فيما يتعلق بالأسرة السورية

2019.05.14 | 18:31 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الأسرة هي اللبنة الأساسية أو التأسيسية لبناء المجتمع، ومهما اختلفت عليها الأمم أو الدول في التعريف، يبقى لشعوبنا مفهومها الخاص عن الأسرة، ويبقى للأسرة مكانتها البالغة الخصوصية بسبب ارتباطها بالقيم والأعراف والتقاليد والبيئة الدينية قبل كل شيء. لذلك فإن تسليط الضوء على حال وواقع الأسرة السورية في ظل الأزمة الخانقة والحارقة التي تمر بها سوريا، والتي دفع شعبها فاتورتها الأكبر يعتبر أمرًا ملحًّا وضروريًا من أجل وضع تصورات مستقبلية لما يمكن البناء عليه في هذا المجال كي يكون بناء المجتمع أكثر سلامة وقدرة على المضي قدُمًا في درب الحضارة الإنسانية والعيش في عصرنا الحالي.

في الواقع لم يكن في سوريا نموذج أو نمط واحد للأسرة، حتى في المجتمعات المدينية، فموضوع صلة الرحم وقيمتها العالية استنادًا إلى التربية الدينية والقيم والأعراف من جهة، وتنوع المجتمعات في الأساس بين مجتمعات ريفية فلاحية أو بدوية قبلية من جهة أخرى جعلا مفهوم الأسرة وممارسته في الواقع يختلف ويتباين بين فئات المجتمع حتى لو كان قسم منها يعيش في المدينة لكنه ينحدر من مناطق فلاحية أو قبلية. 

فحتى مع تغير الحياة بفعل الحداثة التي فرضتها معطيات العصر، وتعقد المجتمعات المدينية وظاهرة النزوح من الريف إلى المدينة وما فرض من تشكل أسرة صغيرة تتكون من زوجين وأولاد، فإن شكل الأسرة بقي يجنح نحو التمسك بالأسرة الممتدة التي تضم عدة أجيال، الأجداد والأبناء والأحفاد، تتسم بمراقبة أنماط سلوك أفراد الأسرة والتزامهم بالقيم الثقافية للمجتمع خاصة المجتمع الأولي المنحدرون منه، أو الأسرة المشتركة المتشكلة من عدة أسر ترتبط فيما بينها من خلال خط الأب أو الأم أو الأخ والأخت، وتجمعهم الإقامة المشتركة والالتزامات الاجتماعية والاقتصادية. هذه الأنماط من الأسر ساهمت أيضًا الحالة الاقتصادية في الحفاظ عليها بسبب غياب الخدمات العامة التي تقدم للأسر الناشئة بالشكل المطلوب الذي تستطيع الأسر الناشئة تحمل تكلفته من جهة، ونوع الخدمات البديلة التي يمكنها تقديمه من جهة أخرى، فبقي الاعتماد على أفراد الأسرة في تقاسم الأعباء والمسؤولية أمرًا ضروريًا لاستمرار الحياة والمعيشة في وقت صار عمل الأم ضروريًا للنهوض بالأعباء المعيشية، بالإضافة إلى عدم تمكن شريحة كبيرة من جيل الشباب المقبل على الزواج من تأمين مسكن واستقلالية حياتية، فيصبح بيت العائلة هو الحل الوحيد المتوفر ريثما يتحقق الظرف البديل أو المناسب.

بغض النظر عن تنوع أشكال الأسرة في المجتمع السوري، يبقى هناك قاسم مشترك يجمع تلك النماذج كلها، هو الأسرة التسلطية أو البطريركية أو الاستبدادية، حيث يخضع أفرادها لسلطة الأب، أو الأخ في حال غياب الأب، ولا تكون للمرأة فيها شخصية اجتماعية أو قانونية مهما كان دورها الاقتصادي أساسيًا، يعزز هذا الشكل من الاستبداد الإرث الثقافي والديني وسطوة الأعراف والقيم، بالإضافة إلى القوانين الناظمة للأحوال الشخصية، من دون إغفال النظام السياسي الشمولي الاستبدادي وما يعزز من أدوات الاستبداد وتشجيع الثقافة التي ترسخه في الوعي العام.

