي خصوصاً أدى لإلهام جيل كامل من الموسيقيين في سوريا ولبنان والأردن كما في مصر أيضاً. ونرى هذا التأثير في سوريا بشكل كبير في الموسيقا التصويرية لكثير من المسلسلات التي تمّ إنتاجها منذ بداية الألفية الثالثة. كما أنّ ألبومات موسيقية لاقت انتشاراً في سوريا في الفترة ذاتها كألبوم هالأسمر اللون للموسيقية لينا شماميان بمزج الموسيقا السورية الفلكلورية والتراثية بموسيقا الجاز.

تتوجب الإشارة إلى أن تركيز زياد الرحباني على المواضيع السياسية المحلية كالحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها وأسلوبه الساخر مستخدماً كلمات مغرقة في المحلية في الكثير من نتاجه أدّى إلى انحسار انتشاره خارج بلاد الشام عموماً وأظن أن الأدوات التي اعتمدها لانتشاره جماهيرياً كالراديو المحلي والمسرح كانت أيضاً عاملاً في محليته. ففي الوقت الذي نرى جمهوراً عريضاً في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين واعياً لنتاجه الفني الكلي فإن انتشاره في بلاد المغرب العربي قليل جداً ويكاد يقتصر انتشاره في منطقة الخليج العربي على الجاليات من بلاد الشام، الاستثناء الواضح لهذه الظاهرة هي الأغاني التي غنتها فيروز.

***

ثانياُ- اللغة: الأداة المباشرة

لم تكن رحلة زياد في نصوصه الغنائية خصوصاً والمسرحية عموماً بعيدة عن رحلته في خطّه الموسيقي، بدأ خطواته على درب الرحابنة، مع لمسة زياديّة في أغاني عمله الأول: "سهريّة"، مراوحاً بين الرحبانيّة الخالصة في أغنيات مثل "خايف كون عشقتك وحبيتك" و"ساعة نطرني"، وبين روح زياد الساخرة القادمة إلى عالم الأغنية في لبنان في "يا بنت المعاون"، ليعيد تعريف نفسه بوضوح في أغنيات "نزل السرور" ساخراً مرّاً لاذعاً لا يقبل قيداً من رومانسية الغنائية الرحبانية. جالباً مفردات كانت حتى ما قبل زياد غريبة عن الأغنية اللبنانية على الأقل " ضحية لحركة الثورية.. يا من تهدد بالرشيش.. بكل أنواع الفتيش.. "
ليخضع منذ تلك التجربة النصّ للموسيقى، دون أن يجد محذوراً في إكمال مقطع بـ "أي كلام" يخطر له لصالح اللحن المكتمل. كما فعل في "شو هالإيام اللي وصلنالا" أو "بما إنو".

عن هذه التجربة الفريدة، وسياقاتها وعمقها ومقولاتها، سألت الشاعر والإعلامي محمود الطويل:

  •  خرج زياد من بيئة يغمرها الشعر، بيئة استقبلت كل الألوان والأفكار الشعريّة: بالفصحى من المعلّقات إلى قصيدة التفعيلة. وباللهجات المحكيّة من الزجل إلى نصوص جوزيف حرب وميشيل طراد الحداثوية.
    كيف يمكن وصف تطور لغة زياد في نصوصه الغنائية؟ بدءاً من رحبانيته في "سهريّة".. وانتهاءاً بزيادّيته الفريدة في آخر أعماله؟

نلمس في بدايات زياد، لغة شاعرية رومانسية، محكية وفصيحة، في آن، تتناغم مع اللوحات الريفية المعتادة لدى والدته ووالده، فيروز وعاصي، لكن ضجيج الحرب الأهلية أعلن استبدالًا لهذه الرومانسية، فاقتحمت النصوص الصادمة المباشرة، "أنا مش كافر.. بس الجوع كافر.." مقاطع تكسر الوظائف المعتادة للكلمة الشعرية الغنائية لتصير بيانات احتجاجية، فعلًا لا مجازًا، وقد رأيناها على اللافتات في عدة بلدان، باشرت هذه الكلمات جسد الواقع بألفاظ مألوفة لكنها حادة، فصيحة لكنها شعبية، وهجائية لكنها مشحونة بالبؤس الجماعي.

أما برامجه الساخرة مثل العقل زينة، أو بعدنا طيبين، فقد جعلت مهمةَ اللغة الفكاهية الساخرة كشفَ النُّقُب عن النفاق أو المغالطات الاجتماعية والعقلية، والخطابات السياسية، مما يعكس تحولها من لغة شعرية غنائية إلى أداة تفكير لغوي اجتماعي ناقدة للهيمنة الفكرية القطيعية.

بهذا، تشكّل أسلوب زياد الذي يحشو اللغة في فجوات الواقع، إبرًا تؤلم ولا تترك ثغرة للهرب الزائف، حين قدم مرآة للهزيمة أكثر من شعارات تحرر. الأسلوب الذي يدمج الفصحى بالعامية، السخرية بالعمق، يحول الرتم الموسيقي إلى زخات رصاص بالكلمات، وإذا كان نزار قباني كما عنون ديوانه يرسم بالكلمات، فزياد كان يقاتل بها، ساخرًا ناقدًا.

  • في نصوص النقد الاجتماعي والسياسي، وحتى في أغلب نصوصه العاطفية، جنح زياد إلى الواقعية المفرطة، والمواجهة المباشرة، في لمحات ذكاء لا تخطئها عين.
    ولكنها تختم غالباً بشيء من الهزيمة..أي جمهور يمكن أن يتماهى مه هذا الخطاب؟ رفض الواقع تمهيداً للهروب منه والتغني لاحقاً بمن يواجهه؟

   واجه زياد واقعًا ضائعًا بلا شعارات، فتجاوزت لغته غرض الجمال؛ هي مواجهة فنية مع الواقع، لا تترك للمتلقي سوى مساحة ضيقة للحلم، في أعمال مثل: بالنسبة لبكرا شو؟، أو شي فاشل، يرسم زياد شخوصًا منهكة، تلوك الهزيمة اليومية ولا تجد مخرجًا سوى الضحك والسخرية، وإذا استحضرنا مرة أخرى "أنا مش كافر": أنا مقبور ببيتي ومش قادر هاجر... وعم تاكل لي اللقمة بتمي، وأكلك قدامك يا عمي.

هنا، الهزيمة جماعية: ضيق اقتصادي، انعدام العدالة، إحساس باللاخلاص السياسي، فالجمهور الذي يرددها ليس جمهورًا يريد شعارات ثورية سريعة، بل أفرادًا يواجهون الانهيار اليومي، ولا يستطيعون صدّه ولا ردّه، فليس لهم إلا السخرية، كما فعل زياد.

أو أغنية شو هالأيام:.. رح ينقطع الأمل الباقي بهاليومين. هنا تتحول الأزمة إلى عبثية وجودية؛ وكأن انتظار الانفراج نفسه صار مادة للتندر؛ إنها واقعية سياسية اجتماعية بلا بريق، لكنها تمتلك صدقًا يجعل المتلقي شريكًا لا متفرجًا، ولو كان شريك هزيمة أو لا فاعلية.

حتى في أغانٍ عاطفية، مثل البوسطة: نحنا كنّا طالعين بهالشَّوب وفطسانين، نحن كنّا طالعين، طالعين ومش دافعين ساعة نهدّيلو الباب، وساعة نهدّي الرّكّاب. نلمس أن الأثر الواقعي البائس يزاحم العاطفي مع أن اللحظة لعيون عليا، فالخيبات ممتدة للهزيمة السياسية الاجتماعية ذاتها.

الغضب عند زياد شامل ومتشظٍّ لكنه ليس ثوريًا بل تغييريًا، ليس موجّهًا إلى شخص واحد أو خصم سياسي بعينه، بل هو غضب من بنية كاملة

الجمهور الذي يتماهى مع هذا الخطاب، ومع زياد، هو من الطبقة الوسطى اجتماعيًا، سياسيًا، ماديًا، وحتى معرفيًا، ليسوا أصدقاء الأوهام الزائفة، ليسوا الباحثين عن خلاص رومانسي أو خطاب تعبوي بل ممن يفضلون الترنيم بوجعهم، وأحيانًا يفقدون البحث حتى عن الخلاص، يرددون بصوت زياد ليس لأنه يقدم أملًا، بل لأنه لا يخادعهم بإعلان نصر وهمي؛ هو ذاك الجمهور الذي جرّب مرارة العيش في بلد مدمَّر سياسيًا، يعاني اقتصاديًا ونفسيًا، على شفا الانهيار الفكري والاجتماعي، لكنه ما زال يبحث عن لغة تقول وجعه بصدق، وتحفر فيه وتستفزه، لا عن خطابات وعود مزيّفة، جمهوره المتلقي غير الباحث عن بطل خارق، بل عن شريك في وجع مشترك. السخرية والواقعية في أعمال زياد منحت المستمع وسيلة للتنفيس عن القهر الجماعي، من دون أوهام بالتغيير القريب، وربما جعلت مستمعها يكتفي بها عن الفعل الفارق في واقعه.

  • ثمة غضب هائل في خطاب زياد الغنائي، يردده جمهور عريض.. لمن يوجّه هذا الخطاب الرافض للجميع؟ مَن خصوم زياد في أغانيه؟

الغضب عند زياد شامل ومتشظٍّ لكنه ليس ثوريًا بل تغييريًا، ليس موجّهًا إلى شخص واحد أو خصم سياسي بعينه، بل هو غضب من بنية كاملة: سلطة سياسية مهترئة، نظام طائفي يفرز الفقر والتهميش، ومجتمع اعتاد على القهر حتى صار جزءًا من يومياته. في مسرحية بالنسبة لبكرا شو: الغضب موجّه ضد الاستغلال الطبقي والفساد الذي ينهش الفقراء؛ بينما في فيلم أمريكي طويلي: يوجّه السخرية إلى اليسار اللبناني الذي فقد بوصلته وتحول إلى مادة للتندر، وبمسرحية شي فاشل يتحول الحلم بلبنان الجديد إلى مهزلة، وحتى في مسرحيته بخصوص الكرامة، يسخر من الشعارات الوطنية التي تجعل من البلاد رمالًا متحركة تُغرق الناس بخيباتها.

وعنده الغضب المواجِه المباشر ضد الجميع، لا يستثني أحدًا، متخاصمًا حتى مع الذات، متجليًا في "أنا مش كافر"، وعنده الغضب الساخر وليس الساطع، يتردد مثلًا في أغنية راجعة بإذن الله، واللعب اللغوي على معنى الرجوع أي استرداد المكانة، والرجوع بمعنى التراجع، هذا غضب منكسر أمام عجز جمعي عن تغيير الواقع والذات.

الغضب ليس موجّهًا لفئة، بل لثقافة القمع والانقسام؛ حتى الفقراء أنفسهم جزء من هذه المنظومة إذا صمتوا. لذلك لم تسلم من نقده: السلطة، المتدينين، السياسيين، حتى الشعب.

الخصوم في كلمات زياد إذن ليسوا أشخاصًا، بل أنظمة وقيمًا: الجهل، الطائفية، الفساد، الكذب السياسي، حتى الرومانسيات الكاذبة التي تبني حبًا معزولًا عن الواقع. ولذلك، يتردد الغضب في قلوب جمهور واسع: من الطبقات الوسطى، الشباب المتمرد، وفقراء المدن الذين لا يرون في خطاب السلطة إلا كذبًا.

 

---- يتـــــبع ----