فيلم "روما": العسكرتاريا وإجهاض الثورة

2020.01.27 | 23:03 دمشق

bwstr_fylm_rwma.png
+A
حجم الخط
-A

"الحياة ليستْ ما يعيشُه أحدُنا، وإنما هي ما يتذكّره، وكيف يتذكّره ليرويه". هذا ما قاله غارثيا ماركيز في "عِشتُ لأروي"، وهذا ما خطرَ في بالي أثناء مشاهدة فيلم "روما" للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي نسجَ السيناريو من ذكريات طفولته، لا بعين الحنين والذاتية، بل بعينٍ محايدة وموضوعية.

تدور أحداث الفيلم في العاصمة مكسيكو خلال عامّي 1970 و1971، في ظلّ حُكم الديكتاتور لويس إيتشيفيريا الذي حكم في منتصف الحقبة المسماة بـ"الحرب القذرة" (1964-1982)، إذ تميزت بالقمع الشديد للمعارضة السياسيّة، وبتقييد الصحافة والثقافة، وبالتعذيب في السجون والإعدامات خارج القانون. كما تميّز عهدُ إيتشيفيريا بخطاب اشتراكيّ شَعبويّ يتاجر بحقوق العمال والفلاحين، بينما هو في الواقع أكبرُ مُستغِلّ وقامعٍ وعدوّ لهم. باختصار؛ إنه نظام البعث ناطقاً باللَّكنة المكسيكية.

"روما" هو اسم الحيّ الذي عاش فيه المخرج "كوارون" طفولته، وتدور فيه أحداث الفيلم الذي كتبه من زيت الذاكرة. فالمخرج المنحدر من عائلة من الطبقة المتوسّطة الميسورة، كانت لديهم خادمة من السكّان الأصليين للبلاد، وهذه الخادمة (كليو) التي كانت فرداً حميماً من العائلة تارةً، وأدنى منهم منزلةً من حيث الطبقة الاجتماعية طوراً، هي بطلة الفيلم الذي يُسلّط الضوء على المجتمع والتاريخ المكسيكيين من منظور الهامش/الخادمة، لا من منظور المركز/العائلة.

يعرض الفيلم تفاصيل من الحياة اليومية للعائلة التي تتألف من أبٍ وأمٍّ وأربعة أولاد وجدّة، بالإضافة إلى خادمتين (إحداهما كليو) وسائق من السكّان الأصليّين. تقوم "كليو" بإيقاظ الأطفال صباحاً بطريقة تجمع بين الرقّة والأمومة، وتحضّر الطعام لهم، وتأخذهم إلى مدارسهم وتُعيدهم منها، ثم تلعب معهم... لكنّ هذه الإنسان/ الصديقة/ الأخت/ الأم، لا يُسمح لها بالخروج من طبقتها كخادمة، فحينما يجلسون لمشاهدة التلفاز، يجلس الجميع على الأرائك، بينما تظلُّ هي جاثمةً على الأرض. كانت عدسةُ المخرج واضحةً في تقديم صورة التمييز الطبقي الصارخ تجاه العمالة المنزلية، فالعائلة تعاملها كواحدة منهم حيناً، وكآلةٍ مُصنَّعة لتلبية رغباتهم حيناً آخر.

وكغيره من أدباء ما بعد الحداثة، لا يهتمّ "كوارون" بوجود حبكةٍ درامية مركزية أو تقديم أحداثٍ مفصلية، بل هو يبني عملَه الفنيّ على العاديّ واليوميّ والمعاش والمألوف. تتكشف الخيوط عند لقاء الخادمة "كليو" مع شاب من طبقتها اسمه "فيرمين"، عانى في طفولته من اليُتم والفقر والانحراف، ثم وجد ضالّته في الرياضات القتالية فأُولِع بها، حتى أن العلاقة الحميمة التي حدثتْ بينه وبين "كليو"، يصوّرها المخرجُ في مشهد استعراضٍ قتاليّ يؤديه "فيرمين" عارياً أمامها، ولذلك دلالات تشي بالذكورية والعنف وأُحادية القوة. وبعد شهر من العلاقة، يذهبان لمشاهدة فيلم في السينما، ويكون الفيلم حربياً -أيضاً- في تماشٍ وتماهٍ مع النظام الاستبدادي، وتخبر "كليو" حبيبها أثناء الفيلم بأنها حامل منه، فيهرب منها.

يتقاطع مصير الخادمة البائسة "كليو" الحامل من شريكٍ تهرّب من مسؤوليته، مع ربة المنزل التي تعمل لديها "صوفيا"، والتي كانت تخبر أولادها لمدة أشهر بأنّ والدهم مسافرٌ في عمل إلى كندا، وأنّ الأبحاث المتواصلة تمنعه من العودة إلى بيته وأولاده، إلى أن تتكشف حقيقةُ أنه قد ترك زوجه وعائلته وذهبَ ليعيش مع عشيقة له. وهكذا يوضّح المخرج أن الانقسام الطبقي الحادّ في المجتمع، لا يعني تنعُّم طبقات كاملة، وتعذُّب طبقات كاملة، بل ثمة انقساماتٌ أخرى داخل الطبقة الاجتماعية الواحدة؛ كالانقسام الجندري. ففي بلد يحكمه نظام استبداد عسكري كنظام البعث، يكون الرجُل هو السيّد الآمر على النساء في الطبقات العليا، وهو السيّد الآمر في الطبقات الدنيا، وتكونُ النسوةُ محكوماتٍ ومضطَهداتٍ وخاضعاتٍ ووحيدات، وتكون مصائرهنّ متشابهة.

بوستر فيلم روما.png

في حزيران/يونيو 1971، تأخذ جدّةُ العائلةِ الخادمةَ "كليو" معها إلى متجر المفروشات، لكي تشتري لها سريراً للطفل الذي آنَ أوان ولادته. وفي اليوم ذاته تمتلئ الشوارع بالمظاهرات الطلابية، فيردُّ النظامُ بإطلاق النار على المتظاهرين، فتقع المجزرةُ المعروفة باسم "كوربوس كريستي" التي قُتل فيها 120 متظاهراً. وكان نظام إيتشيفيريا قد شكّل فرقاً خاصةً من "الشبّيحة" لقمع المظاهرات، جمعهُم من أصحاب السوابق ومن الأحياء الأشدّ فقراً، ومن بينهم الشاب "فيرمين" حبيب "كليو" السابق ووالد جنينها. تقوم الفرقةُ التي يتبع إليها "فيرمين" بمطاردة اثنين من المتظاهرين اللذين لاذَا بمتجر المفروشات، وفي تلك اللحظة يلتقي مسدّس "فيرمين" مع "كليو" وجنينها في مواجهة مباشرة. لم تظهر على وجه الشبيح "فيرمين" أيةُ علامة تأثُّر، وكان مستعداً لإطلاق النار على حبيبته الحامل بطفله لو أتتْ بأصغر حركة، ثم انصرف عنهما كأيّ آلة قتلٍ تنفّذ ولا تعترض. كان لهذه الصدمة النفسية أن عجّلتْ من ولادة "كليو" في اليوم ذاته، يوم المجزرة، لكنها أنجبتْ طفلةً ميتة.

كثيرةٌ هي الرسائل السياسية التي يعرضها الفيلم الذي رُشّح لعشر جوائز أوسكار، نال منها أوسكار أفضل تصوير سينمائي، والذي يدهشك بمدى التشابه بين أنظمة الاستبداد في كل زمان ومكان

كثيرةٌ هي الرسائل السياسية التي يعرضها الفيلم الذي رُشّح لعشر جوائز أوسكار، نال منها أوسكار أفضل تصوير سينمائي، والذي يدهشك بمدى التشابه بين أنظمة الاستبداد في كل زمان ومكان. وقد كان المخرج موفقاً في تشريح الاستبداد العسكري بلقطاتٍ ذكية وحواراتٍ مقتضبة. فمنذ البداية نسمع أحد الأطفال يحكي لأهله عن ولدٍ كان يرشقُ السيارات بأكياس معبّأة بالمياه، لكنْ من سوء حظه أنْ رشقَ إحداها على سيارة جيب عسكرية، فنزل الجنود منها وأطلقوا النار عليه. هذه القصة بما تحمله من دلالاتٍ عن انعدام أي قيمة للإنسان في ظل الاستبداد، وعن قتل الطفولة بشكل مباشر (الطفل المقتول) أو غير مباشر (الطفل الراوي)؛ تمرُّ وسط الأحاديث اليومية عن الدروس والمذاكرات دون أنْ يرتعد لفجاعتها أحد. ثم يتابع المخرج تركيزه على التشويه الـمُمنهج للطفولة في مشاهد المارشات العسكرية التي تطوف شوارع المدينة، مكوّنةً من فتيانٍ باللباس العسكري، يذكّروننا مباشرةً بمسيرات "اتحاد شبيبة الثورة". ثم يمرّر المخرج بلقطاتٍ عابرة ملامحَ تشويه الفنون والذوق العام، فالأفلام المفضّلة هي الأفلام الحربية، والراديو يبثّ كلَّ يوم منجزات "القائد الفذ" متبوعةً بموسيقى عسكرية. وصولاً إلى تشويه علاقات الحبّ بين "كليو" و"فيرمين"، وكذلك بين السيدة التي تعمل لديها وزوجها، ففي ظلّ الاستبداد لا يمكن لعلاقات الحبّ أنْ تكون طبيعية، فهي مشوبةٌ بالعنف والظلم والاستغلال والطبقيّة. وهكذا ينقسم المجتمع -بما فيه العشاق والأزواج- إلى طبقتين عابرتين للطبقات التقليدية: 1) طبقة حاكمة سيّدة متسلّطة منتصرة ذكورية؛ 2) طبقة محكومة عبدة خاضعة مهزومة أنثوية.

لقد اختارَ المخرج أن يكون اليوم الذي أُجهضَ فيه حلم الثورة عبرَ ارتكاب مجزرة بالمتظاهرين، هو يوم ولادة "كليو" لطفلة ميتة، ليقول إنّ هذا النوع من العلاقات المشوّهة بتغوُّل الفاشية العسكرية، لا يمكن أنْ يُنجب طفلاً/ربيعاً/ أملاً، لأنها علاقات قمعية وقهرية وعقيمة.

وهنالك مشهدٌ لا بدّ من ذكره، حين يعودُ الزوج الذي هجرَ زوجته وأولاده إلى منزله لكي يأخذ أغراضه منه ويرحل، فيقوم بأخذ رفوف الكتب الخشبية، ويترك الكتبَ مكوَّمة على الأرض، مثلُه مثل الشبّيحة الذين مرّوا على بيوتنا. وهكذا تصيرُ الثقافة في الأرض، وتصير قيمةُ خشب الرفوف؛ أغلى وأهمّ من قيمة الكتب ومحتواها.