فيلّا لا يسكنها سوى كلب بوليسي!

2021.03.27 | 07:06 دمشق

6770-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

استأذنني صديقي في فكّة كعب، ففك كعبه كي يحضر سكرا وخبزا من البقالية في أسفل العمارة، وتركني أعدُّ المائدة وأصفُّ القصعات والملاعق لتحية الغداء، وأهيئ السلطة وصيفةً للمقلوبة، فطال غيابه، فضجرت، ووثبت ففتحت باب الشرفة المسدود، وأخذت كرسيا من الغرفة، فوجدت الشرفة مليئة بالأتربة وقد طال عليها سالف الأمد، فقمت بتنظيفها، وسكبت عليها حظاً من الماء، فجلوتها، فعبق الهواء برائحة الطين الطيب، وجلست من ذلك العلو احتفل بالجلاء وأنظر إلى الفيلا المجاورة وأنتظر فكّة الكعب.

الوقت ظهيرة، وكان البناؤون في الفيلا يستأنفون بعض التعديلات والإكمالات والزراعة والغراس، والبناء لم يكسَ، فاتخذت مئات العصافير خلل الحجارة أعشاشا ووكنات، وتسلقت بعض النبت الجدران، فصارت حيطان القصر لوحة رائقة، والطيور تحتفل بالشمس الذهبية في العشي والأبكار، فكل يوم فيه عيدان عيد البكرة وعيد الأصيل.

وثمة كلب بوليسي يقظ، يرفع رأسه بين الفينة الأخرى إلى الأعلى، لحظني فنبح ساخطا، فانتبه صاحب الفيلا، أو أني حسبته صاحبها، فكدّت ألوح له بتحية الأصيل، كان يدفع عربة فيها أعشاب وأشواك، لكن نظراته كانت غاضبة وثائرة ومتوعدة، فهتف بي، وزجرني وأمرني أن أتقهقر إلى الداخل، فعجبت من أمره، وظننت إنه حلبي غيور يغار على حرمة بيته، ولم أر نساء في الفيلا، كأنها مقفرة وليس بها أحد سواه، فلم أستجب لأمره، فما خالفت عرفا ولا اقترفت عيبا.

فأخرج مسدسه وصوبه إليَّ فذعرت ورفعت يدي علامة الاستسلام، وآثرت السلامة، ووليته دبري غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، وأغلقت باب الشرفة وأنا أرتجف من الخوف والرعب.

عاد صاحبي بعد فكّة الكعب، ووجد باب الشرفة مواربا، ووجهي ممتقعا، مصفرا، فعرف بالقصة ولطم وجهه وقال: مصيبة.

أخبرني إنه: "متذيب"، من الذيب، الفيلا هي لرئيس الأمن العسكري أو السياسي

هناك مصيبة، لكني لا أعرف سببها، وقلت في نفسي لعلي اجترحت إثما عظيما وتجاوزت حدّي وربما دخلت الغرفة المحرمة وأنا جاهل.

وكنت قد رأيت المصيبة بعيني، وربما دفعت روحي ثمنا لها، وأني لم أشهد حادثا شبيها سوى في الأفلام الأميركية الويسترن أو الرعب، وكنت أريد أن أفقه تعليل الأمر، أغلق صاحبي باب الشرفة بعد أن اختلس نظرات إلى أرض الفيلا، وقال إنه سيبني محل بابها حائطا أو يسدَّ الباب سدا محكما بالمسامير مثل سدِّ ذي القرنين ويفرغ عليه قطرا، وكل أهل البناية ممنوعون من استعمال شرفاتهم، سألت سؤالا: هل صاحب الفيلا متدين؟

 نظر ألي ساخرا غاضبا وقال: متدين؟  لقد انقرض المتدينون. قتلوا أو نزحوا.

 وأخبرني إنه: "متذيب"، من الذيب، الفيلا هي لرئيس الأمن العسكري أو السياسي.

 وذكر اسمه.

 سرق صديقي نظرات أخرى إلى العنصر الذي كان يقوم برعاية بعض الأشجار وسقايتها.

قال إنه لم يَر صاحبها سوى مرات قليلة، فهو يحضر في سيارة سوداء فاخرة، ومعه حرس وجند، يترجل متبخترا، فيوزع الأوامر على العناصر الذين يشتغلون له عمالا وسخرة، فيشجرون الأطراف أو يعشبون الأرض، ويقومون بنقل الأثاث، أو يملؤون بركة السباحة بالماء، ولم ير أحدا يسبح في البركة الآسنة التي كثرت فيها الضفادع منذ أن سكن في شقته المطلة على الفيلا، فأخبرته بما وقع لي فعذرني، وإنه كان يجب أن يحذرني، ودعا الله أن يستر. اختلسنا النظر، كان العنصر يدفع العربة كأنه شبح في فلم رعب، كنا قد فقدنا الشهية إلى الطعام، وتعبت الصحون من الاستعداد للمقلوبة التي لم تقلب، وقلت هذا ليس من حقه فنظر إليَّ، فأكلنا من غير شهية، وشربنا الشاي بعد أن وضعنا فيه ملحا بدلا من السكر، من شدة الاضطراب، أفسد علينا طعامنا، واتخذت شهيتنا سبيلها في الخوف سربا.

  قال صاحبي: الفيلا عرين. صاحبها يحسب نفسه أسدا.

سألت سؤالا فائضا، لزوم ما لا يلزم: هل اشتكيتم إلى الشرطة.

قال: اشتكينا، حتى في البلاد المتقدمة لا تحضر الشرطة إلا بعد وقوع الجريمة، ولم تقع، مرة وقع إطلاق نار تخويفي. الشرطة نفسها تتحرز من التحرش بهم.

بعد سنتين، زرت صاحبي مرة أخرى، كان قد خاط الباب بالمسامير وجعل له سدّا خشبيا، وستارة قال لي إن الفيلا لم تسكن بعد، فلصاحبها بيوت أخرى كثيرة ، فنظرت من خلل النافذة، فوجدت الشرفة قد أقوَت وطال عليها سالف الأمد، وتجاسرت فتلمست ببصري الفيلا، وأنا مذعور من المسدس القديم، فتسارعت أنفاسي، وتفصّد جسمي عرقا، فوجدت  الكلب  يتفحص النوافذ والشرفات، وأنَّ العناصر قد ردموا البركة، وجعلوها ملعب كرة تنس، وكان عناصر قد نصبوا الرافعات والسقالات، على حائط المبنى، وكان نبت العرائش قد تسلق الحائط، وتشكلت جزر من الطحلب في جرود الصخر المتراكب،  فغدت خريطة جميلة، وغابة عمودية، وطفقوا يزرقون الحجارة بلطخات أسمنتية، تمهيدا لكسوتها، فسدّوا مئات الأعشاش، وكانت العصافير تحتج وتصيح وتولول وتعجُّ وتثجُّ ،وهي تجد أفراخها توأد تحت الإسمنت الأصم.