في أحوال بعض «شبّيحة الثورة»

2018.07.02 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في عام 2010 ظهرت على بشار الأسد معالم تخمة السلطة، بالضبط قبيل أن تصبح بلاده حصيداً كما جاء في التعبير القرآني: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازيّنت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا} (يونس 24).

أحد هذه الملامح العديدة أنه وجّه وزارة الداخلية، في منتصف تشرين الأول من ذلك العام، إلى إطلاق حملة شاملة للقبض على المطلوبين الجنائيين الواردة أسماؤهم في قوائم متكررة ومرحّلة سنةً وراء أخرى، وغيرهم من المشتبه بهم الجدد، في قضايا تراوحت من المخدرات والدعارة إلى أنواع مختلفة، وربما خفيفة، من «زعرنة» المراهقين والشبان. كانت الحملة مفاجئة، وشديدة، بعد طول تعايش بين «الدولة» وهذا الجانب «الأسود» من هامش المجتمع، وحصدت أكثر من عشرة آلاف موقوف في مختلف المحافظات.

من جهة المبدأ لا يمكن للمرء أن يستنكر حملة كهذه، طبعاً. ولكن وقوعها بطريقة مجرّدة عن أي سياق، جعلها أقرب إلى «الضرب بيد من حديد» أكثر من أن تكون إصلاحاً ذا فاعلية واستدامة. فمع الفساد المتفشي في أجهزة الشرطة، وما يتبعها، بالدرجة التالية تسلسلياً، في جهاز القضاء وسماسرته من محامين وكتّاب محاكم ومسيّري معاملات وغيرهم؛ لم ينتج عن الحملة، عملياً وفي نهاية الأمر، إلا ضخ المزيد من الأموال في هذه الشبكات، مع ارتفاع شديد في «تسعيرة الخدمات» المعروفة هنا، ابتداء من الحصول على سيجارة في المخفر إلى نيل البراءة المزعومة في المحكمة.

ظلت ممارسات جهازي «قوى الأمن الداخلي» (الشرطة) و«الأمن الجنائي» بعيدة عن دائرة الضوء الحقوقي والإنساني، رغم شهرتها الشديدة وعلنيتها تقريباً. 

ظلت ممارسات جهازي «قوى الأمن الداخلي» (الشرطة) و«الأمن الجنائي» بعيدة عن دائرة الضوء الحقوقي والإنساني، رغم شهرتها الشديدة وعلنيتها تقريباً. فمن جهة أولى تعايش معها المجتمع كقدَر لا يطمح إلى تغييره، منذ عهود سحيقة. ومن جهة أخرى أغفلت منظمات حقوق الإنسان السورية، التي نشطت نسبياً في العقد الأول من الألفية، هذا الأمر، بشكل كلي تقريباً، حين قصرت اهتمامها على المعتقلين السياسيين ومن في حكمهم. في تباين واسع مع نظيراتها في مصر، على سبيل المثال، حيث اشتعلت شرارة الثورة بسبب وفاة شاب تحت التعذيب على يد الشرطة إثر تهمة مفبركة.

نتيجة هذه النظرة السياسوية إلى دورها، أخرجت منظمات حقوق الإنسان السورية من جمهورها قطاعاً بشرياً هو الأوسع. ففي حين تعلم السوريون من دروس القمع المتلاحقة أن عليهم تجنب «السياسة»، أي مجرد الاشتغال بالشأن العام؛ فإن الوقوع بين براثن حماة القانون المزعومين هؤلاء كان أمراً قد يحصل نتيجة احتكاكات يومية عادية، أو بالصدفة المحضة، كالخلاف مع جار حول المدخنة، أو شراء سيارة، أو عدم الالتزام، الاضطراري، بالبيع وفق الأسعار الاشتراكية التي تفرضها وزارة التموين والأجهزة الحكومية المشابهة. وهنا سيُزَجّ المرء مباشرة في دائرة الإذلال، الذي قد يصل إلى الضرب بسهولة، ريثما تسعفه العائلة و«المحامي» بأنماط استرضاء الشرطة والجنائية وموظفي القصر العدلي، بدءاً من وجبات الطعام وصولاً إلى إيداع المبلغ المتفق عليه مع القاضي عند «شخص ثالث»، كما يعرف جميع السوريين.

وبالعودة إلى حملة 2010، كانت درجة القمع والتعسف والاستباحة التي تمت بها أعلى من المعتاد، نتيجة التوجيهات الحازمة. كما أنها شكلت فرصة لوزارة الداخلية، التي كان على رأسها اللواء سعيد سمور، أن تفرض هيبتها «كأمن»، بعد أن كانت في منزلة بين المنزلتين بين الأجهزة الأمنية الأربعة المهيبة المعروفة، وبين أنها مجرّد «مشلّحين» منظمين في دوريات، وجباة خوّات بلباس رسمي.

استمرت الحملة شهراً. وأعقبها انتعاش في سوق العمولات المعنية. وبدأ الموقوفون بالخروج تباعاً، حسب التهمة و«الواسطة». وبقي في السجن من عجز ذووه عن الدفع. وقامت الثورة. وخلال عامها الأول، تماشياً مع سعيه إلى توازي مساري «الإصلاحات» و«محاربة الإرهاب»، أصدر بشار الأسد عدداً متواتراً من مراسيم العفو التي طالت مختلف القطاعات. وكان منهم عدد كبير من السجناء الجنائيين الذين سيجد بعضهم طريقه مباشرة إلى الانخراط في مجموعات «الشبيحة» الوليدة، تحت تسميات رسمية عدة، مستمتعاً بكونه سلطة مطلقة اليد تجاه شبان عزّل، بعد طول إهانة. فيما سيعود بعضهم إلى حيّه أو بلدته، حيث سيبصر عالماً غير الذي كان يعرف.

غمر الانفعال بعض أصحاب السوابق، فإذا كانت سورية كلها تتوب وتتطهر، لمَ لا يتوبون هم؟! لقد رأوا أخيراً المعنى الحقيقي «للمراجل»؛ أن تواجه «الأمن» الفعلي بشجاعة من أجل قضية سامية.

 

المظاهرات شعبية. والهتافات لا تطال «الحكومة» فقط، كما ألِف الجنائيون أن يطلقوا على السلطة، بل تصل بطلاقة إلى المسؤولين الكبار على رأس البلاد. غمر الانفعال بعض أصحاب السوابق، فإذا كانت سورية كلها تتوب وتتطهر، لمَ لا يتوبون هم؟! لقد رأوا أخيراً المعنى الحقيقي «للمراجل»؛ أن تواجه «الأمن» الفعلي بشجاعة من أجل قضية سامية، لا أن تراوح بين التزلف للشرطي وبين مناكفته والهرب منه مثل مراهق!

بتقدير عال وتهذيب مستجد وضع هؤلاء أنفسهم في خدمة شبان لم يكونوا ينظرون إليهم في السابق إلا باستخفاف، طلبة جامعات بنظارات طبية. ومع تعرض «أنبياء الحرية الصغار» للضرب الوحشي والاعتداء بالآلات الحادة على يد الشبّيحة المرتبطين بالأمن، ثم للاعتقال نتيجة ذلك، جاء دور المعتادين على الدم للدفاع عن معلميهم الرقيقين... وللتكفير عن عمر كامل... وللانتقام من أيام مهينة في النظارات وسنوات بطيئة في المهاجع.

في أنحاء مختلفة من البلاد يتذكر الثوار رجالاً شرسين صاروا طوع التنسيقيات ومنظمي المظاهرات، وتولوا حمايتها عندما بدأت الثورة تتجه إلى الدفاع عن النفس، وصولاً إلى العسكرة. ومن قُتل من هؤلاء مبكراً، في مواجهات جسورة، أو خرقاء، أو أثناء تشكيل الخلايا المسلحة الأولى، شيّعته الذكرى العطرة للأشهر الأخيرة من حياته.

أما من امتد بهم العمر، أو شاركوا في الثورة متأخرين، فقد ضاقوا، غالباً، بالقميص النظيف الطارئ. ومع تحول الثورة إلى نمط حياة في المناطق المحررة، راحت العادات السابقة تتسرب إليهم، ليصبحوا نوعاً خاصاً من المتمردين في مناطق خارجة، تقريباً، على أي قانون يملك القدرة على الإلزام.