في سنوات الحرب المدمرة التي شهدتها سوريا أكثر الوحدات التي انهارت هي المنظومات الأسرية السورية

في سنوات الحرب المدمرة التي شهدتها سوريا، أكثر الوحدات التي انهارت هي المنظومات الأسرية السورية، ليس على مبدأ ما قال ممثل صندوق السكان في الأمم المتحدة آري هوكمان: "إن ارتفاع معدلات الطلاق، وكذا ارتفاع معدلات المواليد خارج نطاق الأسرة يُعدُّ نصرًا كبيرًا لحقوق الإنسان على البطرياركية"، بالرغم من كل ما نجم عن هذه الحرب من مشاكل وأمراض اجتماعية نخرت ببنيان الأسرة بشكل أساسي، من حالات طلاق ويتم وترمّل وتشريد وتشرذم إلى ما هنالك من مظاهر لم تعد مخفية على أحد، لكن النتيجة لم تكن انتصارًا لحقوق الإنسان على البطريركية الأسرية، بل إن الخلل في المنظومة الأسرية ابتدأ في الأساس باكرًا على وقع الزلزال السوري، بما أحدث من شروخ حتى بين الأخوة، وبين الآباء والأبناء، وبين الأزواج أنفسهم، فانقسموا بمواقفهم المتباينة من انتفاضة الشعب السوري، بعضهم رأى فيها ثورة كرامة وحقاً للشعب المظلوم منتهك الكرامة والحقوق، وبعضهم الآخر رأى فيها باكرًا مؤامرة تحاك ضد هذا البلد المقاوم الممانع، وبدأت الخلافات تتفاقم باكرًا، ومع ازدياد العنف والقتل على الساحة السورية وازدياد عدد الضحايا من كل المناطق والشرائح المجتمعية ازدادت وتيرة الخلافات حتى صار الأخ على قطيعة مع أخيه، أو الأخت مع أختها عدا المشاكل بين الأزواج، زيادة على ذلك ضيق العيش وتردي الحياة الاقتصادية، فلم يعد يتوفر الحد الأدنى من مقومات الأسرة أو مستلزمات نشوئها واستمرارها، وبالتالي كان الانهيار مدويًا.

فقدت الأسرة دورها بنكوصها نحو المستوى البدائي للعيش، وهو البقاء، والبقاء فقط، في ظل التهديد الوجودي إن كان بمواجهة الموت مباشرة كما في المناطق المشتعلة، أو في مواجهة الهزات الارتدادية بما جرّت من تردي الحالة الاقتصادية والمعيشية وصعوبة أو استحالة الحصول على الحقوق الأساسية كالتعليم والطبابة والمسكن والمأكل. 

لو أردنا تعداد الوظائف التي تقوم بها الأسرة، نواة المجتمعات، لرأينا أن هذه الوظائف تشكل مروحة واسعة، وظيفة بيولوجية قبل كل شيء، وهي التكاثر والإنجاب وهذه وحدها ظاهرة تكتسب خصوصية في وقت الحروب والكوارث، تليها وظيفة اقتصادية لا يمكن إغفال دورها في منح الشعور بالاستقرار والأمان لدى أفراد الأسرة وما تساهم به في تعزيز الوظيفة النفسية التي تتجلى في تعزيز البيئة العاطفية اللازمة للأسرة من حب وحنان واهتمام، ثم اجتماعية وثقافية ودور هذه الوظيفة في تشكيل البيئة العامة المحيطة بالأسر، أو المجتمع الكبير، بالإضافة إلى الوظيفة التعليمية والوظيفة الدينية التي لها دور كبير في المجتمعات السورية والتي نشطت في العقود الأخيرة بما توفر لها من ظروف الازدهار بسبب القمع الممارس على الشعب والجنوح نحو الدين أو الارتباط العضوي بالجماعة او الطائفة كملاذ روحي ازدادت الحاجة إليه في فترة الحرب، أما الوظيفة الأخلاقية المنوطة بالأسرة فكانت أيضًا جزءًا من الهويات الضيقة الخاصة بالمجتمعات المنغلقة من جهة والقائمة على أساس ديني أو طائفي أو مذهبي، ضمن خيمة ثقافية شاملة تشكلت خلال عقود من التراكم المعرفي والقيمي أثر به وساهم في تشكيله الاستبداد والطغيان والاستعمار الطويل.

فهل بقي لوظيفة من وظائف الأسرة ما يمكن الاعتماد عليه أم أصابها الانهيار والشلل؟ كيف يمكن إنقاذ ما تبقى من لبنات المجتمع السوري؟ سؤال يجب أن يوضع على طاولة البحث لما يشكل من ضرورة مستقبلية، كيفما كان الحل الذي لا يملك السوريون من زمامه شيئًا، لكن لا بد من العمل على هذه القضايا، فبناء المجتمع أهم من بناء نظام سياسي